يمكن لقصيدة بديعة أن تصنع أغنية خالدة أو نشيدا رائعا لأجيال من مستمعيها وعبر عقود من التلقي، إذ يكتبها شاعر مبدع بعاطفة صادقة وموهبة جليّة لتصل تلك العاطفة إلى مستقبليها من مستمعين عبر أزمان مختلفة متلمسين روعتها وصدق عاطفتها، خصوصا إن كانت تحمل محورا وطنيا يتضمن ارتباطا بالأرض وتلبسا بقيم أصيلة وفاء وعطاء ومحبة.
فلماذا شحّت هذه القصائد وندرت هذه الأغنيات، فلم يبق منها إلا القليل مع الكثير من نصوص مغناة هي أقرب للمقالة منها للقصيدة؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد من تحديد يحول دون إطلاقِ الإجابة إلى ما قد لا تتسع له هذه المقالة، ومن التحديد ضرورة التركيز على الشاعر والقصيدة والجهة الطالبة لهذه القصيدة (إن وجدت)، فقد يتجاوز الشاعر حرفته الإبداعية المتفردة، وصدقه موضوعيا بل وفنيا أحيانا مقابل مصلحة مادية أو مجاملات اجتماعية، يدفعه لذلك واقع لا يحسن تقدير الفن والأدب وقد لا يتجاوز فهمهم له كونه "مجرد كلام" دون أي التفات لمكابدة القصيدة ذهنيا وصياغتها فنيا وتكثيف محتواها معرفيا خصوصا حين يسعى الشاعر لتحقيق معادلة اللفظ والمعنى، فلا إسفاف في لفظه ولا انحدار في معناه، كما قد يدفعه لذلك واقعه اليومي وصعوبة تدبره تكاليف الحياة ليلجأ لتجاوز قناعاته فنيا -وربما قيميا- وصولا لقوت يومه عبر حرف مصنوع ليس هو حرفه الأصيل، ولا قصيدته المبتغاة.
للجوائز كذلك دورها في تجفيف ماء القصيدة وروحها، ثم قولبتها في أشكال لا تشبه الشعر ولا تتمثله، إذ نجد شروط هذه المسابقات -الموضوعة من قبل موظفين أبعد ما يمكن عن فهم الشعر أو الوعي بنجاح الأغنية- متضمنة ما يثقل القصيدة بالكثير مما لا يتسع له الشعر ولا يمكن أن تحتفي به الروح فضلا عن القصيدة.
أذكر على سبيل المثال إعلانا لجهة منظمة وضعت شروطا مفادها: تضمين القصيدة إشارات لمشاريع تنموية، مع تضمن مقاطع القصيدة حديثا عن منجزات حكومية في مجالات التعليم والصحة والتنمية، أو تقطيع أوصال القصيدة بشرط تضمين كل مقطع مجالا تنمويا محددا، وغيرها من الشروط التي لا تقبلها القصيدة مع إمكانية تضمينها في نظم لا شعر، فلا ينبغي تقييد القصيدة بأرقام وأسماء وتواريخ ومنجزات وقطاعات وغيرها مما يراد به مجاملة مسؤول ما أو جهة معينة، أما القصائد المغنّاة التي حققت صفة القصيدة ثم صفة الأغنية الوطنية ما كانت لتنجو لولا أنها كتبت بمعزل عن كل هذا، ثم ربما تم إنجاز العمل كاملا قبل عرضه على هذه اللجان أو تلك القيود، فمع تلك القيود يبتعد كثيرٌ من الشعراء المبدعين عن مشهد الشعر الغنائي، ويتسابق إليه من يحاول نيل صفة الفائز بتنفيذ الشروط وتلبس القيود في نص هو أشبه بالمقالة منه للقصيدة، ولا يمكن أن يقتنع هو نفسه بما خطّت يداه إن صدق نفسه، وليس في المقارنة هنا انتقاصٌ من شأن المقالة ولكنها انتصار للسمات الخاصة بكل فن، إذ تعنى المقالة بالأفكار فيما تعنى القصيدة بالعواطف، تقاس المقالة بقدرتها على توضيح الأفكار وبلوغ الإقناع فيما لا شأن للقصيدة بذلك، بل حسبها أن تمس قلب المتلقي ليعيش بها ومعها صدق عاطفته ومبلغ سروره في قدرة الشاعر الفذ على التعبير عما قد يعجز هو عنه من تأثر أو صدق أو وفاء أو ولاء، يعنى الشعر بالإشارات أكثر من التصريح، وعلى ذكاء التلقي أكثر من التلقين والحشو، وأي رسالة جماهيرية يراد لها التفصيل والشرح فليس الشعر ميدانها، بل النثر وهو حينها أقدر وأصدق وأقوى تأثيرا.
تؤثر الكلمة في متلقيها حينما تعبر من مبدع صادق لجمهور مصدِّق ذوّاق، إنه يقين لا يقبل الشك، فماذا لو تلبست هذه الكلمة ثوب القصيدة ثم اختالت في إيقاع لحن خالد؟! يشتاق المتلقي العربي كل ذلك حينما سيقت حتى الفنون والآداب في سباق السياسة والنفعية التي قد يسيّرها أشخاصٌ عبر مؤسسات خاصة أو عامة أو حتى جهلٌ مؤسسي بقيمة كل من الآداب والفنون، وفي ذلك من البؤس لا يمكن وصفه، ليس في افتقاد هذه الروائع سمعيا وبصريا وحسب، بل في هدم الذائقة السليمة لجماهير عربية توّاقة للكلمة الصادقة وعطشى لألحان طربية خالدة.
ربما يجدر بنا جميعا الإيمان أن لكل منا مجاله الذي يبدع فيه فيبهر، فإن أفتى بما لا يعرف أتى بالعجب، ومن الحكمة حينها أن نترك للشعراء والملحنين فضاءاتهم التي يعرفون ويحبون مع تحديد مسار عام أو موضوع محدد، أما التدخل فنيا وموضوعيا في حرفتهم فلن يصل بنا أو بهم إلى إبداع نطلبه أو تأثير نبحث عنه، ثمة حِرفٌ لا تقبل القولبة ولا تخضع للقيود الثقيلةِ ومنها حرفة الشعر، فلنخفف من ثقل القيود لتنطلق القصائد التي نحب في فضاء أرحب يحتويها، رائعة خالدة لمتلقين يؤمنون بالكلمة تأثيرا ويعرفون حق جمالها وإيقاعها وحتى تصويرها دهشة وتقديرا.
حِصّة البادية
فلماذا شحّت هذه القصائد وندرت هذه الأغنيات، فلم يبق منها إلا القليل مع الكثير من نصوص مغناة هي أقرب للمقالة منها للقصيدة؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد من تحديد يحول دون إطلاقِ الإجابة إلى ما قد لا تتسع له هذه المقالة، ومن التحديد ضرورة التركيز على الشاعر والقصيدة والجهة الطالبة لهذه القصيدة (إن وجدت)، فقد يتجاوز الشاعر حرفته الإبداعية المتفردة، وصدقه موضوعيا بل وفنيا أحيانا مقابل مصلحة مادية أو مجاملات اجتماعية، يدفعه لذلك واقع لا يحسن تقدير الفن والأدب وقد لا يتجاوز فهمهم له كونه "مجرد كلام" دون أي التفات لمكابدة القصيدة ذهنيا وصياغتها فنيا وتكثيف محتواها معرفيا خصوصا حين يسعى الشاعر لتحقيق معادلة اللفظ والمعنى، فلا إسفاف في لفظه ولا انحدار في معناه، كما قد يدفعه لذلك واقعه اليومي وصعوبة تدبره تكاليف الحياة ليلجأ لتجاوز قناعاته فنيا -وربما قيميا- وصولا لقوت يومه عبر حرف مصنوع ليس هو حرفه الأصيل، ولا قصيدته المبتغاة.
للجوائز كذلك دورها في تجفيف ماء القصيدة وروحها، ثم قولبتها في أشكال لا تشبه الشعر ولا تتمثله، إذ نجد شروط هذه المسابقات -الموضوعة من قبل موظفين أبعد ما يمكن عن فهم الشعر أو الوعي بنجاح الأغنية- متضمنة ما يثقل القصيدة بالكثير مما لا يتسع له الشعر ولا يمكن أن تحتفي به الروح فضلا عن القصيدة.
أذكر على سبيل المثال إعلانا لجهة منظمة وضعت شروطا مفادها: تضمين القصيدة إشارات لمشاريع تنموية، مع تضمن مقاطع القصيدة حديثا عن منجزات حكومية في مجالات التعليم والصحة والتنمية، أو تقطيع أوصال القصيدة بشرط تضمين كل مقطع مجالا تنمويا محددا، وغيرها من الشروط التي لا تقبلها القصيدة مع إمكانية تضمينها في نظم لا شعر، فلا ينبغي تقييد القصيدة بأرقام وأسماء وتواريخ ومنجزات وقطاعات وغيرها مما يراد به مجاملة مسؤول ما أو جهة معينة، أما القصائد المغنّاة التي حققت صفة القصيدة ثم صفة الأغنية الوطنية ما كانت لتنجو لولا أنها كتبت بمعزل عن كل هذا، ثم ربما تم إنجاز العمل كاملا قبل عرضه على هذه اللجان أو تلك القيود، فمع تلك القيود يبتعد كثيرٌ من الشعراء المبدعين عن مشهد الشعر الغنائي، ويتسابق إليه من يحاول نيل صفة الفائز بتنفيذ الشروط وتلبس القيود في نص هو أشبه بالمقالة منه للقصيدة، ولا يمكن أن يقتنع هو نفسه بما خطّت يداه إن صدق نفسه، وليس في المقارنة هنا انتقاصٌ من شأن المقالة ولكنها انتصار للسمات الخاصة بكل فن، إذ تعنى المقالة بالأفكار فيما تعنى القصيدة بالعواطف، تقاس المقالة بقدرتها على توضيح الأفكار وبلوغ الإقناع فيما لا شأن للقصيدة بذلك، بل حسبها أن تمس قلب المتلقي ليعيش بها ومعها صدق عاطفته ومبلغ سروره في قدرة الشاعر الفذ على التعبير عما قد يعجز هو عنه من تأثر أو صدق أو وفاء أو ولاء، يعنى الشعر بالإشارات أكثر من التصريح، وعلى ذكاء التلقي أكثر من التلقين والحشو، وأي رسالة جماهيرية يراد لها التفصيل والشرح فليس الشعر ميدانها، بل النثر وهو حينها أقدر وأصدق وأقوى تأثيرا.
تؤثر الكلمة في متلقيها حينما تعبر من مبدع صادق لجمهور مصدِّق ذوّاق، إنه يقين لا يقبل الشك، فماذا لو تلبست هذه الكلمة ثوب القصيدة ثم اختالت في إيقاع لحن خالد؟! يشتاق المتلقي العربي كل ذلك حينما سيقت حتى الفنون والآداب في سباق السياسة والنفعية التي قد يسيّرها أشخاصٌ عبر مؤسسات خاصة أو عامة أو حتى جهلٌ مؤسسي بقيمة كل من الآداب والفنون، وفي ذلك من البؤس لا يمكن وصفه، ليس في افتقاد هذه الروائع سمعيا وبصريا وحسب، بل في هدم الذائقة السليمة لجماهير عربية توّاقة للكلمة الصادقة وعطشى لألحان طربية خالدة.
ربما يجدر بنا جميعا الإيمان أن لكل منا مجاله الذي يبدع فيه فيبهر، فإن أفتى بما لا يعرف أتى بالعجب، ومن الحكمة حينها أن نترك للشعراء والملحنين فضاءاتهم التي يعرفون ويحبون مع تحديد مسار عام أو موضوع محدد، أما التدخل فنيا وموضوعيا في حرفتهم فلن يصل بنا أو بهم إلى إبداع نطلبه أو تأثير نبحث عنه، ثمة حِرفٌ لا تقبل القولبة ولا تخضع للقيود الثقيلةِ ومنها حرفة الشعر، فلنخفف من ثقل القيود لتنطلق القصائد التي نحب في فضاء أرحب يحتويها، رائعة خالدة لمتلقين يؤمنون بالكلمة تأثيرا ويعرفون حق جمالها وإيقاعها وحتى تصويرها دهشة وتقديرا.
حِصّة البادية