أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية وملامحها الأولية، وهي تدخل شهرها الخامس، أهمية المتغير الأساسي لتلك الحرب وهي الطاقة كالنفط والغاز، وخاصة الغاز الذي يمثل القوة المحركة للصناعة والكهرباء وغيرها من ممكنات الاقتصاد الأوروبي بشكل خاص.

ومن هنا يمكن إطلاق مصطلح الحرب العالمية حول الطاقة بكل موضوعية لأن الورقة الأساسية التي تستخدمها روسيا الاتحادية أمام قسوة العقوبات الاقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية هو سلاح الغاز. ويبدو أن أي حلّ سياسي محتمل للحرب الحالية بين موسكو وكييف سيكون سببه المباشر هو موضوع الغاز تحديدا في ظل اعتماد عدد من الدول الغربية على الغاز الروسي خاصة ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والنمسا وحتى تركيا علاوة على دول مهمة كالصين واليابان. ومن هنا فإن معركة الطاقة الحالية هي المعركة التي سوف تغير مسار الحرب سلبا أو إيجابا.

الورقة الاستراتيجية

منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير الماضي والمؤشرات تتحدث عن حرب معقدة وهي أقرب إلى توصيف حرب استنزاف، وهو الأمر الذي راهن عليه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بهدف جر موسكو إلي حرب غير محددة النهاية وفيها حالة من عدم اليقين وتزويد أوكرانيا بالسلاح الغربي المتطور لزيادة أمد الحرب علاوة على العقوبات الاقتصادية القاسية.

وما يحدث الآن في مسار الحرب هو التركيز الغربي على هذه المعطيات علاوة على الأهداف الاستراتيجية غير المعلنة وهي إضعاف روسيا الاتحادية، على الجانب الآخر فإن روسيا الاتحادية والرئيس بوتين يدرك، وهو الذي يأتي من أحد أشهر وأهم أجهزة الاستخبارات في العالم؛ أن شن الحرب على أوكرانيا له تبعات اقتصادية وعسكرية. ومن هنا فإن استخدام ورقة الطاقة خاصة الغاز ربما تفوق أهمية الورقة العسكرية من خلال تأثيرها المباشر على مسار الحرب في نهاية المطاف. ونحن الآن أمام مشهد عض الأصابع كما يقال في ظل استخدام كل الأوراق من قبل الأطراف ذات العلاقة بالحرب الروسية على أوكرانيا.

الحديث عن مقاطعة الطاقة الروسية من قبل الدول الغربية أثار الكثير من الشك خاصة لدول كالمجر وحتى ألمانيا وإيطاليا حتى لو كانت تلك المقاطعة متدرجة لتصل إلى تسعين في المائة من إمدادات الطاقة بنهاية هذا العام. كما أن تعويض الغاز الروسي من مصادر أخرى يبدو عملية ليست سهلة. ومن هنا فإن معركة الطاقة بكل مشاهدها هي بالفعل حرب عالمية كبرى في ظل التحركات الأمريكية الأخيرة ومحاولة تفكيك تكتل أوبك بلس والحديث عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة حيث سيكون موضوع الطاقة هو أحد الملفات المهمة والحيوية في إطار الحرب بالوكالة بين موسكو وواشنطن.

الصين والهند

على الجانب الآخر فإن هناك ميزة مهمة لروسيا الاتحادية للتغلب على العقوبات الغربية فيما يخص الطاقة حيث يوجد شركاء لموسكو وفي حاجة ماسة للطاقة ولعل الصين والهند هم من أكبر المستفيدين من ذلك الصراع على الطاقة من خلال تدفق الغاز والنفط الروسي بأسعار تفضيلية. وهنا تكمن معضلة واشنطن والدول الغربية من خلال تلك الشراكات الاستراتيجية بين روسيا الاتحادية ومعها عدد من الدول مثل الصين والهند وإيران وحتى تركيا حيث تستورد أنقرة نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا الاتحادية.

وعلى ضوء ذلك فإن معركة الطاقة سوف يكون لها تأثيرات مباشرة على دول العالم المختلفة، وقد يكون هناك تأثيرات سلبية على الدول الغربية كما يحدث الآن في السويد وفنلندا حيث تم قطع إمدادات الغاز عن الدولتين بسبب تقديم طلبهما إلى الناتو، وهو الأمر الذي أغضب روسيا الاتحادية.

ومن هنا فإن المشهد يتدحرج بشكل كبير ومن الصعب التكهن بمدى مسار الحرب ولكن تلك الحرب سوف تأخذ مسارات متعددة وقد تنتهي بسيطرة موسكو على عدد من المناطق الشرقية في أوكرانيا أو قد تتحول الحرب إلى حرب استنزاف كما هو مخطط لها من الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.

مسار الحرب

تلعب الطاقة في تاريخ الحروب دورا محوريا خاصة لأهميتها في تواصل العمليات والتموين وفي قطاع الكهرباء والمياه وسير حركة القطع العسكرية البرية والجوية والبحرية، وهذا أمر معروف لكن استخدام الطاقة بوصفها متغيرا سياسيا للضغط بهدف وقف الحرب أو تغيير مسارها، وهو الأمر الذي يفسر العقوبات الاقتصادية القاسية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بهدف الضغط على روسيا الاتحادية لوقف الحرب والانسحاب من الأراضي الأوكرانية كما أن متغير مقاطعة النفط والغاز الروسي هو متغير استراتيجي يدخل في إطار الحروب ولعل النموذج العربي في قطع إمدادات النفط عن الدول الغربية خلال حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ لا يزال عالقا في الأذهان. والآن نحن نشهد فصلا جديدا لاستخدام عنصر الطاقة في الحرب. وفي المحصلة الأخيرة فإن ورقة الطاقة سوف تكون حاسمة فقد تنجح روسيا الاتحادية في التغلب عليها بفضل الاعتماد المباشر على الشركاء خاصة الصين والهند أو تنجح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في جعل روسيا الاتحادية تراجع حساباتها، وتشهد الحرب انحسارا يؤدي إلى مفاوضات وتوقيع اتفاق سلام موضوعي بين موسكو وكييف تكون نقطته الأساسية تخلي أوكرانيا عن الانضمام إلى حلف الناتو.

وعلى ضوء كل تلك المؤشرات فإن حرب الطاقة يستحق الدراسة والتأمل من خلال مشهد الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرات ذلك على قضايا إقليمية واقتصادية متعددة وحتى على مستقبل الطاقة بشكل عام.