في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالحرب الروسية في أوكرانيا وتصاعد التورط غير المباشر لبعض دول حلف الأطلنطي في الحرب، بولندا على سبيل المثال، فإن الأوضاع في ليبيا الشقيقة تتجه نحو التصعيد، وإعادة الاصطفاف ومن ثم تعميق الاستقطاب، والصراع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا التي عينها مجلس النواب الليبي ومنحها الثقة في الأول من مارس الماضي، وهو ما يلقي بظلاله ونتائجه السلبية على الأوضاع في ليبيا، وبات يهدد باحتمال اتساع الاحتكاكات والاشتباكات المسلحة بين الميليشيات والقوى المختلفة التي يسعى كل منها إلى الحفاظ على مصالحه المباشرة والضيقة ولو على حساب مصالح ليبيا الدولة والشعب في النهاية، ويمكن الإشارة إلى بعض جوانب التعقيدات التي تتفاعل على الساحة الليبية واحتمالاتها من خلال الجوانب التالية:

أولا: إنه مع الوضع في الاعتبار مختلف معطيات الأوضاع الليبية، بجوانبها المتعددة، فإنه ليس من المصادفة أن تزداد حدة الاستقطاب في ليبيا وأن تطفو على سطح الأحداث فيها بالتزامن مع تطورات الحرب في أوكرانيا وأزمة الغاز الأوروبية ومحاولات أوروبا والولايات المتحدة إيجاد أي بدائل لتعويض جزء من النفط والغاز الروسييّن الذي تعتمد عليه، وإذا كانت أنظار أكثر من دولة أوروبية وخاصة إيطاليا وفرنسا قد اتجهت نحو ليبيا التي يمكنها إنتاج نحو مليوني برميل من النفط وحتى زيادة ذلك إلى ثلاثة ملايين برميل بإدخال بعض التحسينات على عمليات الإنتاج، فإن ما يزيد من أهمية موارد النفط والغاز الليبية أنها من نوعية جيدة -نفط خفيف- وأنها قريبة كذلك من أوروبا، وقد أجرت الحكومة الإيطالية اتصالات بالفعل مع حكومة الدبيبة في الأسابيع الأخيرة حول إمكانية الاستفادة من النفط الليبي، وعلى الجانب الآخر اضطرت مؤسسة النفط الليبية إلى إعلان القوة القاهرة ووقف إنتاج النفط في حقلي الفيل والشرارة في منطقة الهلال النفطي في 17 أبريل الماضي ووقف التصدير عبر ميناء الزويتينة النفطي، نظرًا لقيام عناصر ليبية مسلحة ومدعومة من قيادات وعناصر قبلية جنوبية بالدخول إلى مناطق الإنتاج المشار إليها والمطالبة بشروط معينة للسماح بعودة الإنتاج مرة أخرى.

وإذا كانت مؤسسة النفط الليبية قد استأنفت العمل في ميناء الزويتينة بشكل مؤقت في الأول من مايو الجاري، فإن مشايخ وأعيان وممثلي المنطقة الجنوبية أعلنوا بعد لقائهم مع فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، عن تفويضهم له بالعمل على ضمان العائدات النفطية الليبية واستثمارها بشفافية لصالح كل المناطق الليبية ومنع استخدامها وإهدارها لخدمة أغراض سياسية، وكانت حكومة باشاغا قد اتهمت حكومة الدبيبة باستخدام العائدات النفطية لخدمة أغراضها والإنفاق على الميليشيات في طرابلس ومنع دفع رواتب العاملين في شرق ليبيا. ومن المعروف أن مؤسسة النفط الليبية حولت مؤخرا ثمانية مليارات دولار إلى البنك المركزي الليبي الذي تسيطر عليه حكومة الدبيبة حتى الآن وهوما طالب عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي بوقفه ووقف تعامل مختلف المؤسسات الليبية مع حكومة الدبيبة، باعتبار أن شرعيتها انتهت منذ 24 ديسمبر الماضي وبعد سحب الثقة منها. وعلى أي حال فإن جدلا كبيرا ومتعدد الأطراف يجري حاليا حول العائدات النفطية الليبية وكيفية وسبل التصرف فيها وكيفية الحفاظ عليها وعدم توظيفها سياسيا، ووصل الأمر إلى حد التلويح بإمكانية فرض رقابة دولية على تلك العائدات وعلى الإنفاق منها في المجالات الضرورية والاحتفاظ بالباقي وعدم التصرف فيه حتى يتم التوصل إلى وضع ميزانية جديدة للدولة الليبية وحسم الخلافات حول أي حكومة ليبية ستتولى المسؤولية الشرعية والقانونية في إدارة شؤون ليبيا وتحمل المسؤولية.

ثانيا: إنه في حين استطاع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة دعم قوته في طرابلس، وإلى حد وقوع اشتباكات في العاصمة الليبية في 15 مارس الماضي لمنع فتحي باشاغا رئيس الحكومة التي عينها مجلس النواب من الدخول إلى طرابلس وممارسة صلاحيات حكومته منها، ووقوع اشتباكات في مدينة الزاوية غرب طرابلس هذا الأسبوع، فإن «باشاغا» الذي أكد من قبل أنه يريد تولي السلطة بالتراضي ودون عنف، اضطر إلى عقد أول اجتماع لحكومته في مدينة سبها يوم الخميس 28 أبريل الماضي، حيث تم بحث برنامج الحكومة ومشروع الميزانية، وقد أكد باشاغا أنه لا يريد لحكومته أن تمارس مهامها من مدينة سبها ولا مدينة سرت ولكن من العاصمة طرابلس، وأن انتظاره لن يطول وأن «حكومته لن تقف مكتوفة الأيدي أمام منعها من ممارسة مهامها»، ويعني ذلك بوضوح أن احتمالات الصدام في طرابلس واردة بشكل ما، خاصة وأن «الدبيبة» يؤكد على تمسك حكومته بالسلطة».

وبينما توجد عناصر وقوى وأطراف ليبية مؤيدة للدبيبة، وأخرى مؤيدة لباشاغا،، بما في ذلك قوات مسلحة ورئاسة أركان تابعة لكل من الحكومتين، وهو ما يزيد من مخاطر الصدام، فإن المشكلة الأخرى تتمثل في أن كل من الدبيبة وباشاغا يسعى بنشاط من أجل إعادة التأكيد على العلاقات مع الأطراف الإقليمية والدولية المؤيدة له، وربما الموافقة على منحها امتيازات أو تسهيلات دفاعية أو استثمارية أو اقتصادية أو غيرها في ليبيا وربما على حساب المصالح الليبية بشكل أو بآخر.

وفي هذا الإطار فإن الدبيبة قام بزيارة إلى الجزائر والتقى بالرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في 17 أبريل الماضي وعرض تصوره للانتخابات الليبية، وقد أعرب الرئيس تبون عن أن الجزائر تعتبر حكومة الدبيبة هي الحكومة الشرعية، وبينما يعتزم الدبيبة زيارة تونس وبعض الدول الأخرى، فإن باشاغا يتحرك أيضا، حيث التقى مع ممثلين للولايات المتحدة ولدول غربية وزار تونس ويعتزم زيارة تركيا ودول أخرى لا تزال لم تحسم مواقفها بعد تشكيل حكومة باشاغا ومن هنا فإنه لم يكن مصادفة أن يدعو موقع «ناشيونال انتريست» الأمريكي قبل أيام الدول الغربية إلى حسم موقفها من حكومتي باشاغا والدبيبة وإنهاء موقف الضبابية الذي تتخذه إزاء الأوضاع الليبية، والمؤكد أن حسم واشنطن وباريس وروما ولندن لمواقفها واتخاذها جانب أي من الحكومتين سيكون مؤثرا بالضرورة في حاضر ومستقبل ليبيا، ولكن الوصول إلى قرار حاسم من جانب أي من تلك القوى الغربية وغيرها يرتبط بحسابات كثيرة ومصالح تريد كل منها تأمينها بشكل أو بآخر، وهو ما يثير مخاوف أطراف ليبية عديدة تتمنى ألا تكون المصالح الليبية هي الثمن في النهاية. وبينما ترددت أنباء حول وصول طائرة نقل عسكرية تركية وأخرى بريطانية إلى قواعد عسكرية في غرب ليبيا في الأيام الأخيرة، دون الكشف عن حمولاتها أو الغرض من رحلتها، فإن انسحاب الأعضاء الممثلين لشرق ليبيا من المجموعة العسكرية (5+5) مؤخرًا احتجاجا على ممارسات حكومة الدبيبة، حسبما أعلنوا، يشير إلى احتمالات تدهور وتصاعد التوتر في ليبيا، خاصة مع تزايد الاتهامات المتبادلة بين الدبيبة وباشاغا ومؤيديهما في الأوساط المختلفة وهو ما يتطلب العمل السريع وبكل السبل من جانب مؤيدي السلام والاستقرار في ليبيا من أجل احتواء هذا الخطر.

ثالثا: إنه بالرغم من أن الدبيبة يتمسك بالسلطة من أجل تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية، التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي، وحتى يسلم السلطة إلى حكومة منتخبة، كما يقول، وبرغم أن مجلس النواب الليبي كلف باشاغا بتشكيل الحكومة لتنظيم الانتخابات القادمة في أقرب فرصة، إلا أنه يبدو أن إجراء الانتخابات لن يكون قريبا. صحيح أن ستيفاني ويليامز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا وكذلك السفير الأمريكي في طرابلس يدعمان ذلك، وصحيح أيضًا أن لجنة المسار الدستوري التي عقدت في القاهرة من 13 حتى 18 أبريل الماضي التي جمعت ممثلين لكل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة برعاية الأمم المتحدة ودعم مصر قد أكدت على أن إعادة تفعيل المسار الانتخابي وحل الأزمات التي تهدد استقرار ليبيا «يأتي عبر انتخابات تستند إلى إطار دستوري سليم وإطار انتخابي بمدد زمنية محددة» إلا أنه توجد خلافات حول الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات مما يؤخر الموعد المحتمل لإجرائها.

ولعل اتفاق مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة 29 أبريل الماضي لتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لمدة ثلاثة أشهر، أي حتى 31 يوليو القادم يتيح الفرصة للاتفاق حول ترتيبات الانتخابات، خاصة أن لجنة المسار الدستوري ستجتمع في القاهرة يوم 15 مايو الجاري، غير أن تجدد الاشتباكات وتصاعد الخلافات والعودة إلى الاصطفاف المحلي والإقليمي والدولي في ليبيا وحولها لا يصب في صالح ليبيا في الحاضر ولا المستقبل، خاصة وأنها تشهد الآن محاولات لإعادة تجميع جماعات إرهابية في بعض مناطقها، بعد عودة عبدالحكيم بلحاج زعيم المتطرفين الليبيين إلى ليبيا يوم 21 أبريل الماضي فهل تتغلب القيادات الليبية على مصالحها ومطامحها الذاتية من أجل حاضر ومستقبل ليبيا أم يتركونها لتقع تحت الرقابة الدولية والتحكم في مواردها؟!.

_______________

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري