بين الإنسان وبيئته جدلٌ دائمٌ وانسجام مؤقت. هو لا يكلُّ من طعن الأرض وتمزيقها بالمعاول والأظافر، وهي لا تتعب من طمر جراحها بفيضان نهري، أو ربما بزبد بركان يغلي في الأعماق منذ مئات السنين، وذلك كي تمحو (الأرضُ) بعصامية بالغة أثر الفعل البشري فوق خرائطها وتستريح في بساط عذريتها من جديد. مدافن جديدة فوق مدافن أمة بائدة، هكذا تبدل الأرض أديمها الراشح دما في الربى والسهول، تتسع لكل الأضداد ولا يلفظ بطنها الجسدَ الغريب:
خَففِ الوَطْء ما أظنُّ أديمَ ال
أرضِ إلا من هذه الأجسادِ
...
رُبَّ لَحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحمِ الأضدادِ
هكذا رثى أبو العلاء المعري قبل قرون الإنسانية كلها في رثاء عَلم ما لم نعد نحفل حتى باسمه.
وبينما يمضي الإنسان في مسعاه الشقي لتطويع التضاريس الشرسة وتطويرها لصالح مشروعه "الاستعماري" الكبير؛ طاحناً الجبل ليصل القرية بالمدينة، ومُجَسّراً الوادي لمسير الراجل والراكب، ومُزوجاً الصحراء للبحر، فإن هذه الجبال والوديان والصحارى كلها ستعرف كيف تُدجِّنه عبر الأزمان والأجيال دون أن يشعر بفعلها الخفي: "أثرُ الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول"(1). وداخل حكاية الصراع الطويل بين الخير والشَّر ستفجِّر البيئة المحيطة بالإنسان ينابيع غموضه، تطلق المكبوت من غرائزه الضارية في براري المجهول، ولكنها بحكمة إلهية ما تعرف كذلك كيف تردع النزق البشري وتلجمه.
وكحال كل الأمم التي تدافعت وتعاقبت على حيز جغرافي ما من هذا الكوكب؛ جرت سيرة العماني القديم على هذا النحو، موحوشا بالوحدة على هذه الأرض المسيجة بقلاع جبلية وبحار مسفوحة كالأبدية الزرقاء على امتداد السواحل. عرف جفاف التراب وعطش الحيوان، فاحتال مع الجن (كما في الأسطورة الشعبية) على حصار المناخ والتضاريس بشق الأفلاج التي تتدفق من منابعها الغامضة في الأعالي لريّ قرية صغيرة يتثاءب نخلها في ظلال جبل شاهق، تلك العروق الخضراء التي تنحدر بتدرج بطيء عبر سواقٍ (قنوات) ضيقة تغذي قلب الحياة بماءٍ يغلي حتى تخال العين أنه سيتبخَّر في الفضاء قبل أن يصعد إلى مرافق المصلين الهابطين للوضوء في ساقية تمر بالمسجد ثم بحمام الرجال فحمام النساء في "شريعة"(2) الفلج، وذلك قبل أن تتفرع بمواقيت معلومة وعدالة عبقرية بين الضواحي والمقاصير والأموال المجدولة، وهذه جميعها تسميات تتباين وتتقارب في القرية العمانية بمعنى واحد؛ أي قطعة الأرض المزروعة، المسورة أحياناً (المقصورة) وغير المسورة. ومثلما كتبتُ في إحدى المرات أن الزيتون قد أصبح عبر القصائد والأغنيات كلمة فلسطينية ذائعة الصيت في الذاكرة العربية، فإن الثقافة الزراعية في عُمان استطاعت منذ ثور الحراثة الأول أن تنتج معجمها الخاص الغني بالمصطلحات الحية في الشفاهية اليومية لدى سكَّان القرى، وما "الفلجُ" إلا كلمة عمانية، لأنها كانت قبل ذلك اختراعاً عُمانياً، وهي من الشواهد البارزة على أن اللغة لم تكن يوماً من ابتكار المعاجم والألسن فحسب، بل هي صنيعة الصناعة، تحاول اللحاق باليد الخلاقة التي تنجز المعنى لتمنحه اللفظ والاسم.
