أخيرًا أطلق قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس صيحة التحذير الأولى من الخدمات التلفزيونية المدفوعة مثل «نتفليكس» وأخواتها، وآثارها التي قد تكون مدمرة لثقافة وعادات وتقاليد وقيم مجتمعاتنا العربية، وذلك من خلال البحث الذي قدمه الطالب هيثم الزدجالي الأسبوع الماضي وأجازته لجنة تحكيم علمية، ومنحته عليه درجة الماجستير في الإعلام.
بحثت الدراسة واقع استخدام عينة من الشباب العُماني لهذه الخدمات الجديدة، ودوافع هذا الاستخدام، ثم الإشباعات التي يحققها، والمفاجأة أن نحو نصف الشباب الذين شملتهم الدراسة قالوا: إنهم يشتركون في هذه الخدمات ويشاهدونها بانتظام، وهو ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر خاصة أن الإنتاج التلفزيوني المحلي من الدراما ومواد التسلية لا يمكن بأي حال أن ينافس ما تقدمه تلك الخدمات العالمية، وهو ما ينذر على المديين المتوسط والقصير بفقد سيادتنا الإعلامية على أراضينا، وعلى جمهورنا وتركه فريسة سهلة للغزو التلفزيوني الثقافي.
ولعل من أهم النتائج الصادمة التي توصلت لها الدراسة أن خدمة «نتفليكس» تأتي في المرتبة الأولى كأكثر الخدمات المدفوعة التي يقبل الشباب العُماني على الاشتراك فيها ومشاهدتها، وهي خدمة تستهدف تصدير النماذج غير السوية من خلال أعمال درامية تلفزيونية وسينمائية إما منتجة خصيصًا لهذه الشبكة أو من إنتاج جهات أخرى. وقد شاهدنا في الآونة الأخيرة ما أحدثه الفيلم العربي الذي أنتجته وأذاعته «أصحاب ولا أعز»، الذي شارك في بطولته بعض نجوم السينما العرب، من ردود أفعال غاضبة في جميع أنحاء العالم العربي، نتج عنها دعوة لمقاطعة هذه الشبكة ووقف الاشتراك فيها.
واقع الحال أن هذه الخدمات التلفزيونية التي تقوم على مبدأ «ادفع لتشاهد»، تستغل ضعف الإنتاج العربي الوطني من الدراما وهجرة المشاهدين من التلفزيونات الوطنية، لكي تسوق لمنتجاتها عالية الجودة من الناحية الفنية، ثم تقوم من خلال ما يسميه علماء الإعلام بنظرية «الغرس الثقافي»، بالترويج لعادات وتقاليد وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن القيم والتقاليد والعادات العربية. وقد تم تطوير نظرية الغرس لكي تشرح تأثيرات مشاهدة التلفزيون على إدراك واتجاهات وقيم الناس. وتنطلق من فكرة أن التلفزيون أصبح الذراع الثقافي المركزي للمجتمع، وأن «جهاز التلفزيون أصبح عضوًا أساسيًا في العائلة. وهو العضو الذي يحتكر رواية معظم القصص معظم الوقت».
وتقول النظرية: إن الذين يشاهدون التلفزيون بكثافة يتفوق لديهم التلفزيون ليكون المصدر الوحيد للمعلومات والأفكار والوعي، الذي يلغي تقريبًا كل المصادر الأخرى. وينتج عن التعرض لرسائل التلفزيون الموحدة تشكيل الرؤية عن العالم المحيط وتعلم الأدوار العامة والقيم العامة. وإذا صحت نظرية الغرس فإن التلفزيون قد يكون له تأثيرات ليس فقط مهمة ولكن أيضًا غير مرئية على المجتمع. وعلى سبيل المثال تجعل المشاهدة الكثيفة للتلفزيون الناس يشعرون أن العالم مكان غير آمن، وبالتالي فإن من يشعرون بالخوف ربما يتقبلون القمع إذا كان سوف يساعدهم في تقليل مستوى القلق لديهم.
وعلى هذا الأساس فإن المقاومة التي يبديها الجيل الحالي من المشاهدين العرب لما تبثه هذه الشبكات التليفزيونية المدفوعة قد تنهار مع الأجيال القادمة، نتيجة تراكم التأثيرات السلبية لها بمرور الوقت، وبالتالي تصبح المشاهد التي نرفضها الآن طبيعية وعادية بالنسبة لأبنائنا وأحفادنا في المستقبل، وتضيع قيمنا وثقافتنا وسط خليط غير متناغم من القيم والثقافات المستوردة.
ولا غرابة في أن نجد من أبناء جلدتنا من يدافع عن هذه الخدمات، ويعتبرها فتحًا كبيرًا في صناعة الترفيه وصناعة الإعلام، وينظرون لأية محاولة لضبط وتقنين دخول هذه الخدمات إلى أراضينا والتحكم في مضامينها باعتباره اعتداء على حرية التعبير والإعلام. ورغم دفاعنا المستمر عن حرية الإبداع الإنساني فإن هذا الإبداع عندما يتم نقله إلى مجتمعات أخرى يجب أن يراعي خصوصية السياق الثقافي لهذه المجتمعات، ولا يعني منع عرض فيلم أو مسلسل تلفزيوني في دولة ما انتهاك لحرية الإبداع والتعبير، وإنما يصبح من قبيل الدفاع المشروع عن النفس الذي تقره المواثيق الدولية للدول التي تشعر أن مثل هذه الأعمال تهدد أمنها الاجتماعي والثقافي والإعلامي. فالغزو الثقافي المنظم الذي نتعرض له من هذه الشبكات لا يقل خطورة عن الغزو العسكري، الذي يتطلب شحذ الهمم الوطنية، ووضع الخطط الدفاعية لمواجهته ومقاومته، حفاظًا على خصوصيتنا الثقافية.
وحتى يكون موقفنا واضحًا لا لبس فيه، فإننا لا نطالب هنا بمنع هذه الخدمات أو تجريم الاشتراك فيها كما فعلت بعض المجتمعات التي أزعجتها تلك الخدمات، فالممنوع مرغوب، وقد يؤدي المنع إلى زيادة الاشتراك في هذه الخدمات، كما قد يؤدي إلى اتهامنا بالاعتداء على حرية الإعلام، ولكننا نطالب بتوخي أقصى درجات الحذر في التعامل معها. هذا الحذر يجب أن يُبنى على متابعة جيدة تقوم بها لجنة أو جمعية أو جهة مسؤولة في الدولة تضم خبراء ومثقفين ومسؤولين وشخصيات من المجتمع المدني. وتقوم تلك اللجنة بمتابعة يومية منتظمة لما يبث على مثل هذه الخدمات، خاصة من أفلام ومسلسلات. وبناء على هذه المتابعة، وبالتعاون مع هذه الشبكات، يمكن حذف أو حجب الوصول إلى المحتوى المثير للجدل الذي لا يتوافق مع قيمنا وثقافتنا. هذا هو خط الدفاع الأول الذي يجب أن نحتمي به من كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يهددنا من هذه الخدمات.
ويتمثل خط الدفاع الثاني في الاهتمام بالمنتج الدرامي المحلي. إذ لا سبيل لإقناع المشاهد العربي بالتوقف عن متابعة تلك الخدمات ولو قليلا، إلا من خلال تقديم منتج درامي محلي قوي قادر على جذب انتباه وإثارة اهتمام المشاهد العربي. صحيح أننا لا نستطيع في ظل أوضاعنا الإعلامية الحالية أن نقدم محتوى دراميًا تلفزيونيًا عالي الجودة يمكن أن ينافس ما تقدمه تلك الشبكات، ولكن مجرد تقديم منتج محلي يخاطب اهتمامات الجمهور من شأنه أن يعيد قطاعات كبيرة من المشاهدين إلى الشاشات الوطنية. ورغم أن بعض الدول العربية مثل: مصر وسوريا كان لها باع وتاريخ طويل في الإنتاج الدرامي، والذي كان يعوض إلى حد ما عدم وجود إنتاج مماثل في دول عربية أخرى، فإن تراجع هذا الإنتاج في السنوات الأخيرة، وخلطه بالمواقف السياسية ومشاهد العنف والعرى، جعل منه إنتاجًا قطريًا محدود الانتشار في العالم العربي، وهو ما يؤكد أهمية أن تتولى كل دولة الإنتاج الدرامي لمواطنيها، باعتباره عملًا من أعمال السيادة الإعلامية والثقافية. وقد رأينا كيف أسهم مسلسل واحد أنتجه تلفزيون سلطنة عُمان بعد انقطاع عن الإنتاج، وهو مسلسل «اسمع وشوف»، وأذيع في الوقت الممتاز خلال شهر رمضان الماضي، في جمع أفراد العائلة العُمانية حول الشاشة الوطنية ولو لفترة وجيزة، بعد أن كان الاهتمام كله موجها إلى متابعة الخدمات المدفوعة.
إن جرس الإنذار الذي تدقه الرسالة العلمية التي أجازتها جامعة السلطان قابوس الأسبوع الماضي يجب أن يصل إلى آذان وقلوب المسؤولين عن الشأن الإعلامي ليس في عُمان وحدها وإنما في كل الدول العربية، إذا أردنا أن نحافظ على قيمنا وثقافتنا من الاندثار -لا قدر الله- وإذا أردنا أن نواجه ما يحيط بنا من مخاطر تتصل بعقيدتنا وهويتنا العربية الإسلامية.
بحثت الدراسة واقع استخدام عينة من الشباب العُماني لهذه الخدمات الجديدة، ودوافع هذا الاستخدام، ثم الإشباعات التي يحققها، والمفاجأة أن نحو نصف الشباب الذين شملتهم الدراسة قالوا: إنهم يشتركون في هذه الخدمات ويشاهدونها بانتظام، وهو ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر خاصة أن الإنتاج التلفزيوني المحلي من الدراما ومواد التسلية لا يمكن بأي حال أن ينافس ما تقدمه تلك الخدمات العالمية، وهو ما ينذر على المديين المتوسط والقصير بفقد سيادتنا الإعلامية على أراضينا، وعلى جمهورنا وتركه فريسة سهلة للغزو التلفزيوني الثقافي.
ولعل من أهم النتائج الصادمة التي توصلت لها الدراسة أن خدمة «نتفليكس» تأتي في المرتبة الأولى كأكثر الخدمات المدفوعة التي يقبل الشباب العُماني على الاشتراك فيها ومشاهدتها، وهي خدمة تستهدف تصدير النماذج غير السوية من خلال أعمال درامية تلفزيونية وسينمائية إما منتجة خصيصًا لهذه الشبكة أو من إنتاج جهات أخرى. وقد شاهدنا في الآونة الأخيرة ما أحدثه الفيلم العربي الذي أنتجته وأذاعته «أصحاب ولا أعز»، الذي شارك في بطولته بعض نجوم السينما العرب، من ردود أفعال غاضبة في جميع أنحاء العالم العربي، نتج عنها دعوة لمقاطعة هذه الشبكة ووقف الاشتراك فيها.
واقع الحال أن هذه الخدمات التلفزيونية التي تقوم على مبدأ «ادفع لتشاهد»، تستغل ضعف الإنتاج العربي الوطني من الدراما وهجرة المشاهدين من التلفزيونات الوطنية، لكي تسوق لمنتجاتها عالية الجودة من الناحية الفنية، ثم تقوم من خلال ما يسميه علماء الإعلام بنظرية «الغرس الثقافي»، بالترويج لعادات وتقاليد وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن القيم والتقاليد والعادات العربية. وقد تم تطوير نظرية الغرس لكي تشرح تأثيرات مشاهدة التلفزيون على إدراك واتجاهات وقيم الناس. وتنطلق من فكرة أن التلفزيون أصبح الذراع الثقافي المركزي للمجتمع، وأن «جهاز التلفزيون أصبح عضوًا أساسيًا في العائلة. وهو العضو الذي يحتكر رواية معظم القصص معظم الوقت».
وتقول النظرية: إن الذين يشاهدون التلفزيون بكثافة يتفوق لديهم التلفزيون ليكون المصدر الوحيد للمعلومات والأفكار والوعي، الذي يلغي تقريبًا كل المصادر الأخرى. وينتج عن التعرض لرسائل التلفزيون الموحدة تشكيل الرؤية عن العالم المحيط وتعلم الأدوار العامة والقيم العامة. وإذا صحت نظرية الغرس فإن التلفزيون قد يكون له تأثيرات ليس فقط مهمة ولكن أيضًا غير مرئية على المجتمع. وعلى سبيل المثال تجعل المشاهدة الكثيفة للتلفزيون الناس يشعرون أن العالم مكان غير آمن، وبالتالي فإن من يشعرون بالخوف ربما يتقبلون القمع إذا كان سوف يساعدهم في تقليل مستوى القلق لديهم.
وعلى هذا الأساس فإن المقاومة التي يبديها الجيل الحالي من المشاهدين العرب لما تبثه هذه الشبكات التليفزيونية المدفوعة قد تنهار مع الأجيال القادمة، نتيجة تراكم التأثيرات السلبية لها بمرور الوقت، وبالتالي تصبح المشاهد التي نرفضها الآن طبيعية وعادية بالنسبة لأبنائنا وأحفادنا في المستقبل، وتضيع قيمنا وثقافتنا وسط خليط غير متناغم من القيم والثقافات المستوردة.
ولا غرابة في أن نجد من أبناء جلدتنا من يدافع عن هذه الخدمات، ويعتبرها فتحًا كبيرًا في صناعة الترفيه وصناعة الإعلام، وينظرون لأية محاولة لضبط وتقنين دخول هذه الخدمات إلى أراضينا والتحكم في مضامينها باعتباره اعتداء على حرية التعبير والإعلام. ورغم دفاعنا المستمر عن حرية الإبداع الإنساني فإن هذا الإبداع عندما يتم نقله إلى مجتمعات أخرى يجب أن يراعي خصوصية السياق الثقافي لهذه المجتمعات، ولا يعني منع عرض فيلم أو مسلسل تلفزيوني في دولة ما انتهاك لحرية الإبداع والتعبير، وإنما يصبح من قبيل الدفاع المشروع عن النفس الذي تقره المواثيق الدولية للدول التي تشعر أن مثل هذه الأعمال تهدد أمنها الاجتماعي والثقافي والإعلامي. فالغزو الثقافي المنظم الذي نتعرض له من هذه الشبكات لا يقل خطورة عن الغزو العسكري، الذي يتطلب شحذ الهمم الوطنية، ووضع الخطط الدفاعية لمواجهته ومقاومته، حفاظًا على خصوصيتنا الثقافية.
وحتى يكون موقفنا واضحًا لا لبس فيه، فإننا لا نطالب هنا بمنع هذه الخدمات أو تجريم الاشتراك فيها كما فعلت بعض المجتمعات التي أزعجتها تلك الخدمات، فالممنوع مرغوب، وقد يؤدي المنع إلى زيادة الاشتراك في هذه الخدمات، كما قد يؤدي إلى اتهامنا بالاعتداء على حرية الإعلام، ولكننا نطالب بتوخي أقصى درجات الحذر في التعامل معها. هذا الحذر يجب أن يُبنى على متابعة جيدة تقوم بها لجنة أو جمعية أو جهة مسؤولة في الدولة تضم خبراء ومثقفين ومسؤولين وشخصيات من المجتمع المدني. وتقوم تلك اللجنة بمتابعة يومية منتظمة لما يبث على مثل هذه الخدمات، خاصة من أفلام ومسلسلات. وبناء على هذه المتابعة، وبالتعاون مع هذه الشبكات، يمكن حذف أو حجب الوصول إلى المحتوى المثير للجدل الذي لا يتوافق مع قيمنا وثقافتنا. هذا هو خط الدفاع الأول الذي يجب أن نحتمي به من كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يهددنا من هذه الخدمات.
ويتمثل خط الدفاع الثاني في الاهتمام بالمنتج الدرامي المحلي. إذ لا سبيل لإقناع المشاهد العربي بالتوقف عن متابعة تلك الخدمات ولو قليلا، إلا من خلال تقديم منتج درامي محلي قوي قادر على جذب انتباه وإثارة اهتمام المشاهد العربي. صحيح أننا لا نستطيع في ظل أوضاعنا الإعلامية الحالية أن نقدم محتوى دراميًا تلفزيونيًا عالي الجودة يمكن أن ينافس ما تقدمه تلك الشبكات، ولكن مجرد تقديم منتج محلي يخاطب اهتمامات الجمهور من شأنه أن يعيد قطاعات كبيرة من المشاهدين إلى الشاشات الوطنية. ورغم أن بعض الدول العربية مثل: مصر وسوريا كان لها باع وتاريخ طويل في الإنتاج الدرامي، والذي كان يعوض إلى حد ما عدم وجود إنتاج مماثل في دول عربية أخرى، فإن تراجع هذا الإنتاج في السنوات الأخيرة، وخلطه بالمواقف السياسية ومشاهد العنف والعرى، جعل منه إنتاجًا قطريًا محدود الانتشار في العالم العربي، وهو ما يؤكد أهمية أن تتولى كل دولة الإنتاج الدرامي لمواطنيها، باعتباره عملًا من أعمال السيادة الإعلامية والثقافية. وقد رأينا كيف أسهم مسلسل واحد أنتجه تلفزيون سلطنة عُمان بعد انقطاع عن الإنتاج، وهو مسلسل «اسمع وشوف»، وأذيع في الوقت الممتاز خلال شهر رمضان الماضي، في جمع أفراد العائلة العُمانية حول الشاشة الوطنية ولو لفترة وجيزة، بعد أن كان الاهتمام كله موجها إلى متابعة الخدمات المدفوعة.
إن جرس الإنذار الذي تدقه الرسالة العلمية التي أجازتها جامعة السلطان قابوس الأسبوع الماضي يجب أن يصل إلى آذان وقلوب المسؤولين عن الشأن الإعلامي ليس في عُمان وحدها وإنما في كل الدول العربية، إذا أردنا أن نحافظ على قيمنا وثقافتنا من الاندثار -لا قدر الله- وإذا أردنا أن نواجه ما يحيط بنا من مخاطر تتصل بعقيدتنا وهويتنا العربية الإسلامية.