ارتبط مفهوم التغريب؛ حتى عهد قريب؛ بكل ما يعنيه الآخر البعيد، والبعيد هنا هو من خارج حدود الأوطان، وقد أسقطت عليه الكثير من المفاهيم المحلية، فـ "يا غريب كن أديب" مفهوم محلي بحت، وهي دعوة إلى الالتزام بالكثير من السمت، في الحديث، في السلوك، في الملبس، حتى في علاقات المصاهرة، فما هو من خارج القرية، أو القبيلة؛ على سبيل المثال؛ فهو غريب، وبقدر ما له حقوق الضيافة والمعاملة الحسنة، عليه الالتزام بالكثير من الممارسات حتى لا يقع في التقييم الذي يعرضه إلى الكثير من المشقة، في حالة خروجه عن كل ما هو متعارف عليه من الـ "غريب" وتتسلسل هذه الغرابة حتى إلى الأمكنة، والأدوات، واللغة، والملابس، والأمثلة كثيرة.

توسع العالم اليوم أضعافا مضاعفة، مما أفضى إلى البعيد أن يكون قريبا، وإلى الغريب أن يكون حبيبا، وإلى غير المستساغ أن يكون محبوبا، وإلى المدهش أن يكون عاديا، وإلى المستنكر أن يكون مقبولا، فتبدلت القناعات، وتساوت الفروقات، وتقاربات الاختلافات، وتوافقت التباينات، وامتزجت الألوان؛ وإن انتجت صورا مشوهة، أو أجساما هلامية، فالمهم أن يكون المنبوذ مألوفا؛ ويحدث كل ذلك دون عناء، ولا مصادمات ملموسة، وإن كانت هناك هواجس مرتبكة، فليس من السهولة بمكان قبول المختلف؛ هكذا؛ بصورة تلقائية مباشرة، والتفاعل معه، حيث لا بد لها أن تمر القناعات والقبول على مراحل الفلترة حتى تستوعب نقاوتها، أو تشوهاتها، ومراحل الفلترة هي لحالها قصة من المخزون المعرفي، والقيمي، والقناعات، والمشاهدات، والتراكمات.

التغريب المحلي يمارسه الصغير والكبير على حد سواء، الجاهل والعالم، الذكر والأنثى، حيث يتسلل عبر كثير من السلوكيات، والممارسات، والتقليعات، وعندما نخصه بالمحلية، لأنه يتخذ هويته من محليته في كثير من الأحيان، وإن كان الأصل يعود إلى الغريب، فالهوية المحلية لا يمكن أن تنفصل عن أي ممارسة سلوكية كانت، أو مشهد، أو صورة، فالهوية قائمة قائمة، ولكن بغرابيتها المتسللة من البعيد، فالملابس؛ على سبيل المثال؛ كم التعديلات التي لحقتها، فيما يطلق عليها الملابس العمانية "المطورة" وما ينطبق على الملابس ينطبق على مجموعة من الأدوات والصناعات، والأكلات، وقد وصل الأمر إلى المنازل، سواء من حيث صورتها الخارجية، أو من حيث تشكُلاتها وتقسيماتها الداخلية.

وإذا كانت هذه وفي شاكلتها لا تثير القلق فإن القلق يذهب أكثر إلى القيم الإنسانية المتصلة بالهوية الاجتماعية والوطنية، فهذه؛ هي الأخرى؛ تتعرض إلى كثير من التغريب، والخروج عن المألوف، وهذا أثر حتى على ما هو متعارف عليه في داخل المنازل، فعلى سبيل المثال: شكلت "السبلة" أو مجلس الرجال أهمية كبيرة لدى الأسرة العمانية، ونظر إلى المنزل الذي يخلو منها كأنه يعاني من نقص ما، وكان رَبُّهُ يشعر بحرج شديد، عندما لا يكون المجلس حاضرا ضمن تشكيلة البناء في المنزل، اليوم لم يعد الأمر بهذه الحساسية، لماذا؟ لأن لن يكون لهذا المرفق ذلك الدور الذي كان، فضيوفنا نستقبلهم، ونعزمهم في المطاعم (راقية أو متواضعة) على حسب قدرة الفرد المادية، ومدى فهمه لمسألة "البرستيج" ولذلك؛ وكما ألاحظ؛ أن المنازل الحديثة تكاد تخلو من مكان مخصص لما يسمى بـ "السبلة" وإنما عبارة عن صالات مفتوحة على بعضها البعض؛ وأحيانا؛ قد تكون بينها فواصل مؤقتة غير عالية، حيث لا توفر تلك الخصوصية الأسرية التي كانت هاجسا مقلقا فيما مضى، وما ينطبق على هذه الصورة بالذات تتسع المسألة عندما تجتمع الأسر على اختلافها وتنوعها في المطاعم صغيرها وكبيرها، حيث يجلس الجميع في صالة المطعم بلا حرج ولا تكلف، وكل مشغول بذاته طبعا.

ينظر إلى الأجيال على أنها تصنع واقعها بنفسها، ويكون هذا الواقع الجديد مغايرا بـ "الضرورة" عن كل ما اعتاد عليه الأولون، ولذلك يُقَيَّمْ من قبل هؤلاء الأولين على أن كل ما يستحدثه المتأخرون هو ضمن قائمة التغريب، حتى ظهور الأسرة "النووية" المنفصلة عن الأسرة "الممتدة" هو نوع من التغريب، حيث لم تكن الأسرة القديمة تعرف هذا النوع من الأسر، ولذلك فهذه الأسر النووية هي تصنع كافة هياكلها بنفسها، وبطريقة مختلفة عما تألفه الأسرة الممتدة، بدءا من نوع البيت، وشكله، مرورا بتربية الأبناء، وصولا إلى تأصيل مجموعة من القيم الإنسانية غير المألوفة من قبل، وهذه الصورة في هذا الجانب ليست مقصورة على المدن دون القرى، فحتى القرى اليوم تعيش نفس هذه الإرهاصات وبكل تفاصيلها، وقد ساعدها في ذلك مجموعة الأدوات الحديثة؛ بدءا من وسيلة النقل، إلى وسيلة الاتصال، وما بينهما من أدوات وممارسات تشترك فيها الأسرة المحلية مع الأسرة الدولية؛ حيث تقلصت المسافات، واختزلت الحدود، وتماهت مجموعة الفروقات الفردية والجماعية، إلى حد كبير، صحيح قد تبدو بعض الممارسات على أنها مستجلبة من خارج الحدود، ولكن أصبح تصنيعها محليا، وعليها دمغتها المحلية.

تلعب شركات المتعددة الجنسية دورا محوريا في هذا التغريب؛ مقصود أو غير مقصود؛ فالمهم يعود لها شر هذا التغريب، أو خيره، حيث تتوغل منتوجات هذه الشركات في الأقاصي الأقاصي للدول، ومن بعدها البلدان، لا فرق بين دول متحضرة، أو دول متخلفة، لا فرق بين دول صانعة لها، أو دول متصانعة معها "حاضنة لها" لا فرق بين دول عندها القدرة في المقاومة؛ بما تجود به من الداخل المحلي، وبين دول مستسلمة على طول خط الإنتاج، وبالتالي ونتيجة لهذه الهيمنة الدولية التي تمارسها هذه الشركات من خلال منتوجاتها أصبح أمر التغريب محببا ومقبولا، بل ويحظى بالرضى والقبول، بل وبالبحث عنه، حتى ولو كلف هذا البحث الكثير من الجهد والمشقة، والعناء، فالمهم أن لا تقع الذاكرة الجمعية في شيء من الفراغ لم يمله هذا المنتج أو ذلك، وقد زرت بعض القرى في إحدى الدول شرق أفريقية، ووجدت فروع هذه الشركات هناك؛ حيث الأدغال التي تستوطنها الوحوش مع فرقائها من بني البشر، فالعلامات التجارية تتخذ مواقع لها، وكأنك في إحدى المدن الكبيرة في الدول الكبيرة.

يحمل الإعلام؛ بصورة دائمة؛ مسؤوليات التغيير والتغريب التي تحدث بين أحضان المجتمعات، وبالتالي؛ فإن عد الإعلام هو الوسيلة الناقلة، فينظر أيضا – ومن باب الإنصاف – إلى قدرة الأجيال على المقاومة، وحقها في الرفض، وليس القبول المطلق، لأن مجموعة "المُخَزَّنَاتْ" يفترض أن يكون لها دور في قبول أو رفض الذي تنقله الوسيلة الإعلامية، فالمسألة ليست فرض عين، وإنما هناك مساحة من نسبية القبول والرفض على حد سواء، وبالتالي، أرى من وجهة نظر شخصية أن أي صورة تحل على واقع الناس، وتُقَيَّمْ على أنها غريبة، فهي ليست رصاصة صادرة من بندقية بصورة مباشرة – كما تشير إليه نظرية الرصاصة الإعلامية - وإنما هناك مجموعة العوامل الرافضة، أو القابلة لها بحذر شديد، والدليل على أن ما يقبله شخص من الناس، يرفضه شخص آخر من ذات البيئة الاجتماعية، ويستحيل أن يكون هناك إجماع مطلق في قبول أو رفض أمر ما في أي مجتمع، صحيح أن الفرد يبحث عن إشباعات معينة ومتعددة، يريدها لأنها تحقق له شيئا لذاته، ولكن هذا البحث سوف يخضع لفلترة دقيقة قبل أن تستوعبه النفس، وتقبله راضية مرضية، أو ترفضه راضية مرضية.

أختم هنا بنص قرأته مما يتداول عبر منصة الـ "واتس أب" للأديب الشاعر السوري محمد الماغوط؛ الذي يقول فيه: "دخل أحد المطاعم الفاخرة ليتناولعشاءه، فاستقبله "الميتر" بابتسامته المعهودة للغرباء، وقدم له لائحة الطعام ووقف بانتظار طلباته. فقال له الأستاذ الغريب: أنني متعب من القراءة والكتابة فاقرأ لي القائمة إذا أمرت. قال "الميتر" بحماس: أمرك سيدي. عندنا ويسكي إسكتلندي، وبيرة ألمانية، وخبز كندي، وشوربة سويسرية، وجبنة فرنسية، ولحم أرجنتيني، وكافيار روسي، ومعكرونة إيطالية، وشاي سيلاني، وقهوة برازيلية. أما الأقداح فهي تشيكية والفوط والمناشف أمريكية. فشعر الأستاذ بغربة عميقة عن كل ما قرئ له. وانتابه حنين جارف إلى أي شيء يذكره بوطنه وبلاده. فسأله: أليس عندكم أي شيء عربي؟ فقال الميتر: لا، ليس عندنا شيء عربي سوى "الخدم".