النظرة الشائعة لا تعتد كثيرًا بالوعي الجمالي في صلته بالحضارة، وتضعه في مرتبة متأخرة بالقياس إلى أشكال الوعي الأخرى: كالوعي العلمي والديني والأخلاقي؛ فالحضارة يصنعها- في المقام الأول- العلم ومنظومة المعرفة، والقيم الأخلاقية. ولكن هذه النظرة قاصرة في مجملها وتفاصيلها؛ لأنها غافلة عن أن أشكال الوعي ليست كيانات منفصلة، وإنما هي تجليات متنوعة لوعي واحد، أو لنقل: إنها يجب أن تكون متجانسة بحيث تشكل هذا الوعي، ومن ثم تشكل الهوية. حقًّا إن تشكيل الوعي الجمالي ونضجه يأتي في مرتبة متأخرة في تشكَّل الحضارة، ولكن هذا لا يعني ثانويته، بل هو أمارة على أن الحضارة قد بلغت ذروة تألقها. وإيضاح هذا الأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل:
تنشأ الحضارة وتبدأ في الازدهار حينما تتوافر الشروط السياسية والاجتماعية المهيئة للإبداع في العلم والفكر والفن. وحينما يزدهر الفن والأدب، تنشأ حركة نقدية إزاء إبداعات الفن والأدب. ولكن الحركة النقدية تسعى بعدئذ إلى تأصيل ذاتها؛ فيلجأ الناقد إلى المبادئ الجمالية العامة لكي يدعم موقفه إزاء الفن بأساس نظري؛ وبذلك تنشأ النظريات الجمالية التي تعبر في النهاية عن نضج الوعي الجمالي عبر مسيرة زمنية من التطور. وهكذا ينشأ النقد من أجل تأمل الفن ودراسته، وتنشأ النظرية الجمالية من أجل تدعيم المواقف النقدية وتأصيلها، ومن هذا كله ينشأ الوعي الجمالي.
الوعي الجمالي يفترض إذن وجود الإبداع الفني والأدبي؛ فالوعي يفترض دائمًا وجود موضوعه متلازمًا معه. هذا هو الدرس العميق الذي تعلمناه من الفلسفة الظاهراتية التي تفهم الظواهر باعتبارها ما يظهر للوعي، والتي أدخلت شعارها الأساسي التالي في قلب الفلسفة المعاصرة: "كل وعي هو وعي بشيء ما". وهكذا نجد أن الوعي العلمي يفترض منجزات العلم وإبداعاته التي تستدعي التأمل والنظر الفلسفي، تمامًا مثلما أن خبرة الإدراك الحسي تفترض وجود المحسوس، ومثلما أن خبرة الخيال أو الوعي التخيلي يفترض وجود الموضوع المتخيَّل، وهكذا. وعلى هذا نقول إن الوعي الجمالي يفترض وجود أو تحقق قيم جمالية، بحيث يمكن أن تكون موضوعًا لتأمل هذا الوعي من خلال معايشته لها.
ولكن من الضروري أن نلاحظ هنا أن الوعي الجمالي لا يقتصر موضوعه على الفن؛ لأن القيم الجمالية- بخلاف القيم الفنية الخالصة- لا تقتصر على الفن، وإنما تتسع فيما وراء الفن لتشمل الجمال الطبيعي والبيئي، بل تشمل أيضًا الجمال في البيئات المُشيَّدة. ويمكن أن نذكر هنا- على سبيل التوضيح- بعضًا من الأمثلة على القيم الجمالية، ومنها: مبدأ الوحدة العضوية بين أجزاء العمل الفني أو بين مشاهد البيئة والعمران. والواقع أن هذه الخاصية تتجلى على أوضح نحو في "التيمة" (أو الفكرة الأساسية التي من أجلها تتضافر أجزاء العمل) في الرواية وفي الموسيقى. وهناك خاصية جمالية أخرى تُسمى "السيمترية" Symmetry، وهي قيمة جمالية تقليدية مستمدة من جماليات فن المعمار الكلاسيكي. وعوضًا عن السيمترية ساد مبدأ آخر هو التوازن؛ لأن التوازن لا يتحقق فقط من خلال السيمترية، وإنما يمكن أن يتحقق أيضًا من خلال اللاسيمترية Asymmetry، كما يحدث في التقابل والتضاد بين أجزاء البيان أو بين المجموعات الراقصة في عرض مسرحي على سبيل المثال. كما أن هناك قيمًا جمالية عامة أخرى من قبيل: الرشاقة والتشويق والعمق، إلخ.
ما نريد التأكيد عليه من مجمل ما تقدم أن الإحساس بقيمة الجمال ومواطنه هو أمر مرهون بالتحضر؛ ولذلك فإن قيمة الجمال تصبح قيمة عليا في الحضارات حينما تبلغ ذروة تألقها. حدث هذا في الحضارات القديمة: الحضارة المصرية القديمة- على سبيل المثال- احتفت بالجمال في السلوك وفي أساليب الحياة، وخلدت الجمال من خلال التعبير عنه وتجسيده في أعمال العمارة والنحت التي يعبر من خلالها الجميل عن العالم الإنساني والإلهي. والحضارة اليونانية تألق فيها فنا النحت والعمارة كنموذجين للتعبير عن قيمة الجمال، فكان النحت يجسد نموذج الجمال البشري، وكان المعمار بمثابة صروح فنية جمالية تنافس بقوة الصروح الفلسفية، وتمتزج معها في التعبير عن العالم الديني والإلهي والأسطوري كما يتجلى في حياة الناس. ومثل هذا يمكن أن يُقَال عن الفلسفة الأولى في الحضارات القديمة في الصين والهند، حينما لم تكن هناك مثل هذه التقسيمات الفلسفية الحداثية، وكانت الفلسفة تعبر عن نفسها ممتزجةً بلغة الخطاب الجمالي والديني والأسطوري؛ ويكفينا أن نطلع على أشعار الشاعر الصيني القديم لاو-تسي التي لا نستطيع أن نميز فيها بين ما هو شعري جمالي وما هو فلسفي وما هو دنيوي وما هو أسطوري؛ وأن نطلع على أشعار الأوبانيشاد "وهي كتب هندوسية مقدسة" التي نجد فيها كل هذا ممتزجًا في وحدة واحدة. ويحدث هذا الآن في حضارات عصرنا؛ إذ نجد أن شعوب هذه الحضارات المعاصرة يُنزِلون الجمال بأشكاله كافةً مَنزلة عظيمة من حياتهم، باعتبار أن قيمة الجمال ليست مجرد قيمة ثانوية، بل هي قيمة عليا تعين البشر ليس فقط على الاستمتاع بالحياة، وإنما أيضًا على فهمها، وعلى الإيمان بأن الحياة في ذروة تألقها هي تلك التي يعي فيها الناس تلك القيمة كما تتجلى في الفن وفي الطبيعة.
تنشأ الحضارة وتبدأ في الازدهار حينما تتوافر الشروط السياسية والاجتماعية المهيئة للإبداع في العلم والفكر والفن. وحينما يزدهر الفن والأدب، تنشأ حركة نقدية إزاء إبداعات الفن والأدب. ولكن الحركة النقدية تسعى بعدئذ إلى تأصيل ذاتها؛ فيلجأ الناقد إلى المبادئ الجمالية العامة لكي يدعم موقفه إزاء الفن بأساس نظري؛ وبذلك تنشأ النظريات الجمالية التي تعبر في النهاية عن نضج الوعي الجمالي عبر مسيرة زمنية من التطور. وهكذا ينشأ النقد من أجل تأمل الفن ودراسته، وتنشأ النظرية الجمالية من أجل تدعيم المواقف النقدية وتأصيلها، ومن هذا كله ينشأ الوعي الجمالي.
الوعي الجمالي يفترض إذن وجود الإبداع الفني والأدبي؛ فالوعي يفترض دائمًا وجود موضوعه متلازمًا معه. هذا هو الدرس العميق الذي تعلمناه من الفلسفة الظاهراتية التي تفهم الظواهر باعتبارها ما يظهر للوعي، والتي أدخلت شعارها الأساسي التالي في قلب الفلسفة المعاصرة: "كل وعي هو وعي بشيء ما". وهكذا نجد أن الوعي العلمي يفترض منجزات العلم وإبداعاته التي تستدعي التأمل والنظر الفلسفي، تمامًا مثلما أن خبرة الإدراك الحسي تفترض وجود المحسوس، ومثلما أن خبرة الخيال أو الوعي التخيلي يفترض وجود الموضوع المتخيَّل، وهكذا. وعلى هذا نقول إن الوعي الجمالي يفترض وجود أو تحقق قيم جمالية، بحيث يمكن أن تكون موضوعًا لتأمل هذا الوعي من خلال معايشته لها.
ولكن من الضروري أن نلاحظ هنا أن الوعي الجمالي لا يقتصر موضوعه على الفن؛ لأن القيم الجمالية- بخلاف القيم الفنية الخالصة- لا تقتصر على الفن، وإنما تتسع فيما وراء الفن لتشمل الجمال الطبيعي والبيئي، بل تشمل أيضًا الجمال في البيئات المُشيَّدة. ويمكن أن نذكر هنا- على سبيل التوضيح- بعضًا من الأمثلة على القيم الجمالية، ومنها: مبدأ الوحدة العضوية بين أجزاء العمل الفني أو بين مشاهد البيئة والعمران. والواقع أن هذه الخاصية تتجلى على أوضح نحو في "التيمة" (أو الفكرة الأساسية التي من أجلها تتضافر أجزاء العمل) في الرواية وفي الموسيقى. وهناك خاصية جمالية أخرى تُسمى "السيمترية" Symmetry، وهي قيمة جمالية تقليدية مستمدة من جماليات فن المعمار الكلاسيكي. وعوضًا عن السيمترية ساد مبدأ آخر هو التوازن؛ لأن التوازن لا يتحقق فقط من خلال السيمترية، وإنما يمكن أن يتحقق أيضًا من خلال اللاسيمترية Asymmetry، كما يحدث في التقابل والتضاد بين أجزاء البيان أو بين المجموعات الراقصة في عرض مسرحي على سبيل المثال. كما أن هناك قيمًا جمالية عامة أخرى من قبيل: الرشاقة والتشويق والعمق، إلخ.
ما نريد التأكيد عليه من مجمل ما تقدم أن الإحساس بقيمة الجمال ومواطنه هو أمر مرهون بالتحضر؛ ولذلك فإن قيمة الجمال تصبح قيمة عليا في الحضارات حينما تبلغ ذروة تألقها. حدث هذا في الحضارات القديمة: الحضارة المصرية القديمة- على سبيل المثال- احتفت بالجمال في السلوك وفي أساليب الحياة، وخلدت الجمال من خلال التعبير عنه وتجسيده في أعمال العمارة والنحت التي يعبر من خلالها الجميل عن العالم الإنساني والإلهي. والحضارة اليونانية تألق فيها فنا النحت والعمارة كنموذجين للتعبير عن قيمة الجمال، فكان النحت يجسد نموذج الجمال البشري، وكان المعمار بمثابة صروح فنية جمالية تنافس بقوة الصروح الفلسفية، وتمتزج معها في التعبير عن العالم الديني والإلهي والأسطوري كما يتجلى في حياة الناس. ومثل هذا يمكن أن يُقَال عن الفلسفة الأولى في الحضارات القديمة في الصين والهند، حينما لم تكن هناك مثل هذه التقسيمات الفلسفية الحداثية، وكانت الفلسفة تعبر عن نفسها ممتزجةً بلغة الخطاب الجمالي والديني والأسطوري؛ ويكفينا أن نطلع على أشعار الشاعر الصيني القديم لاو-تسي التي لا نستطيع أن نميز فيها بين ما هو شعري جمالي وما هو فلسفي وما هو دنيوي وما هو أسطوري؛ وأن نطلع على أشعار الأوبانيشاد "وهي كتب هندوسية مقدسة" التي نجد فيها كل هذا ممتزجًا في وحدة واحدة. ويحدث هذا الآن في حضارات عصرنا؛ إذ نجد أن شعوب هذه الحضارات المعاصرة يُنزِلون الجمال بأشكاله كافةً مَنزلة عظيمة من حياتهم، باعتبار أن قيمة الجمال ليست مجرد قيمة ثانوية، بل هي قيمة عليا تعين البشر ليس فقط على الاستمتاع بالحياة، وإنما أيضًا على فهمها، وعلى الإيمان بأن الحياة في ذروة تألقها هي تلك التي يعي فيها الناس تلك القيمة كما تتجلى في الفن وفي الطبيعة.