ومع انبلاج عينيّ على المكان والزمان، في طفولة متقشفة ما زالت تنمو وتتجذر ببطء في "سرور"، كنتُ قريباً جدا من أفلاج البلدة الثلاثة (الحيلي وأبو جدي والأوسط)(3) إلى حد التماهي معها، بالمعنى الجسدي أعني، ولكن دون أن أفكر للحظة بأي معنى تاريخي أو ثقافي قد تخصُّ به هذه الأفلاج الشخصية العمانية أو تؤثث به الهوية الوجودية قبل الهوية الوطنية، كما هو الارتباط الوثيق بين الإهرامات وصورة المصري منذ الفراعنة حتى الأبد، وذلك على اعتبار أن (أهرام) "خوفو" و"خفرع" و"منقرع" قد مثَّلت الفتح الحضاري الأهم للحضارة المصرية، والذي سيضمن للمصري مقعداً في مسرح الخلود إلى جوار الصيني الذي بنى سور العظيم، وليس خلوداً بالمعنى المادي المؤقت، والمستحيل في ظل هجمات التاريخ الأرعن وانقلاباته، بل هو خلود الإشعاع الذي يلبث في الذاكرة الإنسانية متألقاً للأبد ويُحبط فكرة الزمن. فمن ظنَّ أن الإغريق قد بادوا أو تلاشوا وهم ما زالوا يزودون البشرية كل يوم في أرقى جامعاتها الحديثة بأصول الكثير من العلوم والمعارف؟!
أعود إلى طفولتي، حيث كنت أنظر للفلج وأحسُّ به كمخلوق طبيعي من مخلوقات الله في المكان، كما كنت أرى النخلة والجبل مثلاً، أعني بأنني لم ألمس فيه "ابتكاراً" أو تدخلاً إنسانياً في البدء، لشدة ما هو متناغم مع معطيات اللوحة الفنية التي يرسمها المكان، والتي تأتي امتدادا للعناصر الأولية من تراب وهواء وماء. ولكن ما أن يدخل الفتى إلى المدرسة، حيث يتعرف إلى مقتنيات طبيعته الأولى في سياق معرفي وتعليمي، فإن أول سؤال سيتجول في أروقة ذهنه عندما يدرس الأفلاج على السبورة سيكون حول مدى قِدَمه على هذه الأرض؟ ولطالما نوَّعتُ أسئلة من هذا القبيل على طبيعتي المحيطة، بحثاً عن إجابات شعرية لا عن إجابات تاريخية. ولكن ماذا يعني أن يكون وجود الإنسان قديماً على أرضه؟ هل هي محاولة لإسكات قلق الهوية الدائم من خلال البحث عن شواهد مادية على وجوده هنا أو هناك قبل مئات السنين؟ بل هو قلق الشاعر وحده من أن يكون طارئاً، فهو يفتش في الجبل والنخل والحقل عن أثر، ويبحث في الأركيولوجيا عند أقدم النصوص المسمارية حتى يطمئن على وجوده القديم هنا قبل أن يطمئن على وجوده في قومه، فهي مسألة شخصية بالنسبة للشاعر وليست هاجساً قومياً.
هكذا أتخيل الأسلاف، بيدين حافيتين إلا من الإزميل والمطرقة، وهم يصعدون من أنفاق الظلام الخانق برئات أكثر انفساحا ورحابة، وبمعجزة هندسية تُخرج الحيَّ من الميت. فأي بلاغة تلك التي تُنطق الحجرَ الأصمَّ ماءً؟ يستغرقني الوقت ثواني سريعة من العمر وأنا أحملق في مياه الفلج، أطلُّ على سِير الأموات وسرائرهم وهي تعبر العيون الحية، وأرى صورتي وهي تُمحى ببطء في الماء، تذوب في خضرة الطحالب ليطل منها الأسلاف، الأسلاف بكل تعبهم وتراب أيديهم السائح في السواقي عائدا إلى طين البلاد، إلى مصدر اشتقاقه الأول. أراهم يتزاحمون في صفيحة وجهي، يشيدون حضورهم في الغياب المنقوع في خضرة، بينما أتوارى في تموجات المياه التي تخلفها سمكة "صدّ" مارقة.
