لافتة هي العبارة التي قالها صيّاد الأشخرة وهو يسرد صراعه وزميله من أجل البقاء: "الحكايات كانت تعيد إلينا الأمل بالحياة، والعودة إلى الديار". ولستُ هنا بحاجة إلى التذكير بأن هذا الصيّاد -واسمه علي الجعفري- وزميله سالم قضيا تسعة أيام يصارعان أمواج البحر، ولسعات الجوع، بعد أن تعطلت ماكينة قاربهما وفشلت محاولاتهما لإصلاحها، ذلك أن حكايتهما ظلت تشغل الرأي العام العُماني طوال أيام الغيبة تلك، ونحمد الله أنها انتهت نهاية سعيدة.

الحكايات إذن هي التي أذكتْ جذوة الأمل لدي الصيادَيْن، إذ ساهمت في إلهائهما – ولو بشكل مؤقت - عن التفكير في المجهول الذي يسيران إليه دون أن يعلما نهاية الطريق، نسيا مؤقتًا ألا طعام لديهما، ولا إرسال للهاتف للاستغاثة، ونسيا أن قاربهما يبتعد أكثر وأكثر عن الأشخرة، وأنه بمرور الأيام سييأس الباحثون عنهما ويعتبرونهما في عداد الغرقى. كل هذا تناسياه بالسرد.

السرد هو سلاح الأعزل، كما يخبرنا عبدالفتاح كيليطو في كتابه "من شرفة ابن رشد". في هذا الكتاب يُلفتنا الناقد المغربي أن "ألف ليلة وليلة" لا يروي فيها خليفةٌ حكايةً أبدًا إلا أن يكون خليفة مخلوعا، وأن الأسد قد يحدث له أن يستمع إلى حكايات، غير أنه أبدًا لا يروي حكايات، "ما حاجته إلى السرد، والبحث عن الإقناع؟" يتساءل كيليطو. لكن شهرزاد هي فتاة مغلوبة على أمرها، وكان محكومًا عليها بالموت في نهاية ليلتها الأولى مع شهريار، لولا أنها تشبثت بـ"سلاح الأعزل": السرد؛ في كل ليلة تسرد حكاية دون أن تنهيها لتضمن بقاءها على قيد الحياة ليوم آخر، وخلال ألف ليلة وليلة تمكنت من ترويض شهريار، وإبعاد شبح الموت. هذا بالضبط ما فعله الأعزلان إلا من الحكايات: علي وسالم، كل حكاية تروّض البحر وتهدئ العاصفة، وتؤجل الموت إلى وقت آخر.

وإذا كانت الحكاية – أي حكاية - تحتاج إلى اثنين على الأقل؛ سارد ومسرود له، فإن هذا الشرط متوفّر لعلي وسالم، مثلما هو متوفر لشهرزاد وشهريار، لكنّ الفرق أن ثنائيّ ألف ليلة وليلة ليسا ندّين، الساردة ضعيفة ومغلوبة على أمرها، والمسرود له متغلّب ومتحكّم ومهمته تلقي الحكايات فقط دون مبادلتها مع الطرف الآخر، أما ثنائي الأشخرة فالعلاقة بينهما ندّية، ومتلقي حكاية اليوم عن "فقدان الصيادين في البحر وعودتهم مرة أخرى"، بما فيها من شحنة معنوية كبيرة، هو نفسه سارد حكاية الغد عن صيادين آخرين تاهوا أيضًا في البحر لكنهم تمكنوا من العودة في النهاية.

مُصارِع البحر يحتاج إلى الحكاية لينجو. وحتى إن نجا ووصل إلى الشاطئ بسلام فإن نجاته ستكون منقوصة إن لم يجد من يسرد له الحكاية. هذا ما أدركه لويس أليخاندرو فيلاسكو البحار الكولومبي الذي كان الناجي الوحيد من حادثة سقوط ثمانية بحارة كانوا على متن مدمرة تابعة للأسطول البحري الكولومبي في البحر المسمى "بحر الأنتيل". وقعت هذه الحادثة في 28 فبراير 1955م، وسبب نجاة فيلاسكو أنه تعلّق بعبّارة خشبية وظل طافيًا عليها من دون زاد أو شراب لمدة عشرة أيام، المدة نفسها تقريبا التي قضاها علي وسالم، لكن الفرق أنهما كانا يتفوقان عليه بامتلاك أربعة لترات من الماء عرفا كيف يتقشفان في شربها طوال أيامهما في البحر. لا شكّ أن ما يصعّب الأمر على فيلاسكو، عدا العطش، أنه وحيد خلال هذه الأيام العشرة بلا مشارِك له في الكارثة، والحكاية تحتاج إلى شخص آخر ليتمّ سردها. يروي علي أنه وسالم، كلّا منهما، كان يبدي التماسك أمام الآخر، لأنه يدرك أن أي يأس يتسلل إلى أي منهما سيكون معناه الموت المحقق. ولا شكّ أن فيلاسكو في وحدته المرعبة تلك بذل جهدًا مضاعفًا لئلا يسمح لليأس بالتسلل إليه، وهذا ما جعله بعد أن نجا من الموت في أمسِّ الحاجة إلى سرد حكايته، فكان أن اختار صحفيًا مغمورًا في صحيفة إل إسبيكتادور الكولومبية اسمه جابرييل جارثيا ماركيز، دون أن يعرف أن هذا الصحفي سيكون ذات يوم من أمهر ساردي الحكايات في العالم. ظل فيلاسكو يسرد وماركيز يستمع لمدة ستّ ساعات، ثم ما لبث أن تحوّل ماركيز هو السارد، وكولومبيا كلها هي السامعة/ القارئة للحكاية في الصحيفة لمدة أربعة عشر يومًا جعلتْ البحار الناجي أشهر رجل في كولومبيا آنئذ، قبل أن يعيد ماركيز نشر الحكاية كاملة في روايته "حكاية بحار غريق" ويكتب لفيلاسكو الخلود.

حكاية علي وسالم؛ صيادَيْ الأشخرة، ذكّرت البعض بأعمال إبداعية عظيمة جسدت صراع الإنسان مع قوى الطبيعة وتمكّنه من انتصاره عليها في النهاية، كـ"موبي ديك" لهرمان ميلفل، و"العجوز والبحر" لإرنست هيمنجواي، و"جزيرة اليوم السابق" لأمبرتو إيكو، و"تحت سماء الجليد" لجاك لندن، إضافة طبعًا إلى "حكاية بحار غريق" لماركيز. بل إن هناك من حثّ الأدباء العُمانيين على كتابة هذه الحكاية. ومن يدري فقد نقرأها بالفعل في رواية عُمانية ذات يوم.