(تعال معا لتحديد المسار المستقبلي ليس فقط في الابتكار، بل أيضا في الاقتصاديات والمجتمعات في العالم)
هكذا يبدأ تقرير (الملكية الفكرية العالمية 2022. اتجاه الابتكار)، الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية، الذي يقودنا إلى الكشف عن قدرة التقنيات الرقمية على تحويل مساحات كبيرة من الاقتصاد العالمي، ويعرِّفنا على تلك المتغيرات التي تطرأ على القرارات المتعلقة بالابتكار، إضافة إلى (الصدمات)، و(الطوارئ) التي "يمكن أن تغير طلب المجتمعات للابتكار في غمضة عين" ـ بتعبير التقرير ـ.
يبدأ التقرير بمناقشة العوامل الرئيسة التي تحكم (اتجاه الابتكار)، بما في ذلك العلاقات بين العوائد الاجتماعية، والعوائد الخاصة، التي يمكن الاستفادة منها بفاعلية من (أجل الصالح العام)؛ حيث يتميز هذا التقرير بالمناقشات المفاهيمية لسلسلة من دراسات الحالة التاريخية، مثل (طبية الابتكار خلال الحرب العالمية الثانية، والتطور لسباق علم الفضاء، وظهور صناعات التكنولوجيا في شرق آسيا)، كل ذلك من أجل إبراز تنوع العوامل وأصحاب المصلحة، الذين يؤثرون بشكل مباشر في تحديد (اتجاه الابتكار) وتقديم رؤى متعلقة بـ (الاقتصادات عالية التصنيع والاقتصادات الناشئة)، هكذا يختتم التقرير مناقشاته بمحاولة الإجابة عن مجموعة من التساؤلات من قبيل:
كيف يمكن للابتكار أن يساعد في مواجهة التحديات العالمية الحالية والمستقبلية؟
كيف يمكننا توجيه (اتجاه الابتكار) نحو نتائج تعود بالفائدة على الاقتصادات والمجتمعات والكوكب؟
وما رافعات السياسة التي يمكن أن يتم سحبها لمواءمة حوافز الابتكار الخاصة مع الاحتياجات الاجتماعية الأخلاقية؟
وما الذي يمكن عمله لدعم أفضل للدول النامية والأقل نموا لمتابعة فرص الابتكار؟
ففي حين يتطلَّع العالم ويعمل من أجل إعادة البناء بعد الجائحة، فإن للابتكار دورا كبيرا و(حاسما) لفتح إمكانات جديدة للنمو الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي فإن الحاجة لإيجاد حلول للتحديات المشتركة التي يواجهها العالم تزداد إلحاحا، وبناء على ذلك، فإن التقرير يخبرنا عن تلك القوى الجديدة التي تقود اتجاه الابتكار في مجالات العلوم والتكنولوجيا والطب والتقنيات التنبئية، والتي ترتبط بالرقمنة وقدرتها على تحفيز النمو الاقتصادي، غير أنها تخاطر بما يطلق عليه (عدم المساواة الاقتصادية)، وهذا يعني أن التسارع في التنمية التقنية دون الالتفات إلى التنمية البشرية والتوازن بين الاستثمار في رأس المال والقوى العاملة ذات المهارات العالية سيؤدي إلى بروز مجموعة من التحديات على المستوى الاجتماعي.
اللافت في التقرير هو ربطه بين الابتكار والعوائد الاجتماعية، التي يعتبرها أهم دوافع الابتكار؛ ذلك لأن "للابتكار تأثير تحولي في السراء والضراء على البيئة، والصحة، والمجتمعات المحلية أو التركيبة السكانية.." ـ بحد تعبيره ـ، وهي عوائد تقود تطور الابتكار وتوجهه نحو احتياجات المجتمع، فتمويل الابتكار يجب أن يتأسس على تلك الحاجات الوطنية والقدرات التي تضمن ترتيب الأولويات والموارد واستثمارها في دعم الفوائد الاجتماعية، لأنها الأهم على كافة الأصعدة، ويضرب التقرير شاهدا في ذلك بما تم من استثمار الابتكار الطبي في اللقاحات المضادة لجائحة كورونا (كوفيد 19) وما أفادته من منافع اجتماعية وعوائد خاصة لتطوير اللقاحات؛ حيث تختلف العوائد الاجتماعية للابتكار عن العوائد الخاصة للمبتكرين والشركات، فهذه العوائد كانت دافعا لـ (الاستثمار في لقاحات كوفيد19) حيث قُدرت بـ "(70.5) تريليون دولار أمريكي على مستوى العالم، متجاوزة الفوائد الخاصة بمقدار 887" ـ حسب التقرير ـ. إن هذه الفوائد الاجتماعية تؤثر على قيمة الأرواح التي تم إنقاذها، وتجنب المضاعفات الصحية، إضافة إلى رفع إجراءات الإغلاقات التي (تفوق بكثير عائدات مُصَنعي اللقاحات).
ولأن الابتكار "يحدث بشكل مختلف في دول العالم" ـ بتعبير التقرير ـ، فإن كل بلد يبتكر حسب احتياجاته، بل أن كل بلد يستورد القوالب الابتكارية التي تتلاءم مع ثقافته وأنماط الحياة في مجتمعه، ولهذا فإن (اتجاه الابتكار) يعتمد على القيمة الاجتماعية التي تمثلها عائداته، و(الموجهة نحو المَهمَّة) التي تمثل الاحتياج المجتمعي، وبالتالي فإن أصحاب المصلحة (التقنيين والمبتكرين والاقتصاديين والسياسيين) كلهم يعتمدون على العائد الاجتماعي؛ ذلك لأنه يشكل الأساس الذي تقوم عليه بيئة الابتكار، والتفاعلات داخل النُظم البيئية، التي تحدد مسار الابتكار وتقرر وجهته؛ فالقيمة الاجتماعية هي الدافع وراء الابتكار وتطوُّره، وكلما كان المجتمع قادرا على مواجهة تحدياته عن طريق الابتكار فإنه سيكون قادرا على التعامل مع (التحديات المستقبلية الكبرى).
ولهذا فإن الدول تعمل على الدوام على سياسات لتخفيف المخاطر المحدقة بالابتكار والاستثمار فيه، خاصة في الشركات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى تطوير أنماط الدعم والحزم التحفيزية، التي لا تستهدف العوائد الاقتصادية بقدر استهدافها عوائدها الاجتماعية. والحق أن الحكومة في عُمان عملت على تطوير السياسات الموجهة نحو الاستثمار خاصة الصغير والمتوسط منه، بهدف دعمه، وتطوير منظومته من ناحية، ودعم التنمية البشرية وبناء القدرات المهنية العالية، القادرة على إدارة هذا الاستثمار والابتكار في الصناعات المختلفة التي يحتاجها المجتمع من ناحية أخرى، وبالتالي تحقيق القيمة الاجتماعية التي تهدف إلى الحماية المجتمعية للأفراد وضمان رفاههم.
وإذا كان الابتكار يرتبط باحتياجات المجتمع، وما يريده من أجل تلبية تلك الاحتياجات فإن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في عُمان تحتاج إلى تركيز العمل على تلك الاحتياجات، وتشجيع الابتكار في تطويرها وفق قوالب إبداعية جديدة، لا تكرر الموجود؛ فبحسب نتائج (التعداد الإلكتروني 2020) الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فإن عدد (المؤسسات الصغرى والصغيرة بلغ 169 ألف)، بينما بلغ عدد المؤسسات المتوسطة (4.599 مؤسسة)، وهي أعداد متزايدة نظرا للتسهيلات الحالية والدعم الذي يشهده هذا القطاع، إلاَّ أن التساؤلات هنا تبرز عند الاقتراب من واقع تلك المؤسسات وما تقدمه من مُنتجات، خاصة الشركات التي تعمل في قطاع الثقافة، وهي (هل لهذه الشركات عوائد اجتماعية وقيمة ناتجة عن احتياج مجتمعي حقيقي؟ وهل قامت في الأصل على ابتكار يقدِّر تلك القيمة؟.
والحال أن الكثير من تلك المؤسسات لم تلقِ بالاً لأهمية هذه القيمة وربطها بالعوائد الاقتصادية، بل بأهمية الابتكار باعتباره تحفيزا للإنتاج وقوة تنافسية عالية، في حين سنجد أن هناك من يؤسس شركته على دراسة تلك العوائد وقدرتها الإنتاجية، وبالتالي ربطها بالقدرة الابتكارية للمُنتج الذي يحققها ويدعمها، وقد شهدنا العديد من تلك الابتكارات التي اتخذت من الاحتياجات الوطنية أساسا وحافزا للابتكار. إن دعم الدولة لهذه المؤسسات وتقديم العديد من الحُزم التحفيزية والتسهيلات ليس سوى دعما للقيمة الاجتماعية وعوائدها الكبرى التي تحقق رفاه المجتمع، فالمنظور المحلي لأي ابتكار في أي مجال كان، هو أساس الترابط والتفاعل مع أصحاب المصلحة.
إن عمل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العاملة في المجالات الثقافية عليه أن يتأسس على الابتكار وعوائده الاجتماعية، فهو أساس القوة الإبداعية والتنافسية، كما أن الاعتماد على التكنولوجيا وإدارة البيانات والمنافسة ستدعم التأثير الإيجابي لتحقيق الاحتياجات الوطنية، وتقدير السياسات الداعمة للاستثمار في الابتكار، وبالتالي دعم التسهيلات المتعلقة به، وتعزيز التنافسية القائمة على الجودة، وحماية حقوق الخصوصية الوطنية للمُنتج، وضمان عوائده الاجتماعية.
لا يمكن التنافس دون ابتكار فريد نابع من خصوصية المجتمع وهُويته، واحتياجاته الوطنية، لذا فإن تقييم دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في دعم الهُوية الوطنية، وقدرتها الابتكارية في سد احتياجات المجتمع، سيمكِّن دورها الاقتصادي وسيعمل على ترسيخ المفاهيم التنموية؛ فمسار المستقبل يعمل على شراكة في الابتكار والاقتصاد والمجتمع. إنه (اتجاه الابتكار) الذي ينفتح على على إمكانات جديدة للنمو والتطلع لسد احتياجات المجتمع والاعتماد على الإنتاجات المحلية تحسباً لأي صدمات أو تحديات كبرى قادمة.