ما زلت أذكر جيدا حين كنت على مقاعد الدراسة بكلية الإعلام جامعة القاهرة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل دخول شبكة الإنترنت حيز الاستخدام الجماهيري وتحولها إلى وسيلة إعلام- أننا كنا ندرس في العام الثالث مقررا في «الرأي العام».
كان لدى الكلية في ذلك الوقت واحد من أهم أساتذة الرأي العام في العالم العربي، وهو الأستاذ الدكتور مختار التهامي رحمه الله، الذي شاءت الأقدار في ذلك العام أن يتولى منصب عميد الكلية، وهو ما دفعه إلى إسناد تدريس مقرره إلى أستاذة كانت عائدة لتوها من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أتمت دراستها للدكتوراه، وهي الأستاذة الدكتورة شاهيناز طلعت، أمد الله في عمرها.
كانت د. طلعت شأنها في ذلك شأن الأساتذة العائدين من الخارج تحاول أن تنقل لطلابها المعارف الحديثة فركزت على موضوعين أساسيين سيطرا على مجمل إنجازها العلمي فيما بعد، وهما الإعلام ودوره في التنمية، والرأي العام.
في الموضوع الأول نقلت لنا نظرية أستاذها عالم الاتصال الأمريكي الشهير ايفريت روجرز الذي طور مع زملائه بجامعة ولاية أيوا الأمريكية نظرية من أهم نظريات التحديث، وهي نظرية نشر الأفكار المستحدثة، التي ناقشت دور وسائل الإعلام في تبني المجتمعات النامية أو التي كانت على بداية طريق نمو المستحدثات الجديدة، عبر الاستخدام الواسع للراديو، ومن بعده التلفزيون بالإضافة إلى الصحافة والسينما للأفكار الجديدة في الزراعة والصناعة والتعليم وغيرها من مجالات التنمية الشاملة.
وكان من السهل تطبيق هذه النظرية على كثير من الحملات الإعلامية التي استهدفت إقناع الجماهير بتبني تلك المبتكرات عبر مراحل التبني الخمسة التي حددها روجرز، وهي مرحلة «المبتكرون»، ومرحلة «المتبنيون الأوائل أو المبكرون»، ومرحلة «الأغلبية المبكرة»، ثم مرحلة «الأغلبية المتأخرة»، وأخيرا مرحلة «المتخلفون» الذين يكرهون التغيير ويحاربون الأفكار الجديدة، لكنهم أمام الإجماع الشعبي يقبلونها، أو يجبرون على قبولها.
لم يكن نشر الأفكار المستحدثة منفصلا على الإطلاق عن الموضوع الثاني الذي حظي باهتمام كبير من جانب الدكتورة شاهيناز طلعت، وهو موضوع «الرأي العام»، لأن الهدف كان واحدا وهو تشكيل رأي عام مساند للتغيير ومشجع عليه في المجتمعات النامية التي كانت قد خرجت للتو من فترة استعمارية طويلة. ولذلك أصدرت د.طلعت مؤلفها الرائد «الرأي العام» في العام 1983، وألزمتنا بدراسته كاملا (كان العام الجامعي عاما كاملا غير مقسم إلى فصلين دراسيين كما هو الحال حاليا، ولم تكن قد ظهرت الملخصات أو عروض الباوربوينت المختصرة بعد). وإلى هذا الكتاب، الذي ما زلت أحتفظ بنسخة مطبوعة منه، يرجع الفضل في دراسة أفكار العديد من الأساتذة والباحثين في الرأي العام، ومن أقدمها وأهمها أفكار الصحفي الأمريكي وولتر ليبمان الذي أصدر منذ مائة عام، وتحديدا في 1922، كتابه الشهير «الرأي العام»، وأشار فيه إلى مراوغة هذا المفهوم المضلل الذي تستخدمه النظم السياسية المختلفة لتحقيق مصالحها النخبوية، انطلاقا من فكرة «القالب المصبوب»، التي تعني أن هذه النظم تشكل عقول الناس على نمط واحد تقريبا، حتى تكون هذه العقول مهيأة لكي تنتج نفس الآراء العامة، التي تستند عليها السلطة لتمرير قراراتها والحفاظ على مصالحها.
منذ أن درسنا «الرأي العام» في منتصف ثمانينيات القرن الماضي جرت في نهر الرأي العام ونهر وسائل الإعلام مياه كثيرة، امتزج فيها العذب بالمالح، وتحول الأمر إلى سوق كبير يضم خليطا من أصحاب المصالح من سياسيين، وتجار وسماسرة بحوث وقياسات الرأي العام، وملاك وسائل الإعلام، يسعون جميعهم إلى تعظيم أرباحهم، ووسائل إعلامية جديدة تكاد تعصف بالوسائل التقليدية لتحل محلها. والحاصل أننا أصبحنا أمام معضلة أو معضلات أساسية لا تتعلق بمفهوم الرأي العام فقط، ولكن أيضا بمشروعية الاحتكام إليه كدليل على الإجماع الشعبي المستحيل تحققه، ومن هنا زاد التشكيك العلمي في وجود ما يمكن أن نطلق عليه «الرأي العام» في مجتمع ما، أو في إقليم ما، أو حتى في العالم.
في العصر الرقمي الذي أصبحت فيه منصات التعبير عن الرأي متاحة للجميع، وأصبح بإمكان كل فرد أن يعبر عن رأيه الخاص في الحدث أو القضية، لم يعد الرأي العام كما كنا نقول في السابق هو رأي الأغلبية أو الرأي الشائع في المجتمع. إذ يمكن لأصحاب رأي الأقلية المنظمين والمدعومين على شبكات التواصل الاجتماعي أن يتفوقوا على أصحاب الأغلبية، وأن يكون لهم تأثير أكبر وأقوى في تكوين الرأي والتعبير عنه فيظهر رأي الأقلية كما لو كان هو رأي الأغلبية. وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة كيف استطاعت الأقليات السياسية في أكثر من دولة عربية باستخدام المنصات الإعلامية والجيوش الإلكترونية من الانقلاب على الاختيارات الشعبية، والوصول إلى السلطة عبر الترويج لفكرة أنها تعبر عن رأي الأغلبية، رغم أن تلك الأغلبية صوتت في جميع الانتخابات ضدهم، وما زلنا نشهد تبعات ادعاء أطراف كل أزمة سياسية في عالمنا العربي بأنهم يعبرون عن الرأي العام، حتى أصبح الانقلاب على الدستور الذي جاء بالنظام إلى الحكم، وسجن المعارضين، والتدخل في أعمال السلطة القضائية، في نظر من يقومون بذلك استجابة لمطالب «الرأي العام» في الإصلاح ومحاربة الفساد.
من هنا علينا أن نكون حذرين للغاية ونحن نتحدث عن الرأي العام في هذا الزمن الذي خلطت فيه الأوراق، وأصبح الكل يدعي التعبير عن الرأي العام حتى أولئك العابثين على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى صدق فيهم قول الشاعر العربي المجهول «وكل يدعي وصلا بليلى... وليلى لا تقر له بذاك». من المهم في هذه المرحلة الجديدة أن نواجه الأسئلة الأكثر أهمية التي تتصل بماهية هذا الرأي في مجتمعات لا تؤمن بالحوار البناء كوسيلة من وسائل التعايش المشترك، وفي ظل أنظمة تعتقد، إلى حد اليقين، أنها وحدها المعبر عن الرأي العام، وأن الرأي العام هو ما تراه، حتى وإن كان خاطئا، تماما مثلما قال فرعون للمؤمن من قومه: «مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر-29).
إذا أردنا حقا أن نواكب الاتجاهات العالمية في مجال الرأي العام، فإن نقطة البداية تتمثل في فهم كيفية تكوين الآراء في العصر الرقمي الحالي، وكيف يتم التأثير فيه، وفهم العمليات المعرفية والعاطفية التي تؤثر في آراء الناس في سياق نظام اتصالي هجين يمزج بين قنوات الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية، وبين البث ووسائل الإعلام الاجتماعي التفاعلية، بالإضافة إلى تحديد العوامل المؤثرة في تشكيل ما يمكن اعتباره رأيا عاما.
بعد ذلك تأتي بحوث الرأي العام التي يجب أن تركز على الجوانب الكمية والكيفية، وتستهدف فهم ما يستهلكه الناس من معلومات على المنصات الاجتماعية، وفهم مشاعرهم واتجاهاتهم نحو هذه المعلومات، وما يفعلونه بها سواء من تفاعل إلكتروني كالإعجاب والمشاركة والتعليق، أو التفاعل الطبيعي كالحديث حولها مع الآخرين.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
كان لدى الكلية في ذلك الوقت واحد من أهم أساتذة الرأي العام في العالم العربي، وهو الأستاذ الدكتور مختار التهامي رحمه الله، الذي شاءت الأقدار في ذلك العام أن يتولى منصب عميد الكلية، وهو ما دفعه إلى إسناد تدريس مقرره إلى أستاذة كانت عائدة لتوها من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أتمت دراستها للدكتوراه، وهي الأستاذة الدكتورة شاهيناز طلعت، أمد الله في عمرها.
كانت د. طلعت شأنها في ذلك شأن الأساتذة العائدين من الخارج تحاول أن تنقل لطلابها المعارف الحديثة فركزت على موضوعين أساسيين سيطرا على مجمل إنجازها العلمي فيما بعد، وهما الإعلام ودوره في التنمية، والرأي العام.
في الموضوع الأول نقلت لنا نظرية أستاذها عالم الاتصال الأمريكي الشهير ايفريت روجرز الذي طور مع زملائه بجامعة ولاية أيوا الأمريكية نظرية من أهم نظريات التحديث، وهي نظرية نشر الأفكار المستحدثة، التي ناقشت دور وسائل الإعلام في تبني المجتمعات النامية أو التي كانت على بداية طريق نمو المستحدثات الجديدة، عبر الاستخدام الواسع للراديو، ومن بعده التلفزيون بالإضافة إلى الصحافة والسينما للأفكار الجديدة في الزراعة والصناعة والتعليم وغيرها من مجالات التنمية الشاملة.
وكان من السهل تطبيق هذه النظرية على كثير من الحملات الإعلامية التي استهدفت إقناع الجماهير بتبني تلك المبتكرات عبر مراحل التبني الخمسة التي حددها روجرز، وهي مرحلة «المبتكرون»، ومرحلة «المتبنيون الأوائل أو المبكرون»، ومرحلة «الأغلبية المبكرة»، ثم مرحلة «الأغلبية المتأخرة»، وأخيرا مرحلة «المتخلفون» الذين يكرهون التغيير ويحاربون الأفكار الجديدة، لكنهم أمام الإجماع الشعبي يقبلونها، أو يجبرون على قبولها.
لم يكن نشر الأفكار المستحدثة منفصلا على الإطلاق عن الموضوع الثاني الذي حظي باهتمام كبير من جانب الدكتورة شاهيناز طلعت، وهو موضوع «الرأي العام»، لأن الهدف كان واحدا وهو تشكيل رأي عام مساند للتغيير ومشجع عليه في المجتمعات النامية التي كانت قد خرجت للتو من فترة استعمارية طويلة. ولذلك أصدرت د.طلعت مؤلفها الرائد «الرأي العام» في العام 1983، وألزمتنا بدراسته كاملا (كان العام الجامعي عاما كاملا غير مقسم إلى فصلين دراسيين كما هو الحال حاليا، ولم تكن قد ظهرت الملخصات أو عروض الباوربوينت المختصرة بعد). وإلى هذا الكتاب، الذي ما زلت أحتفظ بنسخة مطبوعة منه، يرجع الفضل في دراسة أفكار العديد من الأساتذة والباحثين في الرأي العام، ومن أقدمها وأهمها أفكار الصحفي الأمريكي وولتر ليبمان الذي أصدر منذ مائة عام، وتحديدا في 1922، كتابه الشهير «الرأي العام»، وأشار فيه إلى مراوغة هذا المفهوم المضلل الذي تستخدمه النظم السياسية المختلفة لتحقيق مصالحها النخبوية، انطلاقا من فكرة «القالب المصبوب»، التي تعني أن هذه النظم تشكل عقول الناس على نمط واحد تقريبا، حتى تكون هذه العقول مهيأة لكي تنتج نفس الآراء العامة، التي تستند عليها السلطة لتمرير قراراتها والحفاظ على مصالحها.
منذ أن درسنا «الرأي العام» في منتصف ثمانينيات القرن الماضي جرت في نهر الرأي العام ونهر وسائل الإعلام مياه كثيرة، امتزج فيها العذب بالمالح، وتحول الأمر إلى سوق كبير يضم خليطا من أصحاب المصالح من سياسيين، وتجار وسماسرة بحوث وقياسات الرأي العام، وملاك وسائل الإعلام، يسعون جميعهم إلى تعظيم أرباحهم، ووسائل إعلامية جديدة تكاد تعصف بالوسائل التقليدية لتحل محلها. والحاصل أننا أصبحنا أمام معضلة أو معضلات أساسية لا تتعلق بمفهوم الرأي العام فقط، ولكن أيضا بمشروعية الاحتكام إليه كدليل على الإجماع الشعبي المستحيل تحققه، ومن هنا زاد التشكيك العلمي في وجود ما يمكن أن نطلق عليه «الرأي العام» في مجتمع ما، أو في إقليم ما، أو حتى في العالم.
في العصر الرقمي الذي أصبحت فيه منصات التعبير عن الرأي متاحة للجميع، وأصبح بإمكان كل فرد أن يعبر عن رأيه الخاص في الحدث أو القضية، لم يعد الرأي العام كما كنا نقول في السابق هو رأي الأغلبية أو الرأي الشائع في المجتمع. إذ يمكن لأصحاب رأي الأقلية المنظمين والمدعومين على شبكات التواصل الاجتماعي أن يتفوقوا على أصحاب الأغلبية، وأن يكون لهم تأثير أكبر وأقوى في تكوين الرأي والتعبير عنه فيظهر رأي الأقلية كما لو كان هو رأي الأغلبية. وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة كيف استطاعت الأقليات السياسية في أكثر من دولة عربية باستخدام المنصات الإعلامية والجيوش الإلكترونية من الانقلاب على الاختيارات الشعبية، والوصول إلى السلطة عبر الترويج لفكرة أنها تعبر عن رأي الأغلبية، رغم أن تلك الأغلبية صوتت في جميع الانتخابات ضدهم، وما زلنا نشهد تبعات ادعاء أطراف كل أزمة سياسية في عالمنا العربي بأنهم يعبرون عن الرأي العام، حتى أصبح الانقلاب على الدستور الذي جاء بالنظام إلى الحكم، وسجن المعارضين، والتدخل في أعمال السلطة القضائية، في نظر من يقومون بذلك استجابة لمطالب «الرأي العام» في الإصلاح ومحاربة الفساد.
من هنا علينا أن نكون حذرين للغاية ونحن نتحدث عن الرأي العام في هذا الزمن الذي خلطت فيه الأوراق، وأصبح الكل يدعي التعبير عن الرأي العام حتى أولئك العابثين على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى صدق فيهم قول الشاعر العربي المجهول «وكل يدعي وصلا بليلى... وليلى لا تقر له بذاك». من المهم في هذه المرحلة الجديدة أن نواجه الأسئلة الأكثر أهمية التي تتصل بماهية هذا الرأي في مجتمعات لا تؤمن بالحوار البناء كوسيلة من وسائل التعايش المشترك، وفي ظل أنظمة تعتقد، إلى حد اليقين، أنها وحدها المعبر عن الرأي العام، وأن الرأي العام هو ما تراه، حتى وإن كان خاطئا، تماما مثلما قال فرعون للمؤمن من قومه: «مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر-29).
إذا أردنا حقا أن نواكب الاتجاهات العالمية في مجال الرأي العام، فإن نقطة البداية تتمثل في فهم كيفية تكوين الآراء في العصر الرقمي الحالي، وكيف يتم التأثير فيه، وفهم العمليات المعرفية والعاطفية التي تؤثر في آراء الناس في سياق نظام اتصالي هجين يمزج بين قنوات الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية، وبين البث ووسائل الإعلام الاجتماعي التفاعلية، بالإضافة إلى تحديد العوامل المؤثرة في تشكيل ما يمكن اعتباره رأيا عاما.
بعد ذلك تأتي بحوث الرأي العام التي يجب أن تركز على الجوانب الكمية والكيفية، وتستهدف فهم ما يستهلكه الناس من معلومات على المنصات الاجتماعية، وفهم مشاعرهم واتجاهاتهم نحو هذه المعلومات، وما يفعلونه بها سواء من تفاعل إلكتروني كالإعجاب والمشاركة والتعليق، أو التفاعل الطبيعي كالحديث حولها مع الآخرين.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس