بعد الحرب العالمية الثانية نزلت أوروبا (بريطانيا وفرنسا تحديدًا) عن قمة النظام الدولي الذي ساد بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، الذي كان امتدادًا للنظام الدولي الذي هيمنت فيه أوروبا على العالم منذ منتصف القرن السابع عشر، ومع نهاية أربعينيات القرن الماضي هيمنت الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد السوفييتي السابق على قمة النظام الدولي الراهن في مرحلة القطبية الثنائية والحرب الباردة التي انتهت مع تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وتفكك حلف وارسو أيضًا، لتنفرد واشنطن بالهيمنة على قمة النظام الدولي ولتعمل بكل السبل، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، من أجل الحيلولة دون صعود قوى دولية أخرى يمكن أن تهدد مكانتها تلك، وما يشهده العالم الآن من توترات وحروب وصراعات مسلحة وتجارية وغيرها هو من نتائج ذلك. وكما كان لواشنطن فضل النهوض بأوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، من خلال مشروع مارشال، فإنها رحبت وساندت كذلك تكتل أوروبا الغربية والتكامل بين دولها، لا لتشكل قوة منفصلة أو مستقلة عن الولايات المتحدة، ولكن لتكون أوروبا الغربية داعمة لها في استراتيجيتها وصراعها مع الاتحاد السوفييتي السابق ومن بعده روسيا الاتحادية وأية قوة دولية أخرى كالصين مثلا في المستقبل. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي وقدراته والمعوقات التي تقف أمامه، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي:

* أولا: يعد الاتحاد الأوروبي من أهم وأنجح صيغ التكامل الإقليمي على مدى السبعين عامًا الماضية، ليس فقط لأنه نجح في بناء مجتمع الأمن الواحد بين دوله، ولكن أيضا لأنه يواصل توسيع وتعميق المصالح المشتركة والمتبادلة والمتوازنة كذلك بين أعضائه، بواقعية وبدون شعارات ولا مزايدات وبوعي عميق بأن المصلحة الجماعية هي محصلة المصالح الفردية للدول الأعضاء. والمؤكد أن ذلك لم يأتِ فجأة ولا نتيجة لرؤى طوباوية لدعاة الوحدة والتكامل الأوروبي، ولا بفعل قادة الدول الأوروبية فقط، ولكنه جاء كتطور طبيعي للمجتمعات الأوروبية ولنضوج الوعي السياسي والاجتماعي لها، الذي تأثر بالماضي الاستعماري والأمبراطوري لكثير من الدول الأوروبية، وبما شهدته الساحة الأوروبية من معارك وصراعات وحروب أهلية وإقليمية وعالمية دفعت ثمنها الشعوب الأوروبية، وإلى الحد الذي جعل السلام والاستقرار والتقدم وحل المشكلات بالحوار والطرق السلمية في مقدمة أولوياتها كدول وكمنظمة يعبر عنها الاتحاد الأوروبي.

صحيح أن بعض دول الاتحاد الأوروبي قامت وتقوم بعمليات عسكرية للحفاظ على مصالحها ولمكافحة الإرهاب ولدعم عمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة أحيانًا، ولكن الصحيح أيضًا هو أن هذه العمليات تظل محدودة وبعيدة عن الطابع الاستعماري السابق من ناحية، وتأتي في كثير من الأحيان ضمن صيغ وتحالفات تحرص الدول الأوروبية أن تكون متسقة، أو غير متعارضة مع الشرعية الدولية من ناحية ثانية. وبينما تمكن الاتحاد الأوروبي من كسب ثقة الكثير من الأطراف الدولية بفضل سياساته التي تميل إلى تأييد السلام واحترام السيادة والشرعية الدولية، إلا أنه وبفعل الانتماء للمعسكر الغربي والارتباط بالولايات المتحدة، يظل محملا بتبعات السياسة الأمريكية، ليس فقط حيال روسيا الاتحادية، ولكن حيال الكثير من المشكلات الإقليمية والدولية الأخرى بشكل أو بآخر، وبما يحد من قدرة الاتحاد على الحركة والأمثلة في هذا المجال عديدة.

* ثانيا: أنه إذا كان الاتحاد الأوروبي مثل دور الأخ الأصغر للولايات المتحدة، والوجه الأكثر قبولًا للمعسكر الغربي، فإن قدرته على الفعل والتحرك الفعال بالنسبة لمختلف المشكلات الدولية، بما فيها مشكلات أوروبية كالحرب في كوسوفا والحرب في إيرلندا الشمالية في تسعينيات القرن الماضي، ظلت محدودة، بل وتابعة بدرجة غير قليلة للسياسات والمواقف الأمريكية بشكل أو بآخر، ولا ينفي ذلك، ولا يقلل منه أن هناك مواقف وتطورات شهدت نوعًا من عدم التوافق بين واشنطن وبعض دول الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا، ومن هذه التطورات أزمة الشرق الأوسط والغزو الأمريكي للعراق عام 2003. نعم يدرك الاتحاد الأوروبي أهمية وضرورة وقيمة الحفاظ على الارتباط الاستراتيجي بين ضفتي الأطلنطي، بغض النظر عن المبررات التي تساق في هذا المجال، وهو ما لم يقل ولم يفقد أهميته حتى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، فأوروبا تعتمد في أمنها على الدرع الصاروخية وعلى المظلة النووية الأمريكية، كما تحتفظ الولايات المتحدة الآن بنحو مائة ألف جندي في عشرات القواعد العسكرية التابعة لها ولحلف الأطلنطي في أوروبا ومنها قواعد بها أسلحة نووية أمريكية، وذلك بالرغم من أن لكل من فرنسا وبريطانيا قوتها النووية الخاصة بها، وأكثر من ذلك تشعر الدول الأوروبية بالقلق عندما تلوح واشنطن بأنها ستخفض أعداد قواتها أو أنها ستسحب بعض وحداتها من أوروبا، والأمثلة عديدة في هذا المجال.

