أستطيع الآن، بعد نصف قرن على اغتياله، أن أتخيله وهو يؤثث الكتابة عُشا لأسباب الموت، يفاوض ما تبقى من وقت حياته في ساعة الظل لكتابة رواية جديدة عن شيء جديد، عن شيء لم تعثر عليه الكلمات بعد وسط حطام الواقع وازدهار الواقعية، أتخيله يكتشف موهبة جديدة من مواهبه المبدعة، غير الكتابة والرسم والسخرية والحب. أتخيله هناك، قبل خمسين عاما، في بيروت التي تحبس أنفاسها المختنقة بالطوائف الدينية والأحزاب السياسية قُبيل اندلاع الحرب الأهلية، أتخيله كأصدق الفلسطينيين غضبا في تلك المرحلة المشحونة بالحوادث والانشقاقات التي جرَّتها الثورة معها من الأردن بعد معارك «أيلول الأسود». ذاك هو غسان كنفاني، أو بعض من كله، غسان الذي يُطيل ليل النوافذ حتى نختصم أكثر حول صورته ونشتبك في رسم ملامحه بكُحل هذا الليل، بينما ينام ملء جفونه في كتلة هواء تتحرك بين السماء والأرض.
في صباح عادي بحي الحازمية في بيروت، يصحو غسان مع ابنة أخته لميس تحت شمس يوليو من عام ١٩٧٢. يركبان السيارة فيدير محركها لينفجر المشهد أشلاءً تتفرق فوق الشجر والطير، في الغمام والكلام، شظايا رواية يصعب تركيبها من جديد في جملة واحدة، وفكرة تبحث عن حطام جسدها المنسوف على الطريق إلى فضاء الأبدية، فالفكرة لا تحيا حتى تخلع جسدها الثقيل على الأرض فتصير ملكية عامة في قلوب الناس. شاهدا ومشهود يموت كأنه أحد أبطاله العاديين جدا والمألوفين كثيرا، يتطاير محتفلا بانفجاره مع الطفلة لميس التي لطالما أحبها وكتب إليها ورسم لها.
أغوانا واهتدى وحده للسبيل، وإلى نهايته المصممة بعناية أعدائه، تلك النهاية التي لا تليق إلا بأمثاله، فلم يكن غسَّان يستحق أقل من ذلك الموت حتى يكتمل كمشروع. لاعب موته ولاطفه، ودوَّن في مفكرته: «كلنا نفكر بأشياء خطيرة، ورغم ذلك فإننا لا نعرض حياتنا للنهاية بمجرد أننا نفكر بأشياء خطيرة. لكن الشيء الخطير الذي كنت أفكر فيه هو تعريض حياتي للنهاية». كان يدَّخر موته موقوتا تحت سيارته، ليوم يعزُّ فيه الموت على الحر وتغدو فيه الحياة إهانة يمنُّ بها الوقت الشحيح على الجبناء، وقبل سنوات من ذلك كان قد كتب: «إنني أريق جزءا من احتمالي وإنسانيتي وسعادتي من أجل أن أعيش... وإنه لثمن باهظ حتما أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم والقرف والنكتة. إنه لثمن باهظ بلا شك أن يشتري حياته اليومية بموت يومي». لكن قلبه لم يكن مضبوطا إلا وفق مواعيد الأرض.
الآن دعني أسألك عن الثورة: ما الثورة يا غسان؟ أزعم أنك جدير بسؤال كهذا. أهي يأسٌ ينضج تحت جلد المراحل فيحرقها، أم بأسُ مَن لم يعد لديه ما يخسره، فما زال يصقل الهشاشة ويشحذ الضعف حتى يغوينا بجمال المستضعفين الآسر في شاشة السينما؟ أعتقد أنك أكملت إجابتك يوم أن اكتملت بزواج اليأس والأمل اللذين تحاورا في سيرتك طويلا، من عكا إلى بيروت، لكنهما اتفقا في النهاية على حتفك. لم تؤمن يوما بثورة لم تأخذ حصتها الكافية من رماد اليأس، لأن الثورة بلا يأس هي ثورة بلا حلم، لا تعرف كيف تميز بين الأحلام والأوهام، ولا كيف تشتقُّ الخيال من محاجر واقعها الصامت.
غسان، أيها الطاقة التي لا تفنى، بل تُستحدث في حبر يسيل على ورق أبيض. اللاجئ الذي تعلَّم الكتابة فأهداها لنا طازجة المعنى والمبنى، كبرنا معها حتى فشلنا في أن نكبر عليها، كأن تجاوزها يهددنا باليُتم. فكيف له أن يتوغل في الأجيال المتعاقبة هكذا، ليس ككاتب شهيد فحسب بل بوصفه أسلوبا حيا ومتمددا يتجاوز الكتابة في الخنادق والمعارك الصحفية إلى كتابة الحياة؟ غسان، يا ابن اللغة الطارئة التي تحولت إلى خيام، يابن الخيام التي تحولت إلى جدران مسقوفة بصفائح الزينكو، تكلَّم فثمة ما ينبغي أن يُقال.
تأتي الكتابة عنك بغير تخطيط مسبق، تكتشف دروبها المتشعبة على الورق وتكتشفك في غبش المعاني. توزعك فوق جغرافيا اللغة بين ضمير الغائب وضمير المخاطب، فأنت هو، الغائب الذي أعددنا له المراثي كلها فور عودتنا من جنازته، وذلك قبل أن يفاجئنا بحضوره ويخذل أجمل مراثي أصدقائه وقرائه. كيف لحضورك أن يطغى على صفحات الكلام والكتابة الجديدة، في تويتر وفيسبوك، ما إن تُستدعى الحكاية الفلسطينية، في وقت كدنا نظن فيه أن هذه الفورة التقنية الهائجة لم تأتِ إلا على سبيل الملهاة لتذهب بالشباب العربي نحو قطيعة جديدة مع تراثهم القومي المكتوب بالدم والحبر... كيف للاسم أن يتحول بعد انفجار المسمى إلى عنوان عريض من عناوين فلسطين الخالدة؟!
تخيل أيها القارئ أنه صار بالإمكان القول بكل الثقة، بعد خمسين عاما مرت في طرفة عين من عمر الأدب العربي: إن الكتابة عن غسان كنفاني صارت حدثا كلاسيكيا جدا. تخيل إلى أي درجة تجذر هذا المصاب بالكتابة والسكري والأرق في ذاكرة كل من يتحدث ويكتب ويرسم ويغني عن فلسطين ولفلسطين! غسان أصبح موضوعا كلاسيكيا، وهذا حظ الأسطورة في الأدب.
في صباح عادي بحي الحازمية في بيروت، يصحو غسان مع ابنة أخته لميس تحت شمس يوليو من عام ١٩٧٢. يركبان السيارة فيدير محركها لينفجر المشهد أشلاءً تتفرق فوق الشجر والطير، في الغمام والكلام، شظايا رواية يصعب تركيبها من جديد في جملة واحدة، وفكرة تبحث عن حطام جسدها المنسوف على الطريق إلى فضاء الأبدية، فالفكرة لا تحيا حتى تخلع جسدها الثقيل على الأرض فتصير ملكية عامة في قلوب الناس. شاهدا ومشهود يموت كأنه أحد أبطاله العاديين جدا والمألوفين كثيرا، يتطاير محتفلا بانفجاره مع الطفلة لميس التي لطالما أحبها وكتب إليها ورسم لها.
أغوانا واهتدى وحده للسبيل، وإلى نهايته المصممة بعناية أعدائه، تلك النهاية التي لا تليق إلا بأمثاله، فلم يكن غسَّان يستحق أقل من ذلك الموت حتى يكتمل كمشروع. لاعب موته ولاطفه، ودوَّن في مفكرته: «كلنا نفكر بأشياء خطيرة، ورغم ذلك فإننا لا نعرض حياتنا للنهاية بمجرد أننا نفكر بأشياء خطيرة. لكن الشيء الخطير الذي كنت أفكر فيه هو تعريض حياتي للنهاية». كان يدَّخر موته موقوتا تحت سيارته، ليوم يعزُّ فيه الموت على الحر وتغدو فيه الحياة إهانة يمنُّ بها الوقت الشحيح على الجبناء، وقبل سنوات من ذلك كان قد كتب: «إنني أريق جزءا من احتمالي وإنسانيتي وسعادتي من أجل أن أعيش... وإنه لثمن باهظ حتما أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم والقرف والنكتة. إنه لثمن باهظ بلا شك أن يشتري حياته اليومية بموت يومي». لكن قلبه لم يكن مضبوطا إلا وفق مواعيد الأرض.
الآن دعني أسألك عن الثورة: ما الثورة يا غسان؟ أزعم أنك جدير بسؤال كهذا. أهي يأسٌ ينضج تحت جلد المراحل فيحرقها، أم بأسُ مَن لم يعد لديه ما يخسره، فما زال يصقل الهشاشة ويشحذ الضعف حتى يغوينا بجمال المستضعفين الآسر في شاشة السينما؟ أعتقد أنك أكملت إجابتك يوم أن اكتملت بزواج اليأس والأمل اللذين تحاورا في سيرتك طويلا، من عكا إلى بيروت، لكنهما اتفقا في النهاية على حتفك. لم تؤمن يوما بثورة لم تأخذ حصتها الكافية من رماد اليأس، لأن الثورة بلا يأس هي ثورة بلا حلم، لا تعرف كيف تميز بين الأحلام والأوهام، ولا كيف تشتقُّ الخيال من محاجر واقعها الصامت.
غسان، أيها الطاقة التي لا تفنى، بل تُستحدث في حبر يسيل على ورق أبيض. اللاجئ الذي تعلَّم الكتابة فأهداها لنا طازجة المعنى والمبنى، كبرنا معها حتى فشلنا في أن نكبر عليها، كأن تجاوزها يهددنا باليُتم. فكيف له أن يتوغل في الأجيال المتعاقبة هكذا، ليس ككاتب شهيد فحسب بل بوصفه أسلوبا حيا ومتمددا يتجاوز الكتابة في الخنادق والمعارك الصحفية إلى كتابة الحياة؟ غسان، يا ابن اللغة الطارئة التي تحولت إلى خيام، يابن الخيام التي تحولت إلى جدران مسقوفة بصفائح الزينكو، تكلَّم فثمة ما ينبغي أن يُقال.
تأتي الكتابة عنك بغير تخطيط مسبق، تكتشف دروبها المتشعبة على الورق وتكتشفك في غبش المعاني. توزعك فوق جغرافيا اللغة بين ضمير الغائب وضمير المخاطب، فأنت هو، الغائب الذي أعددنا له المراثي كلها فور عودتنا من جنازته، وذلك قبل أن يفاجئنا بحضوره ويخذل أجمل مراثي أصدقائه وقرائه. كيف لحضورك أن يطغى على صفحات الكلام والكتابة الجديدة، في تويتر وفيسبوك، ما إن تُستدعى الحكاية الفلسطينية، في وقت كدنا نظن فيه أن هذه الفورة التقنية الهائجة لم تأتِ إلا على سبيل الملهاة لتذهب بالشباب العربي نحو قطيعة جديدة مع تراثهم القومي المكتوب بالدم والحبر... كيف للاسم أن يتحول بعد انفجار المسمى إلى عنوان عريض من عناوين فلسطين الخالدة؟!
تخيل أيها القارئ أنه صار بالإمكان القول بكل الثقة، بعد خمسين عاما مرت في طرفة عين من عمر الأدب العربي: إن الكتابة عن غسان كنفاني صارت حدثا كلاسيكيا جدا. تخيل إلى أي درجة تجذر هذا المصاب بالكتابة والسكري والأرق في ذاكرة كل من يتحدث ويكتب ويرسم ويغني عن فلسطين ولفلسطين! غسان أصبح موضوعا كلاسيكيا، وهذا حظ الأسطورة في الأدب.