على هامش أحد اللقاءات التي بثتها الإذاعة البريطانية العربية BBC بتاريخ 9 يونيو 2022م في برنامجها نقطة حوار جرى لقاء ضم (كشيشتوف بلومينسكي) السفير البولندي الأسبق لدى العراق والسعودية، و(عاصف سلوم) مدير مركز الثقافة العربية في لوبلين، و(نبيل الملاذي) رئيس جمعية أورينت الثقافية ونائب رئيس حزب بولندا الوطني، وتحدّث المشاركون عن تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا وهجرتهم إلى بولندا؛ الهجرة التي تعد أكبر هجرة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

استوقفتني في ذلك اللقاء الشهادات التي أدلى بها بعض الطلبة العرب الدارسين في بولندا، والمعاملة التي صاروا يتعرَّضون لها وفق عنصرية ظاهرة لم تعد خافية على أحد، حيث أدّت الحرب إلى ارتفاع في الأسعار في كل مناحي الحياة في بولندا، لدرجة أن طالبة قالت إنها لا تستطيع أن تجد سكنا للإقامة، وإذا ما تيسر لها الحال فإن إدارة السكن تفضّل أن تؤجر لطالب أوكراني عليها كعربية، والأمر بطبيعة الحال ينطبق على العديد من الباحثين عن عمل، فالأولوية ستكون لأبناء المهاجرين! وهذه المعاملة المبنية على مفاضلة أبناء الأوروبيين تُذكرنا بمقولة للروائي جورج أورويل: "كلنا متساوون، ولكن بعضنا متساوون أكثر من الآخرين".

ما شدني في ذلك اللقاء قضية أخرى، وتتعلّق بالعِرق والبيئة والعصر التي على غرارها يجري اليوم بسبب غزو روسيا تصنيف البشر من طرف الأوروبيين للشعوب الأخرى من غير الأوروبيين؛ الأوروبيون الذين استيقظوا فجأة ليجدوا أنفسهم يتعرّضون كالشعوب العربية إلى الغزو والقتل والتنكيل والإبادة والتهجير؛ فلأنهم أوروبيون لا يتخيلون حدوث ذلك معهم ولا يصدقونه، لتمتعهم بالتفوّق وباللون والبشرة والحياة المختلفة التي لا تُشبه حياة الآخرين من البشر الذين يعيشون معهم على كرة أرضية واحدة؛ هذا الكوكب المهدّد اليوم بمخاطر كثيرة كالشحّ في المياه، وتفاقم في تجارة الأسلحة النووية، ومطامع للعولمة لمن يملك القوة (السلاح وتسخير العلم) وقد تبدت القوة الأخيرة عبر تجارة الفيروسات المخلّقة للسيطرة على الكوكب والهيمنة عليه، إلى غير ذلك من مخاطر كالنِفايات بجميع أنواعها.

إن قضية تصنيف البشر تختلف إلى حدٍّ كبير عن تصنيف الأدب وأجناسه الكبرى. وهذا يُعيدنا بالضرورة إلى المنهج التاريخي -أقدم منهج نقدي في تاريخ الآداب واللغات- تناول الظاهرة الإبداعية ونقدها على أساس العِرق. وهذا ما أثار فضولي لأطرح هذا التساؤل: هل ستعمل رحى الحرب وتأثيراتها بعيدة المدى على عودة أطروحات الناقد الفرنسي (إيبوليت أدولف تين ippolyte Adolphe Taine1828م- 1893م) إلى المقدمة؟ لا شك أن الشوط الكبير الذي قطعته الممارسة النقدية المعاصرة بانتقالها من ساحة مناهج النقد التاريخية التقليدية (التاريخي والاجتماعي والنفسي الأنثربولوجي) إلى ساحة نقد الحداثة وما بعد الحداثة (البنيوي والأسلوبي والسيميولوجي والتفكيكي ونظريات التلقي والقراءة والتأويل وعلم النصّ) مسألة تحتاج إلى التحرّز والحيطة لافتقادها إلى الدّقة والموضوعية، هذا من ناحية، كما أن الاتكاء على ما يتشكّل من متغيّرات اقتصادية واجتماعية، وانهيار منظومات فكرية وتمظهر آليات العولمة والتطوّر التقني الهائل لا يقلل من القلق والشك في كلّ شيء، بما في ذلك الممارسة النقدية ذاتها. فالسؤال المتجدّد عن ماهية الأدب يواجهه سؤال عن ماهية النقد؟ كما أن ما يفرزه الواقع من كتابات سواء قبلناها أو اختلفنا معها، وعلى وجه الخصوص ما أثير من نقاش وجدل عن تأثيرات جائحة كوفيد-19 التي دفعت منصات الوجود الافتراضي إلى التقدم أكثر عمّا كانت عليه البشرية قبل الجائحة، وكيف سيكون حال المعجم اللغوي المعاصر، وهل ستقدر السرود الكبرى التي لها تاريخها الطويل والمستقر أن تتراجع لأشكال كتابة معاصرة؟ وما زلنا في نقطة الفضول التي شدتني؛ بما أن أكبر قوة مهيمنة في العالم هي أمريكا بدعم من إسرائيل فإن حرب غزو روسيا لأوكرانيا أحدث خللا واضحا في منظومة القوى المهيمنة، فبدلا من أحادية واحدة صار هناك قطب آخر في ميزان القوى، ألا يدفعنا هذا إلى النظر في أن الدول التي تحتفظ بالقوة العسكرية وتسخير جميع طاقتها في تقدم البحث العلمي، والتأثير على صناعة وسائل تلقي الفنون، في استطاعتها تغيير تلك الوضعيات؟

وعطفا على إيبوليت تين، مؤسس المنهج التاريخي في النقد والأدب، ونقلا عن الدكتور صلاح فضل في كتابه (مناهج النقد المعاصر) أنه منهج "يرتبط بالتطور الأساسي للفكر الإنساني، وانتقاله من مرحلة العصور الوسطى إلى العصر الحديث...إلخ"، ويربط تين الأدب بثلاثة عوامل أساسية هي: البيئة حيث منشأ الأدباء، والعِرق وتتضمّن المكونات الوراثية للأدباء في أمة واحدة، والعصر وتتجسّد في مجموع الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية للأدباء. إن المبدع ابن بيئته ودور الناقد التاريخي البحث عن مدى تمثّل البيئة والمخزون الثقافي والمتغيّرات الاقتصادية والتأثيرات السياسية التي في أعماله الإبداعية.

في ظل الهجرات الحاصلة اليوم في العالم، فإن القادم المأمول ليس كله ناعم الملمس، ومن الطبيعي أن تفرز هذه الهجرات عن تحوّل ما في صيغ الكتابة بفعل العولمة، كما أن موهبة الأديب التي أغفلها تين كجوهر أساس للمبدع في التقاط كل ما يحدث من حوله ليصيغه في عمل أدبي كالرواية أو المسرحية أو القصة القصيرة، هي التي ستحول سؤال العرق إلى خصائص مختلفة قد يصعب التكهّن معها بالجنس الأدبي الذي سيكون أكثر دلالة للتعبير عن الواقع، لكن على كل متابع اليوم على ما يجري حولنا القيام بالعصف الذهني والتفكير والتأمل والاشتباك مع المتغيرات، ليس بهدف تقديم وصفة علاجية فذلك ليس الهدف، إنما لمناقشة سؤال النقد ووظيفة الناقد وأدواره سواء تجاه النصّ الأدبي أو الحياة الثقافية في بلده بوجه عام، حتى لا تتصاعد نبرة الشكوى الحادة في أفق بات يضيق بالصراخ وتراجع للعلم وانحسار للعدالة الإنسانية والخير. وكم تبدو لغة الناقد لانسون دالة إذا لم نقصرها على أدب واحد فقط، حيث يكتب في (منهج البحث في الأدب واللغة - ترجمة محمد مندور- طبعة المركز القومي للترجمة - 2015م): إن "تاريخ الأدب جزء من تاريخ الحضارة، فالأدب الفرنسي مظهر لحياتنا القومية. نجد في سجله الطويل الفني كل تيارات الأفكار والمشاعر التي امتدت إلى الأحداث السياسية والاجتماعية أو تركزت في النظم، بل ونجد كل هذه الحياة النفسية الدفينة التي لم تستطع -بما فيها من آلام وأحلام- أن تتحقق عملا".

إن الذي يجب استدعاؤه ضمن هذا العنوان هل هي تأثير الحرب وكوفيد-19 علينا كعرب (العالم موضوعا للأدب) أم تأثير ذلك كله على الحياة الإبداعية (الأدب موضوعا للعالم)؟ فالمنهج التاريخي معنيٌّ برؤية للأدب واللغة ينطلق منها، ومحددات ومعايير يرتكز عليها. إلى جانب هذا الأمر، فإن الواقع ما زال يفرز نفسه مكوناته وعناصره وكما يقولون فالحرب الدائرة لم تنته بعد. فالكتابة الإبداعية التي تستحق المساءلة وفق المنهج التاريخي أمامها الزمن الطويل حتى تستقر لتعبر عن قوى العصر والزمن، وما الفروقات البشرية التي يجري اليوم استخدامها كالعنصرية والعرقية إلّا أسوار ظننا زوالها لكن عودتها كشفت عن ضمورها وعمقها في النفس البشرية، وكأن الحضارة تقدمت ولكن ببطء لم نكن نلاحظه أو بتعبير لانسون لم تتحقق عملا.