وقد استغل الرئيس الأمريكي السابق ترامب هذا الأمر ليدفع الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو لزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي لها. وبالنظر إلى أن الأوروبيين خبروا الحروب، ولا يريدون نشوب مواجهات مسلحة في أوروبا مرة أخرى، فإنهم انزعجوا بشدة من السلوك الروسي في عام 2008 و2014 و2022 ضد جورجيا وضد أوكرانيا بالنظر إلى قيام موسكو باستخدام القوة المسلحة وضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية ثم اجتياح حدود أوكرانيا في فبراير الماضي، ولعل هذا هو ما يفسر الاصطفاف الأوروبي وراء واشنطن ومجاراتها في فرض العقوبات على روسيا وإمداد أوكرانيا بالأسلحة، وهو ما تحرض واشنطن عليه بالطبع لأسباب تخصها هي في المقام الأول. ومع أن باريس وبرلين تحاولان الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة مع موسكو؛ لأنهما تدركان أهميتها لتحقيق السلام في أوروبا في النهاية، إلا أن الموقف الأوروبي يظل رهينة وتابعا للموقف الأمريكي لاعتبارات كثيرة وهو ما يضع حدًا للقدرة الأوروبية على المناورة وعلى اتخاذ مواقف مغايرة للمواقف الأمريكية. وتحرص واشنطن على استمرار ذلك بغض النظر عن المبررات التي تساق في هذا المجال.

ثالثا: إن الاتحاد الأوروبي ليس منظمة مثالية ولكنه منظمة تجمع عددًا من الدول ذات المصالح المتبادلة والرؤى المتنوعة، ولكنها تحاول زيادة القواسم المشتركة ومساحة التنسيق فيما بينها لصالحها جميعًا وبشكل واقعي ومتوازن. ومن هنا فإنه من الطبيعي أن تظهر الخلافات بين أعضاء الاتحاد عندما تتعارض المصالح، وكان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - البريكسيت - بعد أكثر من ثلاثين عامًا من عضويتها فيه مثالا بالغ الدلالة. ومع اتساع عضوية الاتحاد الأوروبي، ظهرت خلافات وانقسامات وعدم توافق في وجهات النظر بين الدول الأعضاء، حول توزيع اللاجئين الذين يصلون في هجرات غير شرعية إلى أراضي الاتحاد، وحول توزيع المساعدات المالية لدول جنوب الاتحاد وللأعضاء الآخرين في شرق أوروبا الذين يواجهون مشكلات اقتصادية، وكذلك حول فرض عقوبات على روسيا، وحول اقتراح حظر الطاقة الروسية -النفط والغاز- مع أواخر هذا العام، وحتى حول دور المفوضية الأوروبية وإعادة النظر في وثائق الاتحاد ومؤسساته وهو من مقترحات المفوضية الأوروبية نفسها. وذلك على سبيل المثال لا الحصر. غير أن دول الاتحاد الأوروبي قادرة بوعي على حصر خلافاتها والتفاوض حولها دون أن تؤثر خلافاتها على مجالات الاتفاق والتعاون فيما بينها، وهو ما نفتقده نحن بشدة على المستوى العربي.

وبالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يشترط لعضويته سوى أن تكون الدولة الراغبة في الانضمام إليه دولة أوروبية وأن تؤمن بالقيم الأوروبية خاصة فيما يتصل بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وأن يتيقن الاتحاد من استيفائها لهذه الشروط عبر مفاوضات طويلة ومتعددة المراحل بين الدولة المرشحة وبين المفوضية الأوروبية، ثم يتم قبول عضويتها بإجماع الدول الأعضاء وفقًا لنظام الاتحاد الذي يأخذ بقاعدة الإجماع بالنسبة للقضايا المهمة، فقد ازداد عدد أعضاء الاتحاد ليصل إلى 27 دولة (وكان العدد 6 دول فقط في اتفاقية روما عام 1957) وسيزداد العدد بالتأكيد في السنوات القادمة، خاصة مع تزايد مخاوف جيران روسيا بعد الحرب في أوكرانيا، وما يمثله الاتحاد الأوروبي من دعم لها في حال تعرضها لتهديات موسكو. غير أن الوجه الآخر للتضخم في العضوية هو ضعف فعالية الاتحاد وقدرته على العمل الجماعي لصالح كل أعضائه، خاصة في ظل قاعدة الإجماع التي رفضت 13 دولة من الدول الأعضاء الـ 27 إعادة النظر فيها وفضلت الإبقاء عليها؛ لأنها تمثل حماية لها في مواجهة أية قرارات لا تريد الالتزام بها حسب مصالحها. وقد يقول قائل إن الناتو يضم 30 دولة، وهو أكثر قدرة وفعالية من الاتحاد الأوروبي، والسبب في هذا يعود إلى طبيعة حلف الناتو فهو حلف عسكري تقوده الدولة العظمى الأولى في عالم اليوم، وتأثيرها ونفوذها كاسح في أداء الحلف ومواقفه، أما الاتحاد الأوروبي فهو منظمة سياسية لم تفتح الباب أمام تركيا للانضمام الكامل إليها حتى الآن، برغم أن تركيا من الدول ذات الأهمية الكبيرة في حلف الأطلنطي منذ تأسيسه. وإذا كان الاتحاد الأوروبي سيظل مهمًا من أجل السلام في أوروبا، خاصة بعد استعادة الثقة مع روسيا وبناء علاقات أفضل معها بعد انتهاء الحرب في أوروبا.