الهوامش:
محمود درويش، قصيدة أثر الفراشة.
شريعة الفلج: هي أول مكان لظهور المياه على سطح الأرض أو بالقرب منه بالنسبة للفلج الداؤودي.
أسماء الأفلاج الثلاثة الموجودة في قرية سرور بسمائل.
خَففِ الوَطْء ما أظنُّ أديمَ ال
أرضِ إلا من هذه الأجسادِ
...
رُبَّ لَحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحمِ الأضدادِ
هكذا رثى أبو العلاء المعري قبل قرون الإنسانية كلها في رثاء عَلم ما لم نعد نحفل حتى باسمه.
وبينما يمضي الإنسان في مسعاه الشقي لتطويع التضاريس الشرسة وتطويرها لصالح مشروعه "الاستعماري" الكبير؛ طاحناً الجبل ليصل القرية بالمدينة، ومُجَسّراً الوادي لمسير الراجل والراكب، ومُزوجاً الصحراء للبحر، فإن هذه الجبال والوديان والصحارى كلها ستعرف كيف تُدجِّنه عبر الأزمان والأجيال دون أن يشعر بفعلها الخفي: "أثرُ الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول"(1). وداخل حكاية الصراع الطويل بين الخير والشَّر ستفجِّر البيئة المحيطة بالإنسان ينابيع غموضه، تطلق المكبوت من غرائزه الضارية في براري المجهول، ولكنها بحكمة إلهية ما تعرف كذلك كيف تردع النزق البشري وتلجمه.
وكحال كل الأمم التي تدافعت وتعاقبت على حيز جغرافي ما من هذا الكوكب؛ جرت سيرة العماني القديم على هذا النحو، موحوشا بالوحدة على هذه الأرض المسيجة بقلاع جبلية وبحار مسفوحة كالأبدية الزرقاء على امتداد السواحل. عرف جفاف التراب وعطش الحيوان، فاحتال مع الجن (كما في الأسطورة الشعبية) على حصار المناخ والتضاريس بشق الأفلاج التي تتدفق من منابعها الغامضة في الأعالي لريّ قرية صغيرة يتثاءب نخلها في ظلال جبل شاهق، تلك العروق الخضراء التي تنحدر بتدرج بطيء عبر سواقٍ (قنوات) ضيقة تغذي قلب الحياة بماءٍ يغلي حتى تخال العين أنه سيتبخَّر في الفضاء قبل أن يصعد إلى مرافق المصلين الهابطين للوضوء في ساقية تمر بالمسجد ثم بحمام الرجال فحمام النساء في "شريعة"(2) الفلج، وذلك قبل أن تتفرع بمواقيت معلومة وعدالة عبقرية بين الضواحي والمقاصير والأموال المجدولة، وهذه جميعها تسميات تتباين وتتقارب في القرية العمانية بمعنى واحد؛ أي قطعة الأرض المزروعة، المسورة أحياناً (المقصورة) وغير المسورة. ومثلما كتبتُ في إحدى المرات أن الزيتون قد أصبح عبر القصائد والأغنيات كلمة فلسطينية ذائعة الصيت في الذاكرة العربية، فإن الثقافة الزراعية في عُمان استطاعت منذ ثور الحراثة الأول أن تنتج معجمها الخاص الغني بالمصطلحات الحية في الشفاهية اليومية لدى سكَّان القرى، وما "الفلجُ" إلا كلمة عمانية، لأنها كانت قبل ذلك اختراعاً عُمانياً، وهي من الشواهد البارزة على أن اللغة لم تكن يوماً من ابتكار المعاجم والألسن فحسب، بل هي صنيعة الصناعة، تحاول اللحاق باليد الخلاقة التي تنجز المعنى لتمنحه اللفظ والاسم.
ومع انبلاج عينيّ على المكان والزمان، في طفولة متقشفة ما زالت تنمو وتتجذر ببطء في "سرور"، كنتُ قريباً جدا من أفلاج البلدة الثلاثة (الحيلي وأبو جدي والأوسط)(3) إلى حد التماهي معها، بالمعنى الجسدي أعني، ولكن دون أن أفكر للحظة بأي معنى تاريخي أو ثقافي قد تخصُّ به هذه الأفلاج الشخصية العمانية أو تؤثث به الهوية الوجودية قبل الهوية الوطنية، كما هو الارتباط الوثيق بين الإهرامات وصورة المصري منذ الفراعنة حتى الأبد، وذلك على اعتبار أن (أهرام) "خوفو" و"خفرع" و"منقرع" قد مثَّلت الفتح الحضاري الأهم للحضارة المصرية، والذي سيضمن للمصري مقعداً في مسرح الخلود إلى جوار الصيني الذي بنى سور العظيم، وليس خلوداً بالمعنى المادي المؤقت، والمستحيل في ظل هجمات التاريخ الأرعن وانقلاباته، بل هو خلود الإشعاع الذي يلبث في الذاكرة الإنسانية متألقاً للأبد ويُحبط فكرة الزمن. فمن ظنَّ أن الإغريق قد بادوا أو تلاشوا وهم ما زالوا يزودون البشرية كل يوم في أرقى جامعاتها الحديثة بأصول الكثير من العلوم والمعارف؟!
أعود إلى طفولتي، حيث كنت أنظر للفلج وأحسُّ به كمخلوق طبيعي من مخلوقات الله في المكان، كما كنت أرى النخلة والجبل مثلاً، أعني بأنني لم ألمس فيه "ابتكاراً" أو تدخلاً إنسانياً في البدء، لشدة ما هو متناغم مع معطيات اللوحة الفنية التي يرسمها المكان، والتي تأتي امتدادا للعناصر الأولية من تراب وهواء وماء. ولكن ما أن يدخل الفتى إلى المدرسة، حيث يتعرف إلى مقتنيات طبيعته الأولى في سياق معرفي وتعليمي، فإن أول سؤال سيتجول في أروقة ذهنه عندما يدرس الأفلاج على السبورة سيكون حول مدى قِدَمه على هذه الأرض؟ ولطالما نوَّعتُ أسئلة من هذا القبيل على طبيعتي المحيطة، بحثاً عن إجابات شعرية لا عن إجابات تاريخية. ولكن ماذا يعني أن يكون وجود الإنسان قديماً على أرضه؟ هل هي محاولة لإسكات قلق الهوية الدائم من خلال البحث عن شواهد مادية على وجوده هنا أو هناك قبل مئات السنين؟ بل هو قلق الشاعر وحده من أن يكون طارئاً، فهو يفتش في الجبل والنخل والحقل عن أثر، ويبحث في الأركيولوجيا عند أقدم النصوص المسمارية حتى يطمئن على وجوده القديم هنا قبل أن يطمئن على وجوده في قومه، فهي مسألة شخصية بالنسبة للشاعر وليست هاجساً قومياً.
هكذا أتخيل الأسلاف، بيدين حافيتين إلا من الإزميل والمطرقة، وهم يصعدون من أنفاق الظلام الخانق برئات أكثر انفساحا ورحابة، وبمعجزة هندسية تُخرج الحيَّ من الميت. فأي بلاغة تلك التي تُنطق الحجرَ الأصمَّ ماءً؟ يستغرقني الوقت ثواني سريعة من العمر وأنا أحملق في مياه الفلج، أطلُّ على سِير الأموات وسرائرهم وهي تعبر العيون الحية، وأرى صورتي وهي تُمحى ببطء في الماء، تذوب في خضرة الطحالب ليطل منها الأسلاف، الأسلاف بكل تعبهم وتراب أيديهم السائح في السواقي عائدا إلى طين البلاد، إلى مصدر اشتقاقه الأول. أراهم يتزاحمون في صفيحة وجهي، يشيدون حضورهم في الغياب المنقوع في خضرة، بينما أتوارى في تموجات المياه التي تخلفها سمكة "صدّ" مارقة.
الهوامش:
محمود درويش، قصيدة أثر الفراشة.
شريعة الفلج: هي أول مكان لظهور المياه على سطح الأرض أو بالقرب منه بالنسبة للفلج الداؤودي.
أسماء الأفلاج الثلاثة الموجودة في قرية سرور بسمائل.