لا يستطيع محمد عبده نسيان منافسة طلال مداح له حتى بعد اثنين وعشرين عامًا من وفاة الأخير. هذا ما يمكن أن نلخّص به تصريحات «فنان العرب» الأخيرة للتلفزيون السعودي، والتي أثارت ضجة واسعة لم تهدأ على وسائل التواصل الاجتماعي حتى كتابة هذه السطور.

قبل أن أخوض في ذكر ما قاله أبو نورة سأقول إنني ذات كتابة عن الفنانة الكبيرة فيروز استشهدتُ بعبارة قيلت في مدحها مفادها أننا نحب فيروز لأننا لا نسمع إلا أغانيها، إذْ لا صوت آخر لها خارج فنها ولا تصريحات، ما يسمح لنا أن نكوِّن عنها صورة ملائكية مستقاة من عذوبة غنائها. صحيح أن فيروز ظهرتْ بعد ذلك في حوارات قليلة وتحدثت في برنامج وثائقي لابنتها المخرجة ريما الرحباني عن علاقتها بزوجها وتوأمها الفني عاصي الرحباني، إلا أنها حتى في هذا الظهور النادر استطاعت أن تسلبنا ببساطتها وعفويتها في الحديث بلهجتها اللبنانية غير المتكلفة، دون أن يخفى على المتابع الثقافة العالية التي تمتلكها وتتبدى من بين سطور كلماتها، تلك الثقافة التي إنْ لم يتحلّ بها الفنان فإنه يسقط في هاوية عميقة.

وعندما أقول الثقافة فإنني أعني امتلاك الفنان رؤية في الحياة ووعيا مدعّمين بسعة أفق وكبير اطلاع وغزير قراءة، وطلاقة لسان. أن تشعر وأنت تستمع إلى حديثه بعميق تجربته في الحياة، لا يكتفي بقراءة السطور، بل ما وراءها، لا يكتفي بدور المتلقي للأخبار في الفضائيات بل يمحصها ويحللها ويفندها أحيانا. إذا تكلم في الفن أدهشتك رؤيته العميقة، وإذا خاض في السياسة أبهرك تحليله الثاقب. وإذا سئل عن التاريخ سرده أمامك كأنه يراه يحدث الآن. فهل لمحمّد عبده نصيب من هذه الصفات؟ الإجابة لا تخفى على متابعي حواراته.

في ظهوره الأخير في برنامج «مراحل» على التليفزيون السعودي مساء الثلاثاء الماضي، سئِل محمد عبده عن إرث مُجايلَيْه الفنانَيْن الكبيرَيْن الراحلَيْن طلال مداح وأبوبكر سالم، وهما مَنْ هُما في تاريخ الفن في الجزيرة العربية، ففاجأ عبده متابعيه بالقول إن مداح وأبوبكر «لم يقدما أي إرث وطني يذكر خلال مسيرتهما الفنية»!، بل وسخر من أغنية «يا بلادي واصلي» لأبو بكر سالم زاعمًا أنها لا تصل لمستوى أن تكون أغنية وطنية، وأن أبوبكر بدا في أدائها وكأنه يدفع سيارة متعطلة!. أما أغنية «وطني الحبيب» لطلال مداح التي تعتبر من أشهر الأغاني الوطنية السعودية فقد اتهمها عبده بسرقة لحنها من أغنية أخرى!، وهي تهمة تبعث على الابتسام بسخرية عندما نستعيد أن ثلاثًا من أجمل وأشهر أغاني محمد عبده «لنا الله»، و«ليلة خميس»، و«المعازيم» كانت قد لُحِّنت أصلًا ليغنيها طلال مداح، لولا أن محمد عبده «لطشها» منه على حد تعبير مداح في أحد حواراته التليفزيونية.

ورغم أن حوارات الفنان محمد عبده قليلة في المجمل، إلا أنها عادة ما تخرج بقنابل كلامية تثير عاصفة من الانتقادات، وتذكرنا بمقولة قيلت في حق زرياب: «أسمعهم يغنون لا أسمعهم يتحدثون». وقد يظن البعض أن هذه الآراء الصادمة لمحمد عبده في زملائه، لا سيما منافسه الأبرز طلال مداح، جاءت فقط في السنوات الأخيرة، متذكرين على سبيل المثال تصريحه عام 2015م الذي هاجم فيه المحيطين بمداح واصفًا إياهم بـ«البطانة السيئة»، إلا أن تاريخ «فنان العرب» يخبرنا أن مثل هذه التصريحات مألوفة لديه منذ بداياته الفنية. في عام 1973 على سبيل المثال وخلال جلسة مع الصحافة السعودية في منزل الفنان السعودي عبدالعزيز الحماد تحدث أبو نورة أيضًا بشكل سلبي عن أغنية طلال مداح الأخيرة (في ذلك الوقت) التي لحنها الموسيقار الكبير بليغ حمدي قائلًا إن بليغ «فشل فشلًا ذريعًا في صياغة اللحن لأنه لم يضعه في القالب الذي يلائم طلال مداح»، ثم أطلق دعابة كاشفة عمّا يخفيه لاوعيه: «لا تعتقدوا أنني غيران لأن بليغ لحّن لطلال، فقد لحن لي بليغ أغنية «يا ليلاه» قبل خمس سنوات»!.

في المقابل فإن طلال مداح، وفي واحد من أواخر حواراته قبل وفاته عام 2000 (مع نشوى الرويني في قناة mbc) سُئِل عن رأيه في الفنانين الشباب -آنئذ- عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وأصيل أبوبكر وعبدالله رويشد ونبيل شعيل كانت إجابته: «كل اسم من هذه الأسماء له بصمتُه في الساحة، وله كيانه، واستطاع تنمية قاعدته الجماهيرية التي تشجعه منذ بداياته، ولهم جماهير من العالم العربي عامة»، إجابة تكشف كم هو ممتلئ إلى الحد الذي لا يمنعه من إبداء إعجابه بمطربين شباب حتى وإن بدَوْا ظاهريًّا منافسين له، في حين لم يستطع محمد عبده تجاوز عقدة منافسة طلال مداح له حتى بعد اثنين وعشرين عامًا من وفاته!.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني