Ashuily.om -

رغم يقيني المطلق بصعوبة واستحالة تطبيق مبدأ الرقابة على الأبناء خصوصا في هذا العصر الرقمي المتشابكة جذوره والمتداخلة أركانه، ورغم معرفتي التامة بما توحي به كلمة رقابة من دلالات قد لا يحبذ الكثير استخدامها كالحراسة والوصاية، إلا أنني أجدني هنا مضطرا إلى استخدامها والتأكيد عليها بعد أن رأيت وقرأت وسمعت عن مآس وويلات ومصائب حلت بالكثير من الأسر والمجتمعات والأفراد جراء ترك الأمور على غواربها من دون رقابة أو سؤال أو نبش في تفاصيل الحياة اليومية للأبناء.

ورغم أنني لست من دعاة الرقابة المفرطة على الأبناء ولا على الوصاية عليهم فيما يتلقون من معارف وعلوم، بل أراني من دعاة ترك الناشئة يتعلمون من التجربة ويطلعون على معارف وعلوم الآخرين من كل أصقاع العالم، إلا أن السيل قد بلغ الزبى والأمر جاوز حده ووصل حد الخطر الذي بات يهدد أمن وسلامة واستقرار الأسر والمجتمعات ولن يتأتى العودة بالمسار إلى وضعه الطبيعي إلا بتشديد الرقابة والصرامة مع ما يعرض على الشاشات من محتوى يجب أن يتناسب مع أفكار وقيم ومعتقدات وأديان المجتمعات المختلفة ومصادرة كل ما يتعارض مع ذلك من الأفكار الهدامة والمعتقدات التخريبية والأديان الفاسدة التي تحاول أن تجد لها بيئة ومتنفسا في العوالم الافتراضية بعد أن فشلت في إثبات وجودها في العوالم الحقيقية.

ما حداني للكتابة في هذا الموضوع هو النجاح الكبير الذي حققته دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين مجتمعة في "التوصل إلى اتفاق بشأن فرض قواعد جديدة تطالب فيها عمالقة شركات التكنولوجيا (جوجل، أمازون، ابل، ميتا، مايكروسوفت، تويتر، وتيك توك) ببذل جهد مضاعف لمراقبة المحتوى الذي يعرض في منصاتها المختلفة وإزالة أي محتوى غير قانوني كالمحتويات التي تستهدف خطابات الكراهية والمعلومات المضللة والمحتويات الضارة الموجودة على الأنترنت وتعليق حسابات المنتهكين لذلك، إضافة إلى أن القانون الأوروبي الجديد يلزم مواقع التجارة الإلكترونية بالتحقق من هوية مورديها وحظر استخدام البيانات المتعلقة بالآراء السياسية في الإعلانات. وهددت هذه الدول بفرض غرامات على الشركات التي لا تلتزم بهذه القوانين بغرامات مالية وقد يصل الأمر إلى حظر عملها في دول الاتحاد الأوروبي".

هذا ما تقوم به التكتلات الكبرى في العالم من توفير الحماية والرقابة لأوطانها ومواطنيها بعد أن أيقنت أن لا مناص من التدخل لكبح جماح سطوة شركات التقنية العالمية وهيمنتها على العالم أجمع. وفي رأيي أن الوقت قد حان لفرض مثل هذه القوانين والتدابير الصارمة سواء على الصعيد الشخصي للأسرة أو على صعيد التكتلات السياسية والاقتصادية أو حتى على صعيد الدول منفردة إن استطاعت إلى ذلك سبيلا للحد من التخريب الذي تحدثه كثير من المنصات والمواقع الإلكترونية بعقول وأفكار أفراد المجتمع.

لا نستطيع أن ننكر أن لعمالقة شركات التقنية الكبرى في العالم أجنداتها وسياساتها التي تنتهجها في سبيل تحقيق مكاسبها الشخصية أو المؤسسية أيا كان من يدير ويشرف على تلك المؤسسات ويوجهها لكل دولة على حدة في أرجاء العالم المختلفة، وأيضا لا يمكن غض الطرف عن الحروب الباردة الدائرة رحاها بين تلك الشركات لتحقيق سياساتها وسياسات من يديرها والمنافسة على إدارة العالم الرقمي والهيمنة عليه والسيطرة على العالم وفرض هيمنة القطب الرقمي الواحد، ولكننا في ذات الوقت يمكننا ولو بشيء بسيط من التوعية والرقابