هل قيل عن الحداثة أكثر من اللازم؟

من الذي يطرح سؤال الحداثة اليوم: السياسيون أم المثقفون؟ أم المجتمع المدني؟ وهل هناك مجتمعات مدنية حقيقية فاعلة في المشهد العربي لها ثقلها وتأثيرها الحيوي في توجيه إرادات الشعوب؟ كم يبدو سؤال الحداثة ومناقشته في مجتمعاتنا إلى اليوم سؤالًا إشكاليًّا. فالمجتمعات التي ظنت أنها قد قطعت شوطا كبيرا مع الحداثة من خلال العمران والمؤسسات والتعليم والصحة والقضاة والحريات، إذا بها تجد نفسها ما تزال لم تغادر ذلك السؤال المقضّ.

والناظر اليوم إلى مآلات المجتمعات العربية على الأقل حول سؤال الحداثة والحريات الفكرية وتراجع أدوار النخب الثقافية فيها، والقرارات السياسية والانقلاب على المعتقدات المجتمعية لدى الأجيال الجديدة سيجد أن الوضع يتّسم بالغرابة. ليس الحال واحدًا أو متطابقًا في جميع الدول، لكن الشعور بتفاقم الوضع البشري بات مقلقًا. سؤال الحداثة لا يخصنا وحدنا، فالعالم تتأثر حدوده وتتجاذب أطرافه. استوقفتني الأسئلة السابقة بعد مناقشة كتاب (ملامح الحداثة في المسرح العربي) تأليف الدكتورة عزة القصابية، الصادر مؤخرًا عن الهيئة العربية للمسرح.

يجري الكلام عن الحداثة في هذا الزمن والأحداث السياسية تتداعى والمتغيّرات الاقتصادية يتفاقم تأثيرها على الشعوب في العالم كافة، الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالرّبكة والاختلال وتأمل في القناعات لمراجعتها. فهذا الغربُ الذي يَقتسم معنا قوتنا، هو النموذج الأوحد الذي نرى فيه تقدمنا! فلا نموذجَ غيره. الغرب الأوروبي الذي كشف الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022م قبح أعماقه وتناقضه؛ إذّ يدعو العالم إلى قيّم الديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وفي الآن نفسه يتناقض مع ما يدعو إليه نحو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولكنه برغم ذلك التشوّه الأخلاقي يظل المرآة التي نقف أمامها لنعرف إلى أين وصلنا؟ ومنطق التفكير يَلتف حول هذه الجزئية منطلقا بالنظر إلى أن الغرب -بالرغم من مشكلاته الداخلية- قد اكتمل نموّه وبناؤه واستقراره وقطع شوطا كبيرا مع التحديث على جميع المستويات، فهو خال من عقد النقصّ الحضارية! ليجرّ هذا الطرح استدعاء ومناقشة مفاهيم أخرى أكثر عمقًا حول قوة الحضارة وحضارة القوة، وهل نحن وحدنا المعنيون بنقاشها على اعتبار أن الآخر قد انتهى من تأمل ومناقشة شرطه التاريخي.

من الحوارات الشيّقة التي تشير إلى فكرة الغرب الحديث المتمدن، ويمكن الاستدلال بها في سياق عنوان مقالتنا، لقاء أجراه سعدالله ونوس مع جان جينيه -نُشر في الأعمال الكاملة المجلد الثالث- وهما يسيران ذات يوم ما بين الأعمدة الضخمة في العاصمة باريس، حينما سأل الأخير الأول عن سبب زيارته إلى فرنسا؟ وكان سؤاله سؤال العارف بالأمر؛ فسعدالله ونوس لم يكن يهتم بالدورة التدريبية التي أراد خوضها قدر اهتمامه بالاطلاع والتعلّم! فقال له جينيه: "لا يُمكن أن تتعلّم أيّ شيء هنا [...] اسمع، إن الحضارة الأوروبية تمّت وانتهت. إنّها الآن في طور الاحتضار أو الموت. فماذا يمكن أن تتعلّموا من حضارة تحتضر أو تموت؟".

في حدود ما تسنّى لي قراءته والاطلاع عليه، فإنّ الالتفاف حول معنى ترجمة كلام جينيه التي قام بها ونوس مسألة ليست حاسمة أو نهائية! فالقديس لم يعد بيننا اليوم ليدلنا على أحوال أو دلائل تلك الحضارة التي تحتضر، وكذلك ونوس. من جانب آخر، وفي سياق النقل والترجمة فيما يخصّ بدايات مشروع النهضة العربية والتنوير، وانشغال الفكر العربي بالمدنية وبدايات الحركة المسرحية في عالمنا العربي، وتركيز المثاقفة والنخب كما يُعبّر الدكتور محمد المديوني "بالتطلعات التحديثية والوطنية" فإنّ انتباه المسرحيين الأوائل إلى المعنى غير المُعلن في حضارة الغرب التي تحتضر أو تموت لم يكن على البال، هل فعلا مروا على ذلك وتجاوزوه؟

يربط معجم (مفاتيح اصطلاحية جديدة- معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع) الحداثة "بفكرتي التقدم والتطور المنسوبتين للغرب" وفي ظاهرها السطحي يحلو للبعض عدّها حداثة خارجية معنية باستهلاك الماديات، لكن التفكير العميق في الحداثة على ما يحفّ هذا المصطلح من تعقيدات، فإنّ لديها مرتكزات أساسية أسهمت في تعريفها أبرزها كما جاء في كتاب (الحداثة) لمحمد سبيلا، وعبدالسلام بنعبدالعالي: أنّ الإنسان يُعدُّ مرتكز الكون. وأن العالم الطبيعي هو العالم الحقيقي الذي يجب أن تنصرف البشرية المتقدمة إلى الإيمان به. ولكي يتم تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان وحيازتها والسيطرة على الجغرافيا فينبغي التركيز بالضرورة على أن العقل ميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده، ثم يأتي الإيمان بالقوى والروابط الإنسانية أساسا لبناء المجتمعات الحديثة.

في ظلّ المرتكزات السابقة يسأل المرء ومعه الشكوك حول كلّ شيء: هل انتهى اكتشاف الإنسان فعلا؟ هل انتهت أسئلة الفلسفة والشكك العقلي والنقدي وتوقفت الدهشة أو استقرت عند حدود ما بعد اللاهوت؟ هل استطاع العقل إدراك كلّ شيء في هذه الطبيعة التي يدّعي أنه قد سيطر عليها؟ كيف يُدرك فعالية إمكانيات الخلاص المتوفرة؟ وما عدد مراحل الإدراك التي يختلف بسببها الشعور؟ إن التسليم بتعريف الحداثة أنها مشروع فكري عقلاني مستنير، أدخل الدول المتقدمة إلى منطقة الصراعات من أجل الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب، وصار منظر الدبابة والبارود والإتجار بالسلاح وغسيل الأموال، أهدافا واضحة لتوسيع رأس المال، والإطاحة بالقيم الإنسانية النبيلة. إن ثقافة القوة تسود اليوم وتزحف للقضاء على الحداثة بأدواتها! وهذا في الواقع، لم تكشف عنه الحرب الحاصلة ما بين روسيا وأوكرانيا فحسب، إنما يمكن إعادته إلى جائحة كوفيد -19 التي لم تغيّر ذائقة العالم حول معنى الثقافة والحداثة والإنسان فحسب، لكنها أسهمت بقدر غير قليل في إضاءة المناطق المعتمة التي في داخله، ووضعت مجمل يقينياته على محك الاختبار، وكيف أن الحداثة التي يظن الظانون أن صفحتها قد أغلقت، وأن ملفاتها قد جرى تجاوزها، بات من الأفضل لهم الوقوف والتأمل حول هذا القتل المُشرّعِن تارة بمنطق العلم الحديث وتارة أخرى بالجشع البشري وتوسع أشكال مراقبة المجتمعات لاختراق أمنها وأمانها واستقلالها!