الأزمات سمة ملازمة للاقتصاد الرأسمالي، سواء للاقتصادات على المستوى الوطني أم للاقتصاد العالمي على حد سواء. وهي قد تكون دورية ناجمة عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي نفسه وآلية عمله، كأزمة الكساد الهائل مطلع ثلاثينيات القرن العشرين أو الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في العام 2008، أو ناجمة عن تطورات فجائية كالأوبئة أو الكوارث الطبيعية أو الحروب، كالأزمة الناجمة عن وباء كورونا أو الأزمة المترافقة مع الحرب الروسية - الأوكرانية.

والسمة المميزة لهذه الأزمات في عصرنا الراهن، أنها تحصل في اقتصاد معولم إلى أقصى الدرجات، تتشابك فيه اقتصادات العالم وتتكامل، وتقع في ما يشبه التبعية المتبادلة في ما بينها. ولذلك، فإننا نشهد ما يسمى «عولمة الأزمات». أي أن حصول أزمة في اقتصاد محدد، كبير، يؤدي حتما إلى انتشارها السريع في باقي أجزاء الاقتصاد العالمي المعولم.

في مقالتنا هذه سنتوقف تحديدا عند التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية - الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي، بل وعلى مستقبل النظام الاقتصادي العالمي عموما.

حرب اقتصادية عالمية

بداية، لا بد من القول أن ما يرافق هذه الحرب من عقوبات وتدابير اقتصادية تقييدية لا مثيل لها فرضت وتفرض على روسيا، هي في الواقع حرب اقتصادية بكل معنى الكلمة، يمكن اعتبارها جزءا لا يتجزأ من «الحرب العالمية الثالثة (الهجينة)» الدائرة بين روسيا والغرب على المسرح الأوكراني اليوم. وهي -أي الحرب الاقتصادية- حرب توقعها الجانبان واستعدا لها، أراد لها الجانب الغربي أن تكون خاطفة تؤدي إلى شل الخصم والقضاء على قدرته على المواجهة، على غرار ما يحصل في الحروب العسكرية. والدليل على ذلك هو السرعة والشمولية في فرض هذه العقوبات ومشاركة دول محايدة تاريخيا فيها، كسويسرا والسويد. وتجلى استعداد الجانب الروسي في الهدوء والثقة بالنفس التي واجه بها هذا «القصف» الاقتصادي بالعقوبات المعاكسة وبالتدابير، الاقتصادية والمالية والقانونية العديدة التي اتخذت فورا وتتخذ، وكان أهمها فرض قيود على حركة رؤوس الأموال الأجنبية وعلى قدرة الشركات الأجنبية على إخراج العملات الصعبة من البلاد، وإلزام «الدول غير الصديقة» بدفع ثمن الغاز بالروبل، لمواجهة العقوبات المفروضة والحد من تداعياتها.

المسألة الأخرى التي لا بد من التوقف عندها، هي أن الأزمة الراهنة الناجمة عن العقوبات، كما أشرنا سابقا، تحصل في اقتصاد معولم، يختلف عن الاقتصاد العالمي للنصف الثاني من القرن العشرين؛ فالاقتصاد المعولم هذا يعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ضمن إطار حرية الأسواق وحرية حركة رؤوس الأموال، أي تداخل هذه الأسواق وتشابكها وتكاملها من خلال شبكات الشركات العالمية الكبرى العابرة للحدود والقوميات. وعند الحديث عن العقوبات الاقتصادية وتداعياتها، لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاقتصاد المعولم هو اليوم أشبه بالأواني المستطرقة، حيث إن كل تطور أو أزمة أو حدث طارئ في اقتصاد دولة (وخصوصا إذا كانت كبيرة وذات اقتصاد كبير) ستنتقل مفاعيله إلى اقتصادات الدول الأخرى لا محالة، وإن بنسب متفاوتة. وهذا ما يسمح لنا بالحديث عما سميناه «عولمة الأزمات».

تجدر الإشارة هنا، وهذا أمر بالغ الأهمية، إلى أن تداعيات هذه الأزمة ونتائجها على الاقتصاد العالمي وعلى اقتصادات مختلف البلدان، ستكون أبعد مدى وأشد خطورة من تداعيات جائحة كورونا؛ أي أن من شأنها أن تؤدي إلى تغييرات جوهرية وبنيوية في الاقتصاد العالمي وفي آلية عمله وموازين القوى داخله والعلاقات المتبادلة بين اقتصادات الدول.

والأمر المهم الآخر الذي لا بد من التوقف عنده، هو أن الاقتصاد الروسي حقق في السنوات العشرين الأخيرة انخراطا كبيرا في هذا الاقتصاد المعولم، سواء من خلال استثمارات الشركات العالمية المباشرة فيه أم من خلال الاستثمارات الروسية الضخمة في اقتصادات الدول الأخرى، ومن بينها الغربية. وأي ضرر يصيبه نتيجة العقوبات، سينعكس حتما خسائر كبيرة تصيب الشركات العاملة فيه؛ وكذلك الاقتصادات التي تنشط الاستثمارات الروسية فيها. ويرى العديد من الخبراء الاقتصاديين الروس أن هذا الانخراط كان مفرطا ومبالغا فيه، وأنه على الرغم من فوائده الكبيرة، جعل عددا من قطاعات الاقتصاد الروسي في حالة تبعية شبه كاملة للشركاء الأجانب، وظهرت انعكاساته السلبية اليوم على تلك القطاعات، وخصوصا في مجالات الإلكترونيات والتكنولوجيا فائقة الدقة، وصناعة الطائرات، وبعض أنواع المكائن والمعدات التي تدخل في العديد من الصناعات الأخرى.

لكن، على الرغم مما تقدم، من المهم الأخذ في الحسبان أن الاقتصاد الروسي هو اقتصاد كبير ذو سوق واسعة جدا وقدرة شرائية عالية، ومن المستحيل عزله، على الرغم من الضرر الكبير الذي سيلحق به جراء العقوبات. وذلك، أولا، بسبب انخراطه الكبير في الاقتصاد المعولم، كما ذكرنا؛ وثانيا، بحكم القدرات والثروات الهائلة التي يملكها. فهو في الواقع سادس اقتصاد في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي. وهو ليس مصدرا رئيسا للطاقة من نفط وغاز وفحم حجري فحسب، فضلا عن الطاقة النووية، بل ومصدر أساسي للكثير من المعادن والمواد الثمينة (البلاتينيوم، التيتانيوم، البالاديوم، الألمينيوم، النيكل، اليورانيوم.. وغيرها) التي لا يمكن للقطاعات الصناعية الرئيسة في العالم الاستغناء عنها أو الحصول عليها من مصادر أخرى بسهولة. وكذلك المصدر الرئيس للحبوب (القمح، الشعير، دوار الشمس..إلخ) وللأسمدة والمنتجات الكيماوية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن روسيا حققت، بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها عقب ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، اكتفاء ذاتيا شبه كامل من المواد الغذائية، وتحولت من بلد مستورد إلى مصدر لقسم كبير منها، أي إنها تتمتع الآن ﺑ«الأمن الغذائي» المطلق. علما أن الاقتصاد الروسي يمتلك قاعدة علمية متينة ورأس مال معرفي كبير يخوله التمكن من سد الثغرة الواضحة في مجال التكنولوجيا التي لا يزال يعاني منها حتى الآن، وذلك في مهلة زمنية قصيرة نسبيا.

أفول العولمة

من الواضح أن الاقتصاد العالمي، وقبل أن يتعافى بالكامل من تداعيات جائحة كورونا، هو على عتبة الدخول في أزمة حادة قد تنجم عنها تحولات عميقة، من أبرز معالمها:

- ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة العوائق التي ستنجم عن فرض عقوبات محتملة على قطاع الطاقة الروسي، أو في حال لجوء روسيا إلى استخدام سلاح النفط والغاز ضد الخصوم. علما أن روسيا لم تكن، حتى إعداد هذه المقالة، قد قررت اللجوء إلى هذا السلاح، ومع ذلك ارتفعت بصورة كبيرة أسعار النفط والغاز في العالم. وسوف يؤدي ارتفاع تكاليف الإنتاج هذا حتما إلى تراجع الأنشطة الاقتصادية في مختلف القطاعات، وإلى تراجع أرباح الشركات وإفلاس العديد منها، ما يفضي إلى ارتفاع معدلات البطالة، وما ينجم عن ذلك من تراجع الطبقات المتوسطة التي تشكل أساس ازدهار المجتمع عادة.

- سوف تؤدي العقوبات إلى تضاعف الخلل في السلاسل الإنتاجية واللوجستية وبالتدفقات التجارية والمالية؛ ما سيفاقم الصعوبات التي ستواجهها الشركات، وقد يؤدي بدوره إلى تقلص أنشطة العديد منها، بل وحتى توقفها عن العمل. ومن جهة أخرى، أدى إقدام الشركات الغربية على الإخلال بالتزاماتها وتمزيق عقودها، الإنتاجية والتجارية والمالية، وكذلك عقود الصيانة وخدمات ما بعد البيع، مع الشركات الروسية، من دون أي احترام لتعهداتها، إلى فقدان الثقة بها كطرف غير مضمون ينطوي التعامل معه على مخاطر عالية، ما يؤدي إلى تردد الكثير من العملاء في العالم في التعامل معها. فتغليب السياسة على الاقتصاد، ولجوء الحكومات الغربية إلى استخدام شركاتها كسلاح في المعركة، فضلا عن أنه يتعارض مع مفهوم العولمة الاقتصادية بالأساس، يقوض الثقة بهذه الشركات ويرتد عليها خسائر كبيرة لا تعوض في المنافسة مع الشركات العالمية الأخرى.

- سوف يؤدي فرض قيود روسية على صادرات الحبوب والطحين والزيوت وغيرها، إلى نقص كبير في الأسواق العالمية وإلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبالتالي إلى تردي القدرات الشرائية لفئات واسعة من المواطنين في مختلف أنحاء العالم، في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها من المناطق؛ الأمر الذي ينذر في نهاية المطاف بأزمة غذائية عالمية.

- سوف تلقي الحرب الدائرة وتداعياتها الاقتصادية ظلالا قاتمة على الآفاق المستقبلية للعديد من الدول النامية التي تعتبر مستوردا رئيسا للسلع الأساسية. ومن المتوقع أن تواجه هذه الدول مشكلة تفاقم المديونية. وهي مشكلة ستضاف إلى المشكلات الأخرى التي تواجهها، والمتمثلة في ارتفاع معدل التضخم وتباطؤ النمو وتردي الأوضاع المالية؛ علما أن أزمة كورونا كانت قد أدت إلى ارتفاع إجمالي مديونية هذه البلدان إلى مستويات قياسية (شكلت، بحسب معطيات البنك الدولي 250 في المائة من إيرادات هذه الدول خلال السنوات العشر الأخيرة).

- ستشهد معدلات التضخم ارتفاعات كبيرة، وهي ظاهرة شهدنا تسارعها نتيجة جائحة كورونا، ووقفت الحكومات والبنوك المركزية حائرة في كيفية مواجهتها.

- ستؤدي العقوبات المالية إلى تقويض الثقة بالدولار، بوصفه عملة التبادل العالمية، وستدفع الدول إلى اعتماد عملات أخرى في عمليات التبادل، بما يؤدي في النهاية إلى إزاحة الدولار عن عرشه.

- سيؤدي تجميد احتياطيات بنوك مركزية، وإخراجها هي وبنوك تجارية من نظام «السويفت» إلى لجوء البلدان التي تتعرض لعقوبات من هذا النوع إلى ابتكار واعتماد أنظمة تحويل أخرى. وقد نجحت الصين وروسيا في وضع أنظمتها الخاصة وتطبيقها، وسيتوسع حتما انضمام دول أخرى إليها تجنبا لنظام «سويفت» وعصاه الغليظة، ما يؤدي في نهاية الأمر إلى تقويض النظام المصرفي والمالي العالمي الذي شيدته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، وتتسيده منذ ذلك الحين.

- ستؤدي سياسة العقوبات إلى تقويض أنظمة التجارة الحرة، وإلى أفول دور منظمة التجارة العالمية. ويمكن القول إننا نشهد اليوم بداية انتهاء حقبة العولمة الاقتصادية كما نفهمها، بوصفها «اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات، ضمن إطار حرية الأسواق، وحرية حركة رؤوس الأموال». فالعولمة الاقتصادية ستكون إحدى أولى ضحايا الحرب الاقتصادية الدائرة اليوم. وعلى الأرجح سوف نشهد بروز معسكرين، أو عالمين اقتصاديين متوازيين ومتصارعين. أحدهما غربي، يقف الاقتصاد الأمريكي على رأسه وتدور الاقتصادات الأوروبية في فلكه (حيث ستكون أوروبا هي المتضرر الأكبر من سياسة العقوبات الراهنة، فهي بتبنيها هذه العقوبات أشبه بمن يطلق النار على قدميه)؛ ومعسكر آخر محوره اقتصادا الصين وروسيا، وتتعامل معه اقتصادات العديد من البلدان الأخرى الطامحة إلى التحرر النسبي من التبعية؛ ما يفضي في المحصلة إلى خروج العالم من الأحادية القطبية الاقتصادية وليس السياسية فحسب، وظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب، مع مراكز لقوى اقتصادية جديدة.

- أما بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي، فإنه سيواجه، ولا شك، خسائر ومصاعب فعلية وكبيرة، ولاسيما في مجال التكنولوجيا فائقة الدقة، وخصوصا في المراحل الأولى؛ وقد يستغرق الأمر سنوات لتجاوز بعضها. لكن ذلك سيشكل مناسبة لتحويل الأزمة إلى فرصة، فرصة لاستخدام كل الطاقات الهائلة التي يملكها للتخلص من براثن العولمة، ولبناء اقتصاد رائد يحتل مكانة متقدمة بين اقتصادات العالم الأكثر تطورا.

محمد دياب باحث لبناني في الشؤون الاقتصادية

ينشر المقال بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي