تحدثنا في المقالة الماضية، الأسبوع المنصرم عما حدث من صدام بين المثقفين والفلاسفة في أوروبا، وبين الكنيسة الكاثوليكية، من الاختلاف معها والمتعلق بالصلاحيات التي منحتها لنفسها دون أن تكون ممنوحة مع ظهور الديانة المسيحية، وأصبحت جزءًا منها، وأدى كما هو معروف إلى إقصاء تدخلات القساوسة في قضايا العلم والسياسة والاختراع، مما نتج عنه من الصراع الذي جرى، ووصل حتى المساس بالدين وإثارة الشبهات حول حقيقته، من بعض الفلاسفة والمثقفين وهو كما أشرنا في مقالنا الماضي كردة فعل على ممارسات الكنيسة التي حالت دون النهضة الفكرية والعلمية، مع أن الأديان بريئة مما يجري من قضايا خارجة عن قيمه الأساسية، ونتيجة لما قامت به من أعمال مخالفة لوضعها الديني كديانة روحية، مما انعكس سلبيًا على وضع المسيحية وتجريدها من الكثير من صلاحيتها حتى الممنوحة لها.

وبرز نتيجة لذلك مفهوم التنوير أو عصر الأنوار، باعتباره المفهوم الذي شاع في ذلك العصر، بعد تراجع مهام القساوسة بعد الإقصاء والتحجيم لدورهم الذي منحوه لأنفسهم، فالبعض من الباحثين العرب والمسلمين، أعتبر أن مفهوم التنوير جاء -كما قيل- بعدما تعرّف الغربيون على فلسفة وفكر ابن رشد، وما حمله من أفكار تنويرية ونهضة فكرية، واعتبر بعض المفكرين الغربيين الواقعين تحت وصاية الكنسية التي لا تعطي مجالاً للتغيير والتجديد للمضامين التي تدعو للتقدم، أنهم تقبلوا ما طرحه ابن رشد من أفكار جديدة، برزت عنه في عصر التقدم العربي/ الإسلامي في النهضة والحضارة، في شتى مجالاتها، وتأثروا بفكره عن فكر ـ ابن رشد ـ وظهرت حركة في الغرب سمّيت بـ(الرشدية اللاتينية)، وهي مجموعة من المثقفين الغربيين بعد اطلاعهم على الجديد القادم من الشرق بعد ترجمتهم لابن رشد واعتبروه ملهمًا لنظرتهم الجديدة.

لكن هذه الحركة الفكرية من المفكرين الغربيين، التي تبنت هذا الفكر التنويري كما قالوا، ونتيجة للصراع الذي جرى مع الكنيسة، حولوا الرؤية التنويرية الرشدية إلى مسار آخر مخالف لفكر ابن رشد ورؤيته الفكرية، في مسألة المقاربة بين العقل والدين، وفي بحث للأكاديمي الجزائري/ الفرنسي د.محمد أركون الذي يحمل عنوان (ابن رشد رائد الفكر العقلاني) ـ (مع أنه لا يخفي انحيازه للفكر الغربي ونظرياته الفكرية والفلسفية) ـ أكد في هذا البحث على الدور الذي لعبه هذا الفيلسوف المسلم في الغرب، وتأثيره في تنوير الفكر العقلاني في فترة الركود والتخلف العلمي والفكري في الغرب، لكن كما قال محمد أركون حصل العكس: «لقد بتر المسيحيون اللاتينيون، وعلى أثرهم «أرنست رينان» فكر ابن رشد عندما لم يروا فيه إلا الشارح لأرسطو». لكن محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، وعبدالله العروي وغيرهم، ومع كل ما حصل من أفكار ومن ظلم وتجاهل للمنجزات العلمية والفكرية للعرب والمسلمين، فقد أصبحوا تابعين وناقلين لما يتم بطرح من الغرب من أراء وأفكار ونظريات في الغرب دون نقد جدي وفرز وتقييم، وانطلقوا يتحدثون بكل جرأة يقولون، إن وضعنا لا بد أن يمر بمرحلة ما حدث في الغرب من إقصاء التراث العربي / الإسلامي، ووصل حتى إلى النصوص الدينية القطعية، من حيث إخضاعها للفكر الغربي وفق نفس الطرق والوسائل، وما تولد عنه من صراع بين الدين والعلم وخاصة مع الكنسية، ويرون أننا يجب أن نقبل منهم كل فكرهم ونظرياتهم، دون مراجعة أو رفض لما جرى من تنوير بمفهومه الأوروبي، إن أردنا التقدم والنهضة في وطننا العربي، وهذا سنناقشه في حديث آخر.

وهذا التنوير الذي يرونه الجدير بالاتباع والانحياز له، انقلب كما أشرنا عن الرؤية الرشدية تماما -إن صح هذا الاعتقاد- وأن الاستنارة التي تحدثوا عنها بعد القرن الثامن عشر، جرت بعدها الفضائع، بما يشبه الانقلاب على فكرة التنوير نفسه، منها الحربين الكونيتين بين الغربيين أنفسهم، وقبلها اجتاحوا الكثير من دول العالم لينهبوها ويستعمروها، ووصل إلى حد الاستيطان البشري، كما حدث في الجزائر وفي غيرها، وخلّف الملايين من القتلى والجرحى عندما أرادت شعوب هذه الدول الاستقلال وخروج المحتل، وكل هذا ومفهوم التنوير وحقوق الإنسان المبرر لهذه الاجتياحات والممارسات الفظيعة، وقد اعترف العديد من الفلاسفة الغربيين بهذا الانحراف الكبير في مضمون التنوير الغربي، وما نتج عنه من مآسٍ كثيرة جدا في مسار ما يطلق عليه النهضة الحديثة.

فمنذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ بعض الفلاسفة الغربيين ينتقدون فكر التنوير، ومن أسس هذا الفكر، أو ما سمى بفكر: (ما بعد الحداثة، الذي جاء ناقدًا للحداثة نفسها، ومسؤوليتها عما جرى للبشرية أثار مدمرة للإنسان والبيئة، وهذه الآراء جاءت من مفكرين وفلاسفة غربيين أنفسهم، وبرز هذا النقد ـ كما يقول د. غانم هنا ـ فـ: «في فرنسا ـ مهد ما سمي بـ(عصر التنوير) ـ بشكل خاص ظاهرة (الفلاسفة الجدد) الذين أرجعوا مآسي البشرية والرعب الذي عم في حروب بعض الدول الأوروبية إلى جذور غذتها أعمال مفكري التنوير، ومنهم إيمانويل كنت، ويوهان جوتليب فخته وجيورج فيلهلم فريدريخ هيجل وآخرون، إذ يحمل «الفلاسفة الجدد» بؤس البشرية، من فظائع الثورة الفرنسية مرورًا بالثورة البلشفية وحتى الحربين العالميتين، لا بل كل ما ارتكب من جرائم بحق الإنسانية، يحملون التنوير المسؤولية عنه، يقول أحد ممثلي هذا الاتجاه: «لقد استعمرت فلسفة الأنوار والعقل الأوروبي العالم وأقامت مطبخًا فكريًا يبني الثورات على دماء الآخرين».

وهذا ما برز عن عصر التنوير، الذي اعتبره البعض قمة العقلانية والتسامح والحقوق الإنسانية، لكن الأمر اختلف ما بين القول والممارسة الواقعية وهذا ما أشار إليه الأكاديمي العربي المعروف عبدالوهاب المسيري إذ اعتبر «التنوير في كثير من الأوجه مع الهجوم العنيف الذي شنته الدراسات التاريخية في القرن العشرين ضد أنصار الفلسفة المادية عمومًا و«جوليان دو لاميتري» خصوصًا، حيث واجه دعاة التنوير اتهامات بأنهم مسؤولون جميعًا عن ظهور الدولة الشمولية ومساوئ القرن العشرين والعدمية التي لا تعترف بمكانة خاصة للإنسان في الكون. وهنا يجري اختزال ميراث التنوير إلى رؤية مادية تتجسد في كتابات لاميتري الأساسية عن فلسفة الطبيعة: التاريخ الطبيعي للنفس والإنسان آلة والإنسان نبات والنظام الإبيقوري. ويعزى الهجوم على دعاة التنوير ووصفهم بأنهم (متعهدو أفكار فاضحة) إلى أن كارل ماركس اختصهم بالفضل والتكريم، ما يسَّر على المؤرخين أن يلقوا عليهم المسؤولية، وأن يلوموهم على مساوئ القرن العشرين، وممارسات الأنظمة الشيوعية، وظهور الحكومات الشمولية».

والإشكال الكبير الذي وقعت فيه فلسفة عصر التنوير، أنها لم تأت من خلال رؤية هادئة وثاقبة، ومن خلال تحوّل مخطط له دون حرق المراحل وردة الفعل تجاه الكنيسة، وملابسات الصراع، ولذلك كما يشير الباحث قاسم شعيب: «تولدت عنه الفلسفة الوضعية التي كانت تبشر بعصر العلم بعد أن طوت البشرية مرحلتي اللاهوت والفلسفة، سمح هذا العقل بزرع وهم كبير في أوروبا وهو أنها قد خلَّفت وراءها مرة واحدة وإلى الأبد كل همجية وجهل ووحشية القرون الوسطى، وإذا بأوروبا تتحول فجأة إلى مسرح لأبشع الديكتاتوريات، وتصبح أوروبا المتباهية بنفسها فاشية ونازية واستعمارية مرعبة، وتندلع فيها حربان عالميتان. وهنا راح فلاسفتها يتساءلون كيف أمكن للعقل أن ينتج اللاعقل».

وهذه الممارسة التي نتجت عن هذه الفلسفة، أو ما سميّ بـ(العقلانية) المادية، ظهرت مقابله ممارسات اللاعقلانية، بحسب نقد الفلاسفة الجدد لها، الذين وجهوا نقد صارمًا، كنتيجة عنها، فكيف أسس لهذه العقلانية؟ وما هي مسوغاتها الفكرية؟ وللحديث بقية.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»