الترجمة عن الروسية: يوسف نبيل
في خريف 1922 انتهت الحرب الأهلية في روسيا، وبعد مرور بضعة أشهر سوف تحتفل الدولة بمرور مائة عام على هذا الحدث المهم.
كان من المفترض أن تكون مائة عام فترة طويلة يمكن فيها للبلاد أن تُشفَى من جميع جراح هذه المأساة، وتجد لنفسها مكانًا في العالم، ولكن البحث عن هذا المكان لا يزال مستمرًا.
يتزايد الحديث باستمرار في دوائر الخبراء عن حقيقة أن عصر اللحاق بالتحديث استنادًا إلى المصادر النفطية قد انتهى بالفعل، وإن البلاد على مفترق الطرق ثانية.
إذا أرادت البلاد ألا تكون على هامش الحركة العالمية عليها بالتحديث الذي يستند إلى التقنيات الحديثة لا الموارد الطبيعية.
لا تترك لنا وتيرة التحديث في الغرب، بل وفي الصين والهند أيضًا في الأعوام الأخيرة، فرصة لنضيع الوقت.
يُطرح التساؤل فعلا في المجال العام الآن بشأن ما إذا كانت روسيا قادرة على اللحاق بركب هذه التغييرات مفرطة السرعة أم لا.
ألم يحن الوقت بعد لتنتقل من إنتاج العظمة السياسية إلى إنتاج التقنيات المتقدمة؟
تخطي العتبة
كم من الوقت سيستغرق هذا الانتقال في ظل تفاقم العلاقات بين موسكو والدول الأوروبية بكل ما يتضمنه ذلك من عزلة علمية وتقنية في ظل الأحداث الأخيرة في أوكرانيا؟
امتدت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا أكثر من ثلاثة أشهر. يُعرب الكرملين عن ثقته في النصر. لا يزال تأييد المواطنين للعملية كبيرًا، ولكن لا أحد يبتهج بامتداد العمليات العسكرية؛ خاصة في أوساط الشباب حيث تنتشر الشائعات التي يتم دحضها رسميًا باستمرار حول احتمالية حدوث تعبئة عامة.
الأمر الذي يؤجج القلق أيضًا هو النهج المستمر لحلف شمال الأطلسي تجاه بلادنا. يدرس المحللون إمكانية حدوث صدام مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي الذي يضم حوالي 30 بلدًا.
كما أن أزمة العلاقات مع فنلندا وسويسرا، حيث أعلنت كلاهما عن نيتها الانضمام إلى حزب شمال الأطلسي تثير مخاوف إضافية. بعد انهيار اتفاقية وارسو تقلصت العلاقات مع روسيا الحليفة بدرجة ملحوظة. ليست هناك أكثر من 5 دول فقط علاوة على روسيا في معاهدة الأمن الجماعي ОДКБ التي تأسست في 1992، وهذه الدول هي أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا وطاجيكستان، ولكل هذه الدول إمكانات عسكرية محدودة للغاية.
أدى الطرد السياسي لروسيا من أوروبا بتشجيع من واشنطن إلى اندلاع أزمة سياسية حادة. في الفترة الأخيرة أُجبر أكثر من 400 دبلوماسي على العودة إلى موسكو. وفقًا للتقليد الراسخ، وهو تقليد غريب كفاية ولكن يلزم أن أذكره، يتم شطب الدبلوماسيين الذين يذهبون للعمل خارج حدود البلاد من قائمة الوزراء، وعند عودتهم إلى موسكو غالبًا لا يستطيعون لسنوات أن يعودوا إلى عملهم. من غير الواضح كيف ستتمكن وزارة الخارجية من حل هذه المشكلة.
ثمة محادثات تجري الآن في موسكو وعدد من العواصم الأوروبية بشأن إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية كاملة. يحاول المتفائلون طمأنتنا قائلين إننا في هذه الحالة ستكون لدينا الصين بكل قوتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية باستمرار. من وجهة نظري فرضية أن ارتداء روسيا لرداء بكين سوف يُعوِّضها عن كل الخسائر السياسية والاقتصادية الناجمة عن تقليص التعاون مع بلدان أوروبا الغربية هي فرضية ذات طبيعة عاطفية وغير دقيقة.
هنا تتبادر بعض الأسئلة إلى الذهن: ما القواعد والمعايير التي عاشت روسيا وفقًا لها في العقود الأخيرة؟ هل نشغل موقعًا صحيحًا في المجتمع العالمي؟ هل نستخدم أوراقًا رابحة في خلافاتنا مع خصومنا؟
كينونة خاصة
في الأعوام الأخيرة أدت الجهود الدعائية حول «عظمتنا» ودورنا الخاص في تشكيل النظام العالمي الجديد إلى تشوه تصورات قطاع كبير من المواطنين بدرجة خطيرة عن مكانة روسيا الحقيقية في العالم.
ما يقارب من 90% من المواطنين يعتقدون أن «روسيا يجب أن تعيش وفق قواعدها الخاصة دون الالتفات إلى الغرب»». ما هذا أيها السادة الرفاق! لقد عشنا وفقًا لقواعدنا الخاصة لأكثر من 150 عامًا، وهي قواعد شعرية أكثر من كونها عملية. أتتذكرون أبيات توتشيف:
لا يمكن فهم روسيا بالعقل
ولا قياس مشترك يمكنه قياسها
لديها كينونتها الخاصة
لا يسع المرء إلا أن يؤمن بروسيا
ولكن هذه القواعد صيغت بوضوح في ستينيات القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين لم يزداد وزن روسيا العالمي؛ بل الأمر على النقيض.
اليوم لا نشكل أكثر من 3% من إجمالي الناتج العالمي، بينما تُشكل الصين 17%. فيما يتعلق بمؤشر التنمية البشرية الذي تصدره الأمم المتحدة سنويًا، ويتضمن معايير مثل مستوى المعيشة ومحو الأمية والتعليم وطول العمر، تشغل روسيا المركز 52 على مستوى العالم.
هل يكفي إيفان الرهيب
بدءًا من عصر إيفان الرهيب وتقاليد رفض الغرب راسخة للغاية. من وجهة نظري لم يجلب هذا الانقطاع شيئًا للبلاد سوى الضرر. تؤكد العقوبات الأكثر صرامة التي فرضها الغرب على روسيا منذ 2014 ذلك. في القطاعات العليا يبدو أنهم قد صاروا واعين بذلك، ثم خفّت حدة الخُطب عن «عظمة روسيا» و«مصيرها الخاص». ربما ندرك في نهاية الأمر أن الغرض من سياسة الدولة يجب أن يتمثل في تحسين حياة الشعب وزيادة عدد الأصدقاء والحلفاء.
صرّحت رئيسة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا صراحة: إنه «طالما يحدث العكس لن تكون الأرباع السنوية القادمة سهلة، وحتى إذا استطاع الاقتصاد أن يتكيف سيكون الأمر صعبًا على الشركات والمواطنين».
ينعكس ذلك على الحالة المزاجية العامة للناس. يزداد رحيل الشباب العاملين في مجال العلم وتكنولوجيا المعلومات. توضح لنا استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤخرًا مؤسسة «الرأي العام» أسباب ذلك؛ وهي تتمثل في غياب الاستقرار وتزعزع الثقة في المستقبل وتنامي القلق.
تؤكد المؤشرات الديموغرافية على الأمر ذاته حيث يؤجل قطاع كبير من الأسر ولادة أطفال إلى أجل غير مسمى. يرغب قطاع كبير من النساء الروسيات (حوالي 88%) في إنجاب أطفال ولكن «ليس الآن». السبب الرئيس الكامن خلف ذلك هو تزعزع الثقة في المستقبل.
تحاول السلطة أن ترتق حالة القلق العامة للمواطنين بمبادرات تفاؤلية جديدة. فيما يتعلق بذلك احتفلت بالذكرى المئوية بالرواد السوفييت، كما تقرر الاستفادة من السمات الإيجابية لمنظمة الرواد في الاتحاد السوفييتي السابق، كما تنشئ البلاد حركة جديدة للأطفال تُسمى «التغيير الكبير».
تُرى هل سيُكلَّل هذا المشروع بالنجاح؟
فياتشيسلاف كوستيكوف دبلوماسي وصحفي وكاتب روسي شغل منصب السكرتير الصحفي للرئيس الروسي بوريس يلتسين
المقال مترجم عن موقع Aif.ru
في خريف 1922 انتهت الحرب الأهلية في روسيا، وبعد مرور بضعة أشهر سوف تحتفل الدولة بمرور مائة عام على هذا الحدث المهم.
كان من المفترض أن تكون مائة عام فترة طويلة يمكن فيها للبلاد أن تُشفَى من جميع جراح هذه المأساة، وتجد لنفسها مكانًا في العالم، ولكن البحث عن هذا المكان لا يزال مستمرًا.
يتزايد الحديث باستمرار في دوائر الخبراء عن حقيقة أن عصر اللحاق بالتحديث استنادًا إلى المصادر النفطية قد انتهى بالفعل، وإن البلاد على مفترق الطرق ثانية.
إذا أرادت البلاد ألا تكون على هامش الحركة العالمية عليها بالتحديث الذي يستند إلى التقنيات الحديثة لا الموارد الطبيعية.
لا تترك لنا وتيرة التحديث في الغرب، بل وفي الصين والهند أيضًا في الأعوام الأخيرة، فرصة لنضيع الوقت.
يُطرح التساؤل فعلا في المجال العام الآن بشأن ما إذا كانت روسيا قادرة على اللحاق بركب هذه التغييرات مفرطة السرعة أم لا.
ألم يحن الوقت بعد لتنتقل من إنتاج العظمة السياسية إلى إنتاج التقنيات المتقدمة؟
تخطي العتبة
كم من الوقت سيستغرق هذا الانتقال في ظل تفاقم العلاقات بين موسكو والدول الأوروبية بكل ما يتضمنه ذلك من عزلة علمية وتقنية في ظل الأحداث الأخيرة في أوكرانيا؟
امتدت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا أكثر من ثلاثة أشهر. يُعرب الكرملين عن ثقته في النصر. لا يزال تأييد المواطنين للعملية كبيرًا، ولكن لا أحد يبتهج بامتداد العمليات العسكرية؛ خاصة في أوساط الشباب حيث تنتشر الشائعات التي يتم دحضها رسميًا باستمرار حول احتمالية حدوث تعبئة عامة.
الأمر الذي يؤجج القلق أيضًا هو النهج المستمر لحلف شمال الأطلسي تجاه بلادنا. يدرس المحللون إمكانية حدوث صدام مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي الذي يضم حوالي 30 بلدًا.
كما أن أزمة العلاقات مع فنلندا وسويسرا، حيث أعلنت كلاهما عن نيتها الانضمام إلى حزب شمال الأطلسي تثير مخاوف إضافية. بعد انهيار اتفاقية وارسو تقلصت العلاقات مع روسيا الحليفة بدرجة ملحوظة. ليست هناك أكثر من 5 دول فقط علاوة على روسيا في معاهدة الأمن الجماعي ОДКБ التي تأسست في 1992، وهذه الدول هي أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا وطاجيكستان، ولكل هذه الدول إمكانات عسكرية محدودة للغاية.
أدى الطرد السياسي لروسيا من أوروبا بتشجيع من واشنطن إلى اندلاع أزمة سياسية حادة. في الفترة الأخيرة أُجبر أكثر من 400 دبلوماسي على العودة إلى موسكو. وفقًا للتقليد الراسخ، وهو تقليد غريب كفاية ولكن يلزم أن أذكره، يتم شطب الدبلوماسيين الذين يذهبون للعمل خارج حدود البلاد من قائمة الوزراء، وعند عودتهم إلى موسكو غالبًا لا يستطيعون لسنوات أن يعودوا إلى عملهم. من غير الواضح كيف ستتمكن وزارة الخارجية من حل هذه المشكلة.
ثمة محادثات تجري الآن في موسكو وعدد من العواصم الأوروبية بشأن إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية كاملة. يحاول المتفائلون طمأنتنا قائلين إننا في هذه الحالة ستكون لدينا الصين بكل قوتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية باستمرار. من وجهة نظري فرضية أن ارتداء روسيا لرداء بكين سوف يُعوِّضها عن كل الخسائر السياسية والاقتصادية الناجمة عن تقليص التعاون مع بلدان أوروبا الغربية هي فرضية ذات طبيعة عاطفية وغير دقيقة.
هنا تتبادر بعض الأسئلة إلى الذهن: ما القواعد والمعايير التي عاشت روسيا وفقًا لها في العقود الأخيرة؟ هل نشغل موقعًا صحيحًا في المجتمع العالمي؟ هل نستخدم أوراقًا رابحة في خلافاتنا مع خصومنا؟
كينونة خاصة
في الأعوام الأخيرة أدت الجهود الدعائية حول «عظمتنا» ودورنا الخاص في تشكيل النظام العالمي الجديد إلى تشوه تصورات قطاع كبير من المواطنين بدرجة خطيرة عن مكانة روسيا الحقيقية في العالم.
ما يقارب من 90% من المواطنين يعتقدون أن «روسيا يجب أن تعيش وفق قواعدها الخاصة دون الالتفات إلى الغرب»». ما هذا أيها السادة الرفاق! لقد عشنا وفقًا لقواعدنا الخاصة لأكثر من 150 عامًا، وهي قواعد شعرية أكثر من كونها عملية. أتتذكرون أبيات توتشيف:
لا يمكن فهم روسيا بالعقل
ولا قياس مشترك يمكنه قياسها
لديها كينونتها الخاصة
لا يسع المرء إلا أن يؤمن بروسيا
ولكن هذه القواعد صيغت بوضوح في ستينيات القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين لم يزداد وزن روسيا العالمي؛ بل الأمر على النقيض.
اليوم لا نشكل أكثر من 3% من إجمالي الناتج العالمي، بينما تُشكل الصين 17%. فيما يتعلق بمؤشر التنمية البشرية الذي تصدره الأمم المتحدة سنويًا، ويتضمن معايير مثل مستوى المعيشة ومحو الأمية والتعليم وطول العمر، تشغل روسيا المركز 52 على مستوى العالم.
هل يكفي إيفان الرهيب
بدءًا من عصر إيفان الرهيب وتقاليد رفض الغرب راسخة للغاية. من وجهة نظري لم يجلب هذا الانقطاع شيئًا للبلاد سوى الضرر. تؤكد العقوبات الأكثر صرامة التي فرضها الغرب على روسيا منذ 2014 ذلك. في القطاعات العليا يبدو أنهم قد صاروا واعين بذلك، ثم خفّت حدة الخُطب عن «عظمة روسيا» و«مصيرها الخاص». ربما ندرك في نهاية الأمر أن الغرض من سياسة الدولة يجب أن يتمثل في تحسين حياة الشعب وزيادة عدد الأصدقاء والحلفاء.
صرّحت رئيسة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا صراحة: إنه «طالما يحدث العكس لن تكون الأرباع السنوية القادمة سهلة، وحتى إذا استطاع الاقتصاد أن يتكيف سيكون الأمر صعبًا على الشركات والمواطنين».
ينعكس ذلك على الحالة المزاجية العامة للناس. يزداد رحيل الشباب العاملين في مجال العلم وتكنولوجيا المعلومات. توضح لنا استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤخرًا مؤسسة «الرأي العام» أسباب ذلك؛ وهي تتمثل في غياب الاستقرار وتزعزع الثقة في المستقبل وتنامي القلق.
تؤكد المؤشرات الديموغرافية على الأمر ذاته حيث يؤجل قطاع كبير من الأسر ولادة أطفال إلى أجل غير مسمى. يرغب قطاع كبير من النساء الروسيات (حوالي 88%) في إنجاب أطفال ولكن «ليس الآن». السبب الرئيس الكامن خلف ذلك هو تزعزع الثقة في المستقبل.
تحاول السلطة أن ترتق حالة القلق العامة للمواطنين بمبادرات تفاؤلية جديدة. فيما يتعلق بذلك احتفلت بالذكرى المئوية بالرواد السوفييت، كما تقرر الاستفادة من السمات الإيجابية لمنظمة الرواد في الاتحاد السوفييتي السابق، كما تنشئ البلاد حركة جديدة للأطفال تُسمى «التغيير الكبير».
تُرى هل سيُكلَّل هذا المشروع بالنجاح؟
فياتشيسلاف كوستيكوف دبلوماسي وصحفي وكاتب روسي شغل منصب السكرتير الصحفي للرئيس الروسي بوريس يلتسين
المقال مترجم عن موقع Aif.ru