من المقولات المنسوبة إلى مهاتما غاندي المقولة التالية: «يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليه رياح كلّ الثقافات، بشرط ألا تقتلعني من جذوري».

للمؤلف حامد بن جمعان باوزير صدر عن بورصة الكتب في القاهرة الطبعة الأولى 2022م من كتاب «الحياة الاجتماعية في ظفار»، وأهدى المؤلف كتابه المكون من مقدمة وثمانية عشر فصلا إلى والده العزيز.

يُمكن قراءة هذا الكتاب من عدة مستويات؛ فالباحث في أنثربولوجيا الثقافة سيجد فيه بعض ما يبحث عنه، وكذلك المهتم بقطبي الأصالة والمعاصرة وما يجري بينهما من انثيال مفرط للذاكرة وتداعيات الحنين إلى الماضي، سيستعيد مع هذا الكتاب زمنا مضى. أما المستوى الذي أتجه إليه لقراءة الكتاب سيكون في المستوى الخاص بالمفهوم العام للعولمة الثقافية.

تصرخ المجتمعات منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار منظومته العسكرية، وظهور ما يُعرف بمنظمة التجارة العالمية في جنيف خائفة على خشية اختفاء موروثها الثقافي وذوبان تقاليدها المتوارثة عبر أجيال في ثقافات عالمية أخرى. ويرجع سبب الصراخ إلى التأثيرات السلبية للعولمة التي طالت خصائص الثقافات المحلية. فالانتقال من مجتمع صغير كان يُعتمد فيه على الصيد والزراعة والحياة البسيطة، إلى مجتمع معاصر صارت التقنية والثورة المعلوماتية أحد مرتكزاته الحضارية، من شأنه أن يُحدث زلزلة في القيم والأفكار.

لقد تعرضت مجتمعات الخليج شأنها في ذلك شأن مجتمعات الوطن العربي منذ استقلالها السياسي إلى العديد من التأثيرات الاقتصادية والمتغيرات الاجتماعية. يكتب الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم في كتابه التأسيسي «المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج» حول انشغال المؤلفين المسرحيين في مجتمعات الخليج بتأثير تلك المتغيرات على مسرح أهل الخليج قائلا: «ربما لم تحتف حركة مسرحية في الوطن العربي بالتغير الاجتماعي كما احتفت به المسرحية في مجتمع الخليج العربي؛ لأن المجتمعات العربية الأخرى لم تواجه ظواهر الانقسام والتوتر والصراع والقلق وعدم التوازن التي خلقها ظهور النفط وانقلاب نمط الإنتاج في فترة وجيزة من الزمن. ولا نعني بظهور النفط مجرد المادة الخام وإنما نعني به محركا أساسيا لتطور النظام الاجتماعي والسياسي في ذلك المجتمع.»

الناظر إلى مفهوم العولمة الثقافية يجدها ذات اشتغالات متعددة، ويُعرِّفها الدكتور خالد بن عبدالله القاسم في دراسته المعّدة والمعنونة «العولمة الثقافية وأثرها على الهوية» على النحو التالي: إن العولمة هي «وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقاربا؛ مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال، والمواصلات، والفضائيات، والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سُلطة القطب الواحد [أمريكا بقيادة صهيونية] الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه، كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته.»

وعليه، يمكن عدّ كتاب «الحياة الاجتماعية في ظفار» أحد الكتب الساعية إلى مناقشة مفهوم الهوية الثقافية في ظل جميع المتغيرات الحاصلة اليوم في العالم. فالباحث خصص فصولا منوعة تناول فيها بعض الجوانب للحياة الاجتماعية التي لا يعرفها الجيل الجديد من ذلك مثلا: عادات الزواج والحمل والعزاء وتقويم النجوم. وإذا كان هذا الطرح لم يعمد المؤلف إلى مناقشته بالتحليل، بل اكتفى بالرصد والتوثيق، إلا أن القارئ المنتبه سيستنتج مفهوم الهوية الثقافية في ثنايا مجمل فصول الكتاب، إضافة إلى الإشارات الضمنية لمخاطر العولمة الثقافية.

في الجلسة النقاشية التي أقامتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في ظفار، لمناقشة هذا الكتاب، تنبه المهتمون إلى أهمية نشر هذا النوع من المؤلفات الجادّة، لاسيما، وأن مفردات الحياة التقليدية باتت أحد أنواع التزيين. ليس شرطا أن تعود مظاهر الحياة الاجتماعية السابقة، فهذا طرح خاطئ وضد الزمن وعجلة التطور في العالم، لكن استقبال ما تسعى العولمة الثقافية إلى تثبيته في الحياة يستدعي وجود مفهوم علمي للتراث وللهوية، وأن ينعكس المفهوم في تفاصيل المعيشة اليومية. لعل هذا الخوف والحاجة إلى قراءة التراث وأخذ ما يفيد المجتمعات البشرية في كل مكان، وليس حكرا على ظفار، ما دفع الدكتور سعد البازعي أن ينظر للعولمة بأنها «استعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة، أو مخالب عسكرية واضحة»، ويمكن أن يتبدى هذا الاستعمار في أشكال متداخلة يجري من خلالها نعت التراث كلّه بالتخلّف أو الازدراء، أو الرفض، وفي مقابل ذلك تنتشر الجوانب السلبية المبنية على المحاكاة العمياء لأبجديات الاستعمار. إن أظهر هذا النوع من الاستعمار الذي تتعرض له المجتمعات يتجسّد في واقع اللغة عبر الإكراه على المشاركة في العالمية.

ليس خاف على المختصين لأهداف الاستعمار في فرض معاييره الاقتصادية عبر استخدام السلع وتبادل المنتوجات وتسيّد النمط الثقافي الأعلى هيمنة في العالم، سواء كان المنتج أمريكيا أو صينيا. وفي هذا السياق يتنزّل توصيف الدكتور محمد عابد الجابري بأن العولمة تعني «نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي، والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك.» في دلالة كبيرة للغاية.

إن الناظر إلى أبعاد العلاقة القائمة بين اللغة والعولمة، يحرص على تأكيد مسألة كونية واضحة؛ أن اللغات هي وسيلة الترابط والتعايش والتحاور والتقارب والتعارف بين شعوب العالم. وفي ظفار حيث تتعايش اللغة في البيئات الثلاث أخذت تطرأ بسبب التقنية لغة خاصة بالعربية الفصحى تستند إلى اختصارات عجيبة، وقبل ذلك، منذ أخذت القوى العاملة الآسيوية القدوم إلى عمان، واحتلت مكانها في السوق، صار المجتمع يلجأ إلى النطق بآلية مستهجنة مع العامل الآسيوي، فلا هي لهجة محلية ولا عربية فصحى، بل بين البين!

وعطفا على كتاب «الحياة الاجتماعية في ظفار» يمكن تسجيل بضع مآخذ تتمثّل في غياب الرؤية والمنهج في إعداد الكتاب للتأليف، ويظهر ذلك في العنوان الواسع للكتاب، الذي أوقع الباحث في محصلّة النسبة والتناسب حول العادات التي أفرد لها صفحات كثيرة (الزراعة وعادتها) مقابل الفصول الأخرى، بالإضافة إلى ذلك غياب ثبت بالمراجع والدراسات السابقة التي تناولت العديد من مظاهر الحياة الاجتماعية في ظفار.

يلفتنا الكاتب المُعّد في المقدمة إلى تأثير البيئة على الإنسان فإذا كانت ظفار تنقسم إلى ثلاث بيئات رئيسة هي الساحل والجبل والنجد، فمن الطبيعي أن تتأسس العلاقة بين المكان والإنسان على التأثير والتأثر والاشتباك والإنتاج والبقاء. فيكتب باوزير: «عاش السكان في هذه البيئات منذ زمن بعيد، وتأثروا بها وبما فيها من طبيعة [...] حتى أنهم تأثروا بطبيعة الكبرياء المأخوذة من الإبل.» وأعتقد أن هذه الصورة لما فيها من جماليات يمكنها الكشف عن العديد من خصائص علاقة الإنسان في ظفار بأشكال التراتبية الاجتماعية التي تستند إليها بعض أنواع التجارة والأنساب والمصاهرة. وفي تأثر الإنسان بالإبل إشارة عميقة إلى الصلابة التي عاشها الإنسان في المجتمع والتغلّب على الظروف البيئية المحيطة به والاعتقاد بقوة الطبيعة الخفية على الإنسان، لذلك وجد السرد والشعر بيئة خصبة وثرية لأنسنة ما حوله من عناصر وتكوينات، ويمكن أن يدخل هذا الفعل من باب أسئلة الطبيعة وفلسفة فهم الحياة والموت.

ختاما إذا كانت المكتبة العربية تعد كتاب «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» للرحالة ابن بطوطة مرجعا للباحثين والمهتمين بتاريخ المنطقة، فإن كتاب «الحياة الاجتماعية في ظفار» لحامد باوزير، يُعد مرجعا مضافا إلى ما سبقه من المؤلفات، بما يحفل به من فصول أراها مهمة للأجيال.