لا أخالني مبالغًا إن قلتُ إنه يمكن قراءة السياسة الأمريكية تجاه العالم بشكل عام، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، لا من خلال تصريحات مسؤوليها، ولا من كلامهم الدبلوماسي المزوّق، ولا تشدقاتهم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وإنما فقط من زلات ألسنة رؤسائها المتعاقبين، إذ تكشف لنا هذه الزلات وفلتات اللسان ما كان يعتمل داخل هؤلاء الرؤساء من أفكار ومشاعر حقيقية، حتى وإن حاولوا إنكارها بعد ذلك أو الاعتذار عنها.

آخر زلات هؤلاء الرؤساء الأمريكيين كانت من نصيب جورج دبليو بوش في خطاب ألقاه في ولاية تكساس مساء الأربعاء الماضي، أراد الرئيس الأسبق أن يلقي اللوم على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استفراده بقرار شن الحرب الروسية على أوكرانيا فقال: "قرر رجل واحد أن يشن غزوًا غير مبرر على الإطلاق ووحشي على العراق - أقصد أوكرانيا"، وهو ما يذكرنا على الفور بالمثل الشعبي "كلمة الحق سبقت".

صحيح أن بوش ألقى باللائمة على الأعوام الخمسة والسبعين التي يحملها على كاهله، لكنه نسي أن عمره كان أربعة وخمسين عامًا فقط عندما زل لسانه فسمى حربه على أفغانستان بُعَيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالحرب الصليبية، فالأمر لا علاقة له بالسِنّ بقدر علاقته بمكبوتات اللاوعي، وهنا نستحضر تعريف عالم النفس الشهير سيجموند فرويد لزلة اللسان في كتابه "علم النفس المرضي للحياة اليومية" بأنها "خطأ في الكلام أو الذاكرة يحدث نتيجة تداخل رغبات وأفكار مكبوتة في اللاوعي في العقل الباطن، وليست أخطاء بريئة، وتخرج إلى اللاوعي على هيئة زلة".

ويبدو أن بوتين وحربه على أوكرانيا استطاعا أن يُخرجا كل المكبوت في لاوعي الرؤساء الأمريكيين، فقد سبقت زلةَ بوش زلةٌ مماثلة للرئيس الحالي جو بايدن عندما قال في خطاب "حالة الأمة" في مطلع مارس الماضي إنه "بإمكان بوتين تطويق كييف بالدبابات، ولكنه لن يحصل أبدًا على قلوب وأرواح الشعب الإيراني"، وكان يقصد الشعب الأوكراني، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن إيران تشكل في لاوعيه هَمًّا كبيرًا وهاجسًا مؤرِّقًا. ورغم أن أنه لم يمض على حكم بايدن سوى سنتين وبضعة أشهر، فإن زلاته كثيرة إلى درجة أهلتْه للقب "آلة الزلات"، وقد أضاف إلى زلات لسانه العديدة زلةَ قدم عندما تعثّر مرة على سلم الطائرة الرئاسية، وما يمكن أن نسميها زلةَ يد عندما استدار بعد أحد خطاباته ليصافح الهواء ظنًّا منه أن شخصًا ما واقف بجانبه!.

دونالد ترامب -الرئيس الأمريكي السابق- لم ينجُ هو الآخر من بوتين وروسيا وزلات اللسان بسببهما، ففي أكتوبر من عام 2019م، وبعد أن أنهى مكالمة مع الرئيس الأوكراني الجديد آنئذ فلاديمير زيلينسكي قال تعليقًا على المكالمة: "كما تعلمون فقد أدلى الرئيس الروسي الجديد وهو إنسان طيب، بتصريح أعلن فيه أنه لم يكن هناك أي ضغط عليه" وكان يقصد الرئيس الأوكراني لا الروسي، وقد فسّر السيناتور الروسي أليكسي بوشوف هذه الزلة للرئيس الأمريكي بأن "ترامب ينظر إلى أوكرانيا على أنها جزء من العالم الروسي"!.

باراك أوباما أيضًا الذي نال عن نواياه جائزة نوبل للسلام سنة 2009م زلّ لسانه هو الآخر سنة 2015م فقال في إفادة للصحفيين بالبيت الأبيض: "نحن ندرب قوات داعش"، وكان يقصد قوات الجيش العراقي، ولا داعي هنا أن نذكّر بالاتهامات الكثيرة التي تقول إن تنظيم داعش الإرهابي ما هو إلا صنيعة المخابرات الأمريكية، بل إن ترامب نفسه في حملته الانتخابية عام 2016 لم يتورع عن اتهام أوباما بأنه هو مؤسس تنظيم داعش.

ولا تكفي المساحة هنا للحديث عن زلات ريجان وكارتر وكينيدي وغيرهم من الرؤساء الأمريكيين، لكن يمكننا تلخيص الأمر بأنه ما أضمر رئيس أمريكي شيئًا إلا وقد ظهر في فلتات لسانه، وزلات كلامه، مع شديد الاعتذار لسيدنا علي بن أبي طالب على تحوير مقولته الشهيرة.