احتفل المسلمون يوم السبت بعيد الأضحى المبارك، بمن فيهم بالتأكيد زين الدين زيدان، أسطورة كرة القدم العالمية، الذي ينبغي أن نذكّر ليس فقط بأنه مسلم، بل بأنه صُنِّفَ أيضًا سنة 2016 من قِبل المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية في الأردن واحدًا من أكثر خمسمائة مسلم نفوذًا في العالم. غير أن النجم الفرنسي جزائري الأصل استقبل هذا العيد بذكرى غير سعيدة حدثتْ قبل ستة عشر عاما، وتحديدًا في التاسع من يوليو 2006م وما زال العالم يتذكرها إلى اليوم، وعندما أقول العالَم فإنني لا أبالغ البتة.
قبل هذا التاريخ حقق زيدان أهم ما يمكن أن يحلم به لاعب كرة قدم: كأس العالم عام 1998، وبطولة أمم أوروبا سنة 2000، إضافة إلى جائزة أفضل لاعب في العالم في الأعوام 1998، و2000، و2003م. وبعد هذا التاريخ أيضًا (التاسع من يوليو 2006 أعني) حقق زيدان أعظم ما يمكن أن يحلم به مدرب: أن يكون أول مدرب في العالم يفوز بدوري أبطال أوروبا ثلاث سنوات متتالية (2016، و2017، و2018م)، عدا فوزه مرتين بكأس العالم للأندية (2016، و2017)، ومثلهما بالدوري الإسباني (2017، و2020). ورغم هذه الإنجازات الاستثنائية له لاعبًا ومدربًا فإن أشهر ما يُذكَر به زيدان اليوم هو «»نطحته«» الشهيرة للاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي في نهائي مونديال ألمانيا 2006م الذي لعب فيه المنتخبان الفرنسي والإيطالي، وانتهى بفوز إيطاليا بالكأس بعد أن طُرِد زيدان في الدقيقة 110 بسبب هذه النطحة التي تكاد تلتصق باسمه، كالتفاحة حين نذكر نيوتن، أو القمر حين نذكر أرمسترونج.
آخر مرة لاحقتْ هذه النطحة زيدان كانت قبل نحو أسبوعين عندما سألته عنها صحيفة «ليكيب» الرياضية الفرنسية في ذكرى ميلاده الخمسين (في 23 يونيو 1972) فقال: إنه ليس فخورًا بما فعل لكنه يتقبله لأنه جزء من مسيرته الرياضية. وكان ماتيرازي قد تعمّد استفزاز زيدان بشتمه أخته، فثارت حمية نجم فرنسا وضربه برأسه على صدره. لكن زيدان ما كان ليستجيب لهذا الاستفزازات وهو على وشك كتابة تاريخ رياضي جديد لبلاده لولا أن ظروفًا عائلية أخرى تسببت في ذلك، فقد كانت والدتُه مريضة يوم المباراة، وكان قلِقًا عليها كما روى لصحيفة «ليكيب»، وقبلها بليلة تشاجر مع زوجته الإسبانية فيرونيكا فرنانديز التي روتْ ذلك في كتابها «زيدان: حياة سريّة» قائلة: إنه «كان عصبيًا ومتوتّرًا للغاية».
صدر كتاب فيرونيكا عام 2010، ويبدو أنه محاولة للاستفادة من «نطحة» زوجها مادّيًّا، ما دام «المنطوح» نفسه (وأعني به ماتيرازي) قد ألف كتابًا بعد ثلاثة أشهر فقط من الحادثة سمّاه «ماذا قلتُ حقيقةً لزيدان؟» وسُعِّرَ بثلاثة عشر دولارًا للنسخة الواحدة!، كما أخبرتنا بذلك صحيفة «التايمز» متسائلة: «هل سيَرُدّ زيدان بكتاب: «لماذا نطحتُ ماتيرازي؟».
لم يردّ زيدان بكتاب، لكن الكتب عن «نطحته» لم تتوقف منذ ذلك الحين. فبعد كتاب ماتيرازي بنحو شهرين صدر كتاب «كآبة زيدان» للأديب البلجيكي جان فيليب توسان، أو «ميلانخوليا زيدان» حسب ترجمة الشاعر التونسي أيمن حسن الذي كتب مراجعة عنه لصحيفة «العرب» اللندنية وترجم مقتطفات منه. عزا توسان ما فعله اللاعب الفرنسي إلى إصابته بالميلانخوليا: «ميلانخوليا زيدان [الذي هو] ميلانخوليائي الشخصية، أعرفها، غذيتها وأعاني منها»، ويقول في وصف الدقائق القليلة التي سبقتْ الحادثة: «منذ بداية الوقت الإضافي، ما انفك زيدان يعبّر عن قلقه بطريقة لا واعية مع شارة القيادة التي ما برحت تسقط، شارة القيادة تلك التي تتوسَعُّ والتي أمعن في شدِّها على ساعده بطريقة غير متقنة. هكذا يعبّر زيدان ورغما عنه عن رغبته في مغادرة الملعب والرجوع إلى غرفة تبديل الملابس. لم تعد له الإمكانيات، أو القوة، أو الطاقة، أو الإرادة للقيام بعمل جبار أخير، حركة أخيرة تكون الشكل الأكثر نقاوة -ضربة الرأس، وما أجملها من ضربة تلك التي صدّها بوفّون [حارس منتخب إيطاليا] بضع لحظات من قبل ستفتحُ عينيه نهائيا على وهنه الذي لا دواء له. يغيب عنه في الحاضر الشكل- وهذا ما لا يقبله أيّ فنان، لأننا ندرك العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الفن والميلانخوليا. إن كان غير قادر على شد الأذهان بهدف فسيتمكن من شد الأذهان».
بعد عدة أشهر من كتاب «كآبة زيدان»، صدر عام 2007 كتاب «الدقيقة 107» للكاتبة الفرنسية آن ديلبي، التي اختارت عنوانه من الدقيقة التي وقعت فيها حادثة «النطح» في المباراة الشهيرة. تقول ديلبي: إن ماتيرازي «كان واضحا أنه يوجه كلمات نابية، مثل تلك الكلمات التي تحرق الجلد مثل النار، بل التي تمس الدم ذاته»، ولأنها أيضًا مخرجة مسرحية فقد اختارت النظر إلى الموضوع من زاويتها المفضلة: التراجيديا الإنسانية؛ حيث «كان مصيرٌ تراجيديٌّ يرتسم ثانية بعد ثانية»، مشبّهة ما حدث بما كان يحدث في المسرح اليوناني: «كما لم يكن هناك من يستطيع أن يستغني عن المسرح في اليونان القديمة، ليس هناك من كان يستطيع أن يستغني عن كرة القدم في ذلك المساء»، وتستدعي ديلبي في مقاربتها لما حصل بين اللاعبَيْن حوارًا بين أخيل اليوناني وهكتور الطروادي ورد في ملحمة «الإلياذة» لهوميروس، حيث قال أخيل: «هكتور، توقّف أيها الملعون عن الحديث حول أية اتفاقات، فبيننا لا مكان لأية صداقة»، فكان جواب هكتور: «أخيل، أنت لست سوى متشدق بالكلام الجميل، أنت فنان في الكذب، وأنا قادم لقتلك».
وكما الأدب والمسرح كان للفلسفة أيضًا نصيب في الحديث عن «النطحة»، فها هو الفيلسوف الفرنسي أوليفيه بوريول يحللها في مقالته الشهيرة في جريدة «لوموند» الفرنسية بعنوان «في مديح المآثر السيئة»، وكان قد اختار ستة أخطاء شهيرة في عالم كرة القدم – سمّاها «المآثر السيئة» - ارتكبها نجوم معروفون ما كان ينبغي لهم أن يرتكبوها، ومن ضمنها الهدف الشهير باليد لمارادونا في مونديال 1986. كتب بوريول – كما ترجم عنه رامي زيدان لصحيفة النهار اللبنانية- أن نطحة زيدان «ليست حركة غير متعمدة أفلتت من صاحبها في لحظة غضب، بل بادرة مجنونة أدّاها صاحبها ببراعة مهندس لامع؛ ذلك أن زيدان لم يوجه النطحة إلى رأس ماتيرازي، بل إلى قلبه، بؤرة الشجاعة والغضب. وهي ضربة من الرأس الذي تعتمل فيه حسابات باردة وعقلانية، إلى الصدر العامر برغبات متنازعة ومشبوبة». وهنا أفتح قوسًا لأتذكّر أن أستاذ الفلسفة المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي تناول ثنائية الرأس والصدر هذه في مقالة له بجريدة الحياة اللندنية معتبرًا النطحة احتجاجًا على التمييز الذي يتعرض له الأوروبي من أصول متوسطية أو عربية أو إسلامية، ولعل استهداف الصدر بالضبط – يضيف بنعبدالعالي – «حركة ترمز إلى التنبيه إلى شيء يعتمل داخل كل أوروبي يعتقد أنه من أصول أوروبية قحة تنبيهًا له أن الأبصار لا تعمى وحدها، بل قد تعمى القلوب التي في الصدور». وربما من هنا تخيّل بوريول زيدان يقول لماتيرازي لحظة نطحه برأسه: «ربما سيفوز فريقك بكأس العالم لكن ما سيبقى في ذاكرة الناس صورة جسدك الضخم يهوي إلى الخلف ليقع على الأرض بشكل مضحك وستبقى في صدرك ذكرى هذه الضربة المفاجئة كوقع الصاعقة».
هذه الصورة الأخيرة التي تخيلها الفيلسوف الفرنسي جسدها فعليًّا الفنان الفرنسي جزائري المولد عادل عبدالصمد في نحته التمثال المسمى «ضربة رأس»، إذ أظهر زيدان وهو يغرز رأسه في صدر اللاعب الإيطالي الذي يكاد يهوى بالفعل للخلف. وقد عُرِض هذا العمل الفني لأول مرة في مركز «جورج بومبيدو» بالعاصمة الفرنسية باريس في مطلع أكتوبر 2012، وبقي في هذا المتحف حتى السابع من يناير 2013، ثم انتقل في أغسطس من العام نفسه إلى منطقة توسكان الإيطالية، وتحديدًا في مدينة بيراسانتا السياحية ليشاهده مواطنو «المنطوح» وزائرو إيطاليا، قبل أن يُنقل إلى قطر، حيث نُصب بكورنيش الدوحة في أكتوبر من العام نفسه، وبعدها عاد إلى مدينة أفينيون الفرنسية سنة 2016 ليبقى هناك حتى نوفمبر من عام 2018. ومؤخرًا أعلنت قطر رغبتها في إعادة نصبه في متحفها الرياضي الجديد قبل انطلاق المونديال.
لم تكن هذه مجرد نطحة إذن، ولا خطأ اعتياديًّا من لاعب كرة تجاه لاعب آخر. إنها أكثر بكثير من ذلك، وإلا لما ظلت حتى اليوم مثار النقاش والجدل والكتابات، يستلهمها الأدباء والفنانون، ويحللها الفلاسفة وعلماء النفس. يقول زيدان: إنه ليس فخورًا بها، لكنها ارتبطتْ باسمه وانتهى الأمر، ولم يستطع محوها حتى بما حققه بعدها من إنجازات كمدرب كبير يُشار إليه بالبنان، وستظل قرينة اسمه، شاء ذلك أم أبى.
قبل هذا التاريخ حقق زيدان أهم ما يمكن أن يحلم به لاعب كرة قدم: كأس العالم عام 1998، وبطولة أمم أوروبا سنة 2000، إضافة إلى جائزة أفضل لاعب في العالم في الأعوام 1998، و2000، و2003م. وبعد هذا التاريخ أيضًا (التاسع من يوليو 2006 أعني) حقق زيدان أعظم ما يمكن أن يحلم به مدرب: أن يكون أول مدرب في العالم يفوز بدوري أبطال أوروبا ثلاث سنوات متتالية (2016، و2017، و2018م)، عدا فوزه مرتين بكأس العالم للأندية (2016، و2017)، ومثلهما بالدوري الإسباني (2017، و2020). ورغم هذه الإنجازات الاستثنائية له لاعبًا ومدربًا فإن أشهر ما يُذكَر به زيدان اليوم هو «»نطحته«» الشهيرة للاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي في نهائي مونديال ألمانيا 2006م الذي لعب فيه المنتخبان الفرنسي والإيطالي، وانتهى بفوز إيطاليا بالكأس بعد أن طُرِد زيدان في الدقيقة 110 بسبب هذه النطحة التي تكاد تلتصق باسمه، كالتفاحة حين نذكر نيوتن، أو القمر حين نذكر أرمسترونج.
آخر مرة لاحقتْ هذه النطحة زيدان كانت قبل نحو أسبوعين عندما سألته عنها صحيفة «ليكيب» الرياضية الفرنسية في ذكرى ميلاده الخمسين (في 23 يونيو 1972) فقال: إنه ليس فخورًا بما فعل لكنه يتقبله لأنه جزء من مسيرته الرياضية. وكان ماتيرازي قد تعمّد استفزاز زيدان بشتمه أخته، فثارت حمية نجم فرنسا وضربه برأسه على صدره. لكن زيدان ما كان ليستجيب لهذا الاستفزازات وهو على وشك كتابة تاريخ رياضي جديد لبلاده لولا أن ظروفًا عائلية أخرى تسببت في ذلك، فقد كانت والدتُه مريضة يوم المباراة، وكان قلِقًا عليها كما روى لصحيفة «ليكيب»، وقبلها بليلة تشاجر مع زوجته الإسبانية فيرونيكا فرنانديز التي روتْ ذلك في كتابها «زيدان: حياة سريّة» قائلة: إنه «كان عصبيًا ومتوتّرًا للغاية».
صدر كتاب فيرونيكا عام 2010، ويبدو أنه محاولة للاستفادة من «نطحة» زوجها مادّيًّا، ما دام «المنطوح» نفسه (وأعني به ماتيرازي) قد ألف كتابًا بعد ثلاثة أشهر فقط من الحادثة سمّاه «ماذا قلتُ حقيقةً لزيدان؟» وسُعِّرَ بثلاثة عشر دولارًا للنسخة الواحدة!، كما أخبرتنا بذلك صحيفة «التايمز» متسائلة: «هل سيَرُدّ زيدان بكتاب: «لماذا نطحتُ ماتيرازي؟».
لم يردّ زيدان بكتاب، لكن الكتب عن «نطحته» لم تتوقف منذ ذلك الحين. فبعد كتاب ماتيرازي بنحو شهرين صدر كتاب «كآبة زيدان» للأديب البلجيكي جان فيليب توسان، أو «ميلانخوليا زيدان» حسب ترجمة الشاعر التونسي أيمن حسن الذي كتب مراجعة عنه لصحيفة «العرب» اللندنية وترجم مقتطفات منه. عزا توسان ما فعله اللاعب الفرنسي إلى إصابته بالميلانخوليا: «ميلانخوليا زيدان [الذي هو] ميلانخوليائي الشخصية، أعرفها، غذيتها وأعاني منها»، ويقول في وصف الدقائق القليلة التي سبقتْ الحادثة: «منذ بداية الوقت الإضافي، ما انفك زيدان يعبّر عن قلقه بطريقة لا واعية مع شارة القيادة التي ما برحت تسقط، شارة القيادة تلك التي تتوسَعُّ والتي أمعن في شدِّها على ساعده بطريقة غير متقنة. هكذا يعبّر زيدان ورغما عنه عن رغبته في مغادرة الملعب والرجوع إلى غرفة تبديل الملابس. لم تعد له الإمكانيات، أو القوة، أو الطاقة، أو الإرادة للقيام بعمل جبار أخير، حركة أخيرة تكون الشكل الأكثر نقاوة -ضربة الرأس، وما أجملها من ضربة تلك التي صدّها بوفّون [حارس منتخب إيطاليا] بضع لحظات من قبل ستفتحُ عينيه نهائيا على وهنه الذي لا دواء له. يغيب عنه في الحاضر الشكل- وهذا ما لا يقبله أيّ فنان، لأننا ندرك العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الفن والميلانخوليا. إن كان غير قادر على شد الأذهان بهدف فسيتمكن من شد الأذهان».
بعد عدة أشهر من كتاب «كآبة زيدان»، صدر عام 2007 كتاب «الدقيقة 107» للكاتبة الفرنسية آن ديلبي، التي اختارت عنوانه من الدقيقة التي وقعت فيها حادثة «النطح» في المباراة الشهيرة. تقول ديلبي: إن ماتيرازي «كان واضحا أنه يوجه كلمات نابية، مثل تلك الكلمات التي تحرق الجلد مثل النار، بل التي تمس الدم ذاته»، ولأنها أيضًا مخرجة مسرحية فقد اختارت النظر إلى الموضوع من زاويتها المفضلة: التراجيديا الإنسانية؛ حيث «كان مصيرٌ تراجيديٌّ يرتسم ثانية بعد ثانية»، مشبّهة ما حدث بما كان يحدث في المسرح اليوناني: «كما لم يكن هناك من يستطيع أن يستغني عن المسرح في اليونان القديمة، ليس هناك من كان يستطيع أن يستغني عن كرة القدم في ذلك المساء»، وتستدعي ديلبي في مقاربتها لما حصل بين اللاعبَيْن حوارًا بين أخيل اليوناني وهكتور الطروادي ورد في ملحمة «الإلياذة» لهوميروس، حيث قال أخيل: «هكتور، توقّف أيها الملعون عن الحديث حول أية اتفاقات، فبيننا لا مكان لأية صداقة»، فكان جواب هكتور: «أخيل، أنت لست سوى متشدق بالكلام الجميل، أنت فنان في الكذب، وأنا قادم لقتلك».
وكما الأدب والمسرح كان للفلسفة أيضًا نصيب في الحديث عن «النطحة»، فها هو الفيلسوف الفرنسي أوليفيه بوريول يحللها في مقالته الشهيرة في جريدة «لوموند» الفرنسية بعنوان «في مديح المآثر السيئة»، وكان قد اختار ستة أخطاء شهيرة في عالم كرة القدم – سمّاها «المآثر السيئة» - ارتكبها نجوم معروفون ما كان ينبغي لهم أن يرتكبوها، ومن ضمنها الهدف الشهير باليد لمارادونا في مونديال 1986. كتب بوريول – كما ترجم عنه رامي زيدان لصحيفة النهار اللبنانية- أن نطحة زيدان «ليست حركة غير متعمدة أفلتت من صاحبها في لحظة غضب، بل بادرة مجنونة أدّاها صاحبها ببراعة مهندس لامع؛ ذلك أن زيدان لم يوجه النطحة إلى رأس ماتيرازي، بل إلى قلبه، بؤرة الشجاعة والغضب. وهي ضربة من الرأس الذي تعتمل فيه حسابات باردة وعقلانية، إلى الصدر العامر برغبات متنازعة ومشبوبة». وهنا أفتح قوسًا لأتذكّر أن أستاذ الفلسفة المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي تناول ثنائية الرأس والصدر هذه في مقالة له بجريدة الحياة اللندنية معتبرًا النطحة احتجاجًا على التمييز الذي يتعرض له الأوروبي من أصول متوسطية أو عربية أو إسلامية، ولعل استهداف الصدر بالضبط – يضيف بنعبدالعالي – «حركة ترمز إلى التنبيه إلى شيء يعتمل داخل كل أوروبي يعتقد أنه من أصول أوروبية قحة تنبيهًا له أن الأبصار لا تعمى وحدها، بل قد تعمى القلوب التي في الصدور». وربما من هنا تخيّل بوريول زيدان يقول لماتيرازي لحظة نطحه برأسه: «ربما سيفوز فريقك بكأس العالم لكن ما سيبقى في ذاكرة الناس صورة جسدك الضخم يهوي إلى الخلف ليقع على الأرض بشكل مضحك وستبقى في صدرك ذكرى هذه الضربة المفاجئة كوقع الصاعقة».
هذه الصورة الأخيرة التي تخيلها الفيلسوف الفرنسي جسدها فعليًّا الفنان الفرنسي جزائري المولد عادل عبدالصمد في نحته التمثال المسمى «ضربة رأس»، إذ أظهر زيدان وهو يغرز رأسه في صدر اللاعب الإيطالي الذي يكاد يهوى بالفعل للخلف. وقد عُرِض هذا العمل الفني لأول مرة في مركز «جورج بومبيدو» بالعاصمة الفرنسية باريس في مطلع أكتوبر 2012، وبقي في هذا المتحف حتى السابع من يناير 2013، ثم انتقل في أغسطس من العام نفسه إلى منطقة توسكان الإيطالية، وتحديدًا في مدينة بيراسانتا السياحية ليشاهده مواطنو «المنطوح» وزائرو إيطاليا، قبل أن يُنقل إلى قطر، حيث نُصب بكورنيش الدوحة في أكتوبر من العام نفسه، وبعدها عاد إلى مدينة أفينيون الفرنسية سنة 2016 ليبقى هناك حتى نوفمبر من عام 2018. ومؤخرًا أعلنت قطر رغبتها في إعادة نصبه في متحفها الرياضي الجديد قبل انطلاق المونديال.
لم تكن هذه مجرد نطحة إذن، ولا خطأ اعتياديًّا من لاعب كرة تجاه لاعب آخر. إنها أكثر بكثير من ذلك، وإلا لما ظلت حتى اليوم مثار النقاش والجدل والكتابات، يستلهمها الأدباء والفنانون، ويحللها الفلاسفة وعلماء النفس. يقول زيدان: إنه ليس فخورًا بها، لكنها ارتبطتْ باسمه وانتهى الأمر، ولم يستطع محوها حتى بما حققه بعدها من إنجازات كمدرب كبير يُشار إليه بالبنان، وستظل قرينة اسمه، شاء ذلك أم أبى.