ترجمة قاسم مكي -

من بين الحسابات العديدة الخاطئة لفلاديمير بوتين توقُّعُه، قبل غزو أوكرانيا، بأن يكون اعتماد أوروبا على موارد الطاقة الروسية كبيرا إلى حد أن رد فعلها على الغزو سيكون خافتا ويقتصر على ما يزيد قليلا عن الإحتجاجات. لكن من الصعب القول إن تلك كانت هي الحال. فحتى ألمانيا ترسل الآن الأسلحة إلى ألمانيا.

في الشهر الماضي حاول بوتين استخدام "عضلات" الطاقة الروسية مباشرة وذلك بوقف صادرات الغاز إلى بولندا وبلغاريا لأنهما لن تشاركا في لعبة الروبل (سداد ثمن وارداتهما بعملة الروبل). فشل هذا المسعى. فكلا البلدين لديهما بدائل كافية.

لكن ذلك شكل تحذيرا بأن موسكو قد تسعى إلى استخدام سلاح الطاقة ضد باقي أوروبا. يعتقد رئيس روسيا أنه يملك القدرة على ذلك. فقد قال في الشهر الماضي أن "البديل" للغاز الروسي "ببساطة لايوجد".

على أوروبا الإستعداد لهذا الإحتمال بدلا من محاولة تخمين إمكانية حدوثه. مع ذلك، مهما فعل بوتين في الشهور العديدة القادمة سيرتد سلاح الطاقة عليه. إذ سيكون الهدف النهائي روسيا نفسها.

على مدى نصف قرن ظلت روسيا تمتدح علامتها التجارية كمصدر إمداد موثوق لموارد الطاقة. فمهما بلغت التوترات السياسية ستتدفق مواردها إلى أوروبا دون انقطاع. لكن الحرب قوضت هذه العلامة. فأوروبا لم تعد تثق بصادرات الطاقة الروسية. ولا تريدها.

قد يتزايد تلاعب روسيا بالإمدادات مع تزايد شراسة المعركة في أوكرانيا. لكن الوقف الدائم صادرات الطاقة الروسية لن يأتي من الكرملين بل من أوروبا العازمة على فصل نفسها عن المُورِّد الرئيسي لإحتياجاتها. ومع اشتداد الحرب يقترب الوقت الذي سيحدث فيه ذلك.

استثنت حزمة العقوبات الضخمة الأصلية التي أعدها بايدن "أضخمَ" الأشياء. إنها صادرات النفط والغاز الروسية التي تبلغ قيمتها في الوقت الحاضر 250 بليون دولار يحصل عليها الكرملين.

يعكس هذا الإستثناء مخاوف أوروبا من أن اقتصادها بدون هذه الإمدادات سيتعطل بحيث ترتفع الأسعار إلى حد تقويض الحكومات وإلتزامِها بوحدة الغرب.

لكن صدمة حرب روسيا دفعت الشركات إلى فرض عقوبات ذاتية لتجنب النفطِ الروسي. الشىء المختلف الآن هو التنسيق بين الحكومات الأوروبية الرئيسية وصناعة النفط والغاز التي تدير "لوجستيات" تدفق موارد الطاقة. لقد قاد ذلك إلى فهم أعمق لتدفقات وسلاسل إمداد الطاقة وخياراتها.

لا شك أن قطع حبل "الطاقة" السُّرِّي مع روسيا سيكون قاسيا. فحوالي مليوني برميل تقريبا من النفط يلزم إحلالُها. لكن حظر واردات النفط الروسي وشيكٌ بحسب أجندة الإتحاد الأوروبي. فالبلدان الغربية تضخ في السوق حوالي 1,3 مليون برميل يوميا من مخزوناتها الإستراتيجية. كما قلص إغلاق كوفيد في الصين النشاطَ الإقتصادي وحركةَ السفر مما حرر نفطا إضافيا. ومؤخرا قالت برلين أنها ستحتاج إلى عام أو عامين للإقلاع عن استخدام النفط الروسي. لكن لاحقا ذكر وزير الإقتصاد الألماني شيئا لافتا وهو أنه في حال اقتضت الضرورة يمكن إيجاد حل خلال "أيام".

واقع الحال، تراجعت واردات ألمانيا من نفط روسيا من 35% إلى 12% من إجمالي الإستهلاك. لكن التخلص من واردات المنتجات المكررة مثل وقود الديزل والبنزين والتي تشكل روسيا مصدرا مهما لها أشد صعوبة. فالعالم يواجه شحَّا في إمدادات الديزل ويعود ذلك جزئيا إلى إغلاقات مصافي التكرير.

أما أصعب شىء فهو الإستغناء الكامل عن الغاز الطبيعي الروسي الذي يُستورد عبر أنابيب النفط ويشكل ما بين 25% إلى 35% من إمدادات أوروبا. لكن يجدر الإنتباه إلى أن ذلك يعني ضمنا استيراد أوروبا ما بين 65% إلى 75% من وارداتها من الغاز من بلدان أخرى.

بدائل الغاز الروسي موجودة. ومعظم الغاز الطبيعي المسال الأمريكي الذي كان يشحن في السابق إلى آسيا يذهب الآن إلى أوروبا. ستزداد إمدادات الولايات المتحدة هذا العام. لكن يبدو أن حوالي ثلث الغاز الروسي يمكن إحلاله على الفور بالمصادر البديلة الموجودة.

هنالك طرق أخرى لإحلال واردات الغاز من الشرق. لكن ذلك يتطلب واقعية، بمعنى الإقرار بالاحتياج إلى معالجات قصيرة الأجل في فترة الحرب دون التخلي عن أهداف التحول إلى الموارد المتجددة في الأجل الطويل.

قد تأتي محطات عائمة لإستقبال الغاز الطبيعي المسال إلى ألمانيا وبلدان أخرى بنهاية العام. ويمكن إعادة تشغيل حقل الغاز العملاق "خرونينْجَن" في هولندة والذي أغلِق تقريبا لأسباب بيئية. ومن الممكن حرق الفحم الحجري لتوليد الكهرباء وبالتالي تخصيص أولوية استخدام الغاز للتدفئة والعمليات الصناعية.

تخلِّي أوروبا عن الغاز الروسي سيجرَّد بوتين من أهم سوق له. سيتكدَّس الغاز ويكف عن توليد الإيرادات. ولايمكن تفكيك أنابيب الغاز المثبَّتة ووضعها في ناقلات وشحنها إلى بلدان أخرى. وستعرقل العقوبات الغربية المفروضة على التكنولوجيا توسعَ روسيا في انتاج الغاز الطبيعي المسال بالقطب الشمالي. إجمالا، سيتدهور انتاج النفط والغاز هناك.

أعلن بوتين عن رده على ذلك وهو تشييد خطوط أنابيب جديدة إلى الصين. لكن ذلك سيستغرق أعواما. وحين يتعلق الأمر بالتسعير سيستغل الصينيون الفرصة مثلما فعلوا عندما تفاوضوا حول صفقة الغاز "خط أنابيب قوة سيبيريا" في عام 2014 بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم والعقوبات الغربية التي أعقبته.

لا أحد يعلم أفضل من بوتين ما الذي يعنيه ذلك من حيث خفض الإيرادات للكرملين. فكما قال بعد صفقة عام 2014 "أصدقاؤنا الصينيون ساوموا بشدة بالغة كمفاوضين."

• دانييل يرجين نائب رئيس شركة ستاندارد آند بوزر جلوبال ومؤلف عدة كتب عن الطاقة والنفط آخرها "الخارطة الجديدة: الطاقة والمناخ وصدام الأمم"

** مترجم عن الفاينانشال تايمز