من أهم النتائج التي ترتبت على الحرب في أوكرانيا منذ اندلاعها في 24 فبراير الماضي، والتي لا يلوح في الأفق موعد قريب لانتهائها، أنها أعطت دفعة قوية لصالح تماسك الاتحاد الأوروبي، وبالطبع لحلف الناتو أيضا، ليس فقط بفعل المخاوف الغربية من النتائج التي يمكن أن تترتب على نجاح روسيا في غزوها لأوكرانيا وتحقيق مصالحها وأهدافها التي أعلنتها في بداية اجتياحها للأراضي الأوكرانية، ولكن أيضا بفعل تحول وتطور الأهداف الأمريكية والغربية من مجرد وقوفها ضد روسيا ومساندتها لأوكرانيا، بل وتورطها الكبير في الحرب، إلى حد أن موسكو أعلنت بوضوح أن الغرب يخوض حربا بالوكالة ضدها من خلال أوكرانيا، وقد بات هدف واشنطن ومن ورائها أوروبا هو إضعاف روسيا وزيادة تكلفة الحرب بالنسبة لها والحد من إمكانية تهديدها لجيرانها في المستقبل حسبما أعلن وزير الدفاع الأمريكي «لويد أوستن» خلال زيارته إلى العاصمة الأوكرانية مؤخرا.
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها أولا: أن تجربة التوافق والتكامل الإقليمي في غرب أوروبا -دول الاتحاد الأوروبي- هي الأكثر نجاحًا والأكثر قدرة على مواجهة ما تتعرض له من مشكلات وتحديات أيضا. وليس ذلك مصادفة، ولكنه يعود إلى عوامل عديدة، من أبرزها وعي القيادات الأوروبية والمجتمعات الأوروبية أيضا بأهمية وضرورة بناء وتحقيق التعاون فيما بينها، اقتصاديا واجتماعيا وفي إطار ثقافي وسياسي وأمني يقوى ويتكامل باستمرار لبناء البيت أو الإطار الأوروبي الواحد القادر على ترسيخ وتعميق مفهوم الأمن المشترك القائم على نبذ، أو بمعنى أدق انتفاء التهديد من جانب أي دولة عضوة لأي دولة أوروبية أخرى عضوة من ناحية، وتعميق القيم الأوروبية في الديمقراطية وحقوق الإنسان، واتساع مظلة الأمن والأمان لتشمل كل الفضاء الأوروبي، وإلى أوسع مدى ممكن. ومن ناحية ثانية، فإن الإدراك الأوروبي والإيمان العميق بضرورة توسيع نطاق القيم الأوروبية والامتداد بمفهوم الأمن الواحد، أو مجتمع الأمن الواحد، ليشمل المنطقة الممتدة من موسكو وشرق أوروبا إلى الأطلسي، أو كما يحددها البعض من موسكو إلى لندن، كان قائما ومستمرا على صعيد الثقافة والفكر، وإلى حد ما السياسة في أوروبا على مدى العقود الماضية وبعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الحرب الباردة والانقسام بين الشرق والغرب كان يلقي بظلاله على أوروبا، شرقًا وغربًا، ولكن الصحيح أيضًا أن مجلس أوروبا، وهو أقدم منظمة أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس عام 1949، من أجل رعاية حقوق الإنسان والعلاقات بين الشعوب الأوروبية ويضم 47 دولة، وانضمت إليه أوكرانيا وروسيا عامي 1995 و1996 على التوالي وانسحبت منه روسيا في مارس الماضي بعد غزوها أوكرانيا. كما نشأت جماعة الفحم والصلب بين فرنسا وألمانيا عام 1950 لبناء تعاون ومصالح مشتركة تتجاوز آثار الحرب العالمية الثانية، ثم تطورت إلى مجموعة الدول الأوروبية الست عام 1957 ثم السوق الأوروبية المشتركة التي اتسعت لتضم العديد من دول أوروبا الغربية وكذلك بريطانيا عام 1975، ثم أخذت صيغة الاتحاد الأوروبي عبر اتفاقيات ماستريخت ولشبونة، ويشكل الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية -بعد انسحاب بريطانيا منه قبل بضع سنوات- أكثر المنظمات الأوروبية قدرة على العمل لصالح دوله الأعضاء وأوروبا ككل من خلال المفوضية الأوروبية، كما أن هناك منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي تأسست في منتصف سبعينيات القرن الماضي والتي سعت إلى بناء السلام والاستقرار في أوروبا ككل. وبالنظر إلى ضعف أداء كل من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي ظل الأكثر قدرة على تجسيد آمال أوروبا في بناء البيت الأوروبي، وزاد ذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وسعي دول أوروبا الشرقية إلى الاحتماء بمظلة الاتحاد الأوروبي، وحتى مظلة حلف الأطلسي، سواء خوفا من روسيا ونفاقا للغرب، أو رغبة في الاستفادة من الأموال والحماية الغربية. وبالفعل تحول الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة إلى ملاذ تتطلع إليه الدول المجاورة لروسيا، ووصل الأمر إلى حد أن بعضها عرض على الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية في أراضيها كنوع من الأمان ضد روسيا. وقد جاءت الحرب الروسية ضد أوكرانيا لتثير كل مخاوف جيران روسيا حيال موسكو، ولتصيب أوروبا الغربية بالخوف الحقيقي مما يمكن أن تؤول إليه تلك التطورات ثم تعرض أمل السلام والاستقرار في أوروبا لضربة كبيرة ومؤثرة.ثانيا: إنه مع اليقين أن مفهوم مجتمع الأمن الواحد في أوروبا قد تعرض للانهيار بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنه من غير الصواب إغفال أن واشنطن وحلف الناتو قد تجاهلا المخاوف الأمنية الروسية المرتبطة بزحف الناتو إلى عتبة موسكو وهي مخاوف تحدثت عنها موسكو منذ سنوات عدة وليس قبيل غزو أوكرانيا فقط. على أي حال، فإن ما تعرضت له أوكرانيا من تدمير بالغ، أثار هلع كل جيران روسيا وجعلها جميعها تفكر في سبل النجاة من مخالب الدب الروسي، في الحاضر والمستقبل أيضا، وبأي طريقة. وبينما أظهر حلف الناتو والاتحاد الأوروبي تماسكًا أكبر بين أعضائه ورغبة في التساند ضد اجتياح موسكو لأوكرانيا، بل والانجرار خلف أمريكا في تقديم الأسلحة، بما فيها الأسلحة الثقيلة، لأوكرانيا وتشديد الحصار والعقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا، وهو ما تعتبره موسكو بمثابة أعمال عدائية ضدها بشكل أو بآخر، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه معضلة حقيقية ومزدوجة، تتمثل في أن دولًا أوروبية عدة منها أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا تقدمت بطلبات للانضمام إليه من ناحية، وفي أنه -أي الاتحاد- يشعر بأن غزو أوكرانيا -وهي دولة أوروبية ذات سيادة- من جانب روسيا القطب الأوروبي والدولي، يمثل منعطفا خطيرا في مسار العلاقات الأوروبية وفي آمال أوروبا لبناء مجتمع الأمن الأوروبي الواحد الذي يشمل كل أوروبا من موسكو إلى لندن من ناحية ثانية. ومع أن الأوضاع في أوروبا، قبل غزو أوكرانيا وبعده وفي المستقبل، لن تنفصل عضويًا ولا سياسيا عن مجمل التطورات على الساحة الدولية والتأثير الأمريكي القوي فيها، فإن الاتحاد الأوروبي في وضع صعب، فهو لا يريد أن يخسر روسيا والعلاقات معها بشكل كبير، سواء بحكم المصالح الكثيرة أو بحكم أن روسيا شكلت دوما قطب أوروبا الذي لا يتحقق السلام في أوروبا بدونه وبدون تعاونه، ومن جانب آخر فإن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع عمليًا أن يفتح أبوابه سريعًا أمام الدول التي طلبت الانضمام إليه لأن إجراءات الانضمام إلى عضويته تستغرق عادة سنوات طويلة، و«ربما عقودا» كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أيام، كما أن دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا شعرت بالحاجة الماسة إلى دعم قدراتها العسكرية على المستويين الفردي والجماعي والحفاظ على استقلاليتها أيضا.ثالثا: أمام هذه الهواجس والتحديات، فلعله من مصلحة فرنسا والاتحاد الأوروبي وأوروبا ككل أن تمت إعادة انتخاب ماكرون لفترة ثانية في رئاسة فرنسا، ومما له دلالة أنه أعلن في أول خطاب له أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورج يوم 9 مايو الجاري، بمناسبة مؤتمر «مستقبل أوروبا» الذي تزامن مع الاحتفال بيوم أوروبا أن فرنسا فوضته «من أجل بناء أوروبا قوية». وأضاف: إن الاتحاد الأوروبي «لا يخوض حربا مع روسيا بل يدافع عن سيادة أوكرانيا وغدا سيكون لدينا سلام نبنيه» دعونا لا ننسى ذلك أبدا، وسيتعين علينا القيام بذلك مع أوكرانيا وروسيا حول الطاولة لكن ذلك لن يحصل من خلال رفض أو استبعاد بعضنا بعضا ولا حتى بالإذلال.وفي الوقت الذي أعرب فيه ماكرون عن تأييده لاقتراح البرلمان الأوروبي تعديل معاهدات الاتحاد ومراجعة بنيته التنظيمية، وهو اقتراح لا يلقى قبولا، حتى الآن على الأقل، من نحو نصف عدد الدول الأعضاء في الاتحاد، فإنه اقترح أيضًا إنشاء منظمة أوروبية جديدة تتيح الفرصة لاستيعاب أوكرانيا في الإطار الأوروبي بسرعة أكبر بدل انتظارها سنوات وربما عقودا حتى تنضم إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وقال: إن المنظمة الجديدة يمكن أن تضم بريطانيا ودولا ديمقراطية أخرى من خارج الاتحاد الأوروبي، ومن الواضح في ضوء ذلك أن ماكرون يقترح إنشاء منظمة أوروبية فضفاضة بشكل أكبر من الاتحاد الأوروبي وبالتزامات أقل مما هو على مستوى الاتحاد الحالي وبما يحقق قدرًا أكبر من التنسيق، ومن غير المستبعد أن المنظمة الجديدة يمكن أن تستوعب روسيا، بعد السلام مع أوكرانيا، وكذلك تركيا وحتى دولا أخرى أوروبية وغير أوروبية، ولكن السؤال هو هل ستتمكن منظمة بهذه الملامح من صنع السلام في أوروبا والحفاظ عليه؟ على أي حال فإن اقتراح ماكرون سيحتاج بالضرورة إلى كثير من الوقت حتى يتبلور عمليا، وإن كان طرحه في حد ذاته يعبّر عن جانب من الهواجس الأوروبية حول المستقبل والسلام في أوروبا ككل.
د. عبدالحميد الموافي - كاتب وصحفي مصري
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها أولا: أن تجربة التوافق والتكامل الإقليمي في غرب أوروبا -دول الاتحاد الأوروبي- هي الأكثر نجاحًا والأكثر قدرة على مواجهة ما تتعرض له من مشكلات وتحديات أيضا. وليس ذلك مصادفة، ولكنه يعود إلى عوامل عديدة، من أبرزها وعي القيادات الأوروبية والمجتمعات الأوروبية أيضا بأهمية وضرورة بناء وتحقيق التعاون فيما بينها، اقتصاديا واجتماعيا وفي إطار ثقافي وسياسي وأمني يقوى ويتكامل باستمرار لبناء البيت أو الإطار الأوروبي الواحد القادر على ترسيخ وتعميق مفهوم الأمن المشترك القائم على نبذ، أو بمعنى أدق انتفاء التهديد من جانب أي دولة عضوة لأي دولة أوروبية أخرى عضوة من ناحية، وتعميق القيم الأوروبية في الديمقراطية وحقوق الإنسان، واتساع مظلة الأمن والأمان لتشمل كل الفضاء الأوروبي، وإلى أوسع مدى ممكن. ومن ناحية ثانية، فإن الإدراك الأوروبي والإيمان العميق بضرورة توسيع نطاق القيم الأوروبية والامتداد بمفهوم الأمن الواحد، أو مجتمع الأمن الواحد، ليشمل المنطقة الممتدة من موسكو وشرق أوروبا إلى الأطلسي، أو كما يحددها البعض من موسكو إلى لندن، كان قائما ومستمرا على صعيد الثقافة والفكر، وإلى حد ما السياسة في أوروبا على مدى العقود الماضية وبعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الحرب الباردة والانقسام بين الشرق والغرب كان يلقي بظلاله على أوروبا، شرقًا وغربًا، ولكن الصحيح أيضًا أن مجلس أوروبا، وهو أقدم منظمة أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس عام 1949، من أجل رعاية حقوق الإنسان والعلاقات بين الشعوب الأوروبية ويضم 47 دولة، وانضمت إليه أوكرانيا وروسيا عامي 1995 و1996 على التوالي وانسحبت منه روسيا في مارس الماضي بعد غزوها أوكرانيا. كما نشأت جماعة الفحم والصلب بين فرنسا وألمانيا عام 1950 لبناء تعاون ومصالح مشتركة تتجاوز آثار الحرب العالمية الثانية، ثم تطورت إلى مجموعة الدول الأوروبية الست عام 1957 ثم السوق الأوروبية المشتركة التي اتسعت لتضم العديد من دول أوروبا الغربية وكذلك بريطانيا عام 1975، ثم أخذت صيغة الاتحاد الأوروبي عبر اتفاقيات ماستريخت ولشبونة، ويشكل الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية -بعد انسحاب بريطانيا منه قبل بضع سنوات- أكثر المنظمات الأوروبية قدرة على العمل لصالح دوله الأعضاء وأوروبا ككل من خلال المفوضية الأوروبية، كما أن هناك منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي تأسست في منتصف سبعينيات القرن الماضي والتي سعت إلى بناء السلام والاستقرار في أوروبا ككل. وبالنظر إلى ضعف أداء كل من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي ظل الأكثر قدرة على تجسيد آمال أوروبا في بناء البيت الأوروبي، وزاد ذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وسعي دول أوروبا الشرقية إلى الاحتماء بمظلة الاتحاد الأوروبي، وحتى مظلة حلف الأطلسي، سواء خوفا من روسيا ونفاقا للغرب، أو رغبة في الاستفادة من الأموال والحماية الغربية. وبالفعل تحول الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة إلى ملاذ تتطلع إليه الدول المجاورة لروسيا، ووصل الأمر إلى حد أن بعضها عرض على الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية في أراضيها كنوع من الأمان ضد روسيا. وقد جاءت الحرب الروسية ضد أوكرانيا لتثير كل مخاوف جيران روسيا حيال موسكو، ولتصيب أوروبا الغربية بالخوف الحقيقي مما يمكن أن تؤول إليه تلك التطورات ثم تعرض أمل السلام والاستقرار في أوروبا لضربة كبيرة ومؤثرة.ثانيا: إنه مع اليقين أن مفهوم مجتمع الأمن الواحد في أوروبا قد تعرض للانهيار بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنه من غير الصواب إغفال أن واشنطن وحلف الناتو قد تجاهلا المخاوف الأمنية الروسية المرتبطة بزحف الناتو إلى عتبة موسكو وهي مخاوف تحدثت عنها موسكو منذ سنوات عدة وليس قبيل غزو أوكرانيا فقط. على أي حال، فإن ما تعرضت له أوكرانيا من تدمير بالغ، أثار هلع كل جيران روسيا وجعلها جميعها تفكر في سبل النجاة من مخالب الدب الروسي، في الحاضر والمستقبل أيضا، وبأي طريقة. وبينما أظهر حلف الناتو والاتحاد الأوروبي تماسكًا أكبر بين أعضائه ورغبة في التساند ضد اجتياح موسكو لأوكرانيا، بل والانجرار خلف أمريكا في تقديم الأسلحة، بما فيها الأسلحة الثقيلة، لأوكرانيا وتشديد الحصار والعقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا، وهو ما تعتبره موسكو بمثابة أعمال عدائية ضدها بشكل أو بآخر، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه معضلة حقيقية ومزدوجة، تتمثل في أن دولًا أوروبية عدة منها أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا تقدمت بطلبات للانضمام إليه من ناحية، وفي أنه -أي الاتحاد- يشعر بأن غزو أوكرانيا -وهي دولة أوروبية ذات سيادة- من جانب روسيا القطب الأوروبي والدولي، يمثل منعطفا خطيرا في مسار العلاقات الأوروبية وفي آمال أوروبا لبناء مجتمع الأمن الأوروبي الواحد الذي يشمل كل أوروبا من موسكو إلى لندن من ناحية ثانية. ومع أن الأوضاع في أوروبا، قبل غزو أوكرانيا وبعده وفي المستقبل، لن تنفصل عضويًا ولا سياسيا عن مجمل التطورات على الساحة الدولية والتأثير الأمريكي القوي فيها، فإن الاتحاد الأوروبي في وضع صعب، فهو لا يريد أن يخسر روسيا والعلاقات معها بشكل كبير، سواء بحكم المصالح الكثيرة أو بحكم أن روسيا شكلت دوما قطب أوروبا الذي لا يتحقق السلام في أوروبا بدونه وبدون تعاونه، ومن جانب آخر فإن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع عمليًا أن يفتح أبوابه سريعًا أمام الدول التي طلبت الانضمام إليه لأن إجراءات الانضمام إلى عضويته تستغرق عادة سنوات طويلة، و«ربما عقودا» كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أيام، كما أن دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا شعرت بالحاجة الماسة إلى دعم قدراتها العسكرية على المستويين الفردي والجماعي والحفاظ على استقلاليتها أيضا.ثالثا: أمام هذه الهواجس والتحديات، فلعله من مصلحة فرنسا والاتحاد الأوروبي وأوروبا ككل أن تمت إعادة انتخاب ماكرون لفترة ثانية في رئاسة فرنسا، ومما له دلالة أنه أعلن في أول خطاب له أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورج يوم 9 مايو الجاري، بمناسبة مؤتمر «مستقبل أوروبا» الذي تزامن مع الاحتفال بيوم أوروبا أن فرنسا فوضته «من أجل بناء أوروبا قوية». وأضاف: إن الاتحاد الأوروبي «لا يخوض حربا مع روسيا بل يدافع عن سيادة أوكرانيا وغدا سيكون لدينا سلام نبنيه» دعونا لا ننسى ذلك أبدا، وسيتعين علينا القيام بذلك مع أوكرانيا وروسيا حول الطاولة لكن ذلك لن يحصل من خلال رفض أو استبعاد بعضنا بعضا ولا حتى بالإذلال.وفي الوقت الذي أعرب فيه ماكرون عن تأييده لاقتراح البرلمان الأوروبي تعديل معاهدات الاتحاد ومراجعة بنيته التنظيمية، وهو اقتراح لا يلقى قبولا، حتى الآن على الأقل، من نحو نصف عدد الدول الأعضاء في الاتحاد، فإنه اقترح أيضًا إنشاء منظمة أوروبية جديدة تتيح الفرصة لاستيعاب أوكرانيا في الإطار الأوروبي بسرعة أكبر بدل انتظارها سنوات وربما عقودا حتى تنضم إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وقال: إن المنظمة الجديدة يمكن أن تضم بريطانيا ودولا ديمقراطية أخرى من خارج الاتحاد الأوروبي، ومن الواضح في ضوء ذلك أن ماكرون يقترح إنشاء منظمة أوروبية فضفاضة بشكل أكبر من الاتحاد الأوروبي وبالتزامات أقل مما هو على مستوى الاتحاد الحالي وبما يحقق قدرًا أكبر من التنسيق، ومن غير المستبعد أن المنظمة الجديدة يمكن أن تستوعب روسيا، بعد السلام مع أوكرانيا، وكذلك تركيا وحتى دولا أخرى أوروبية وغير أوروبية، ولكن السؤال هو هل ستتمكن منظمة بهذه الملامح من صنع السلام في أوروبا والحفاظ عليه؟ على أي حال فإن اقتراح ماكرون سيحتاج بالضرورة إلى كثير من الوقت حتى يتبلور عمليا، وإن كان طرحه في حد ذاته يعبّر عن جانب من الهواجس الأوروبية حول المستقبل والسلام في أوروبا ككل.
د. عبدالحميد الموافي - كاتب وصحفي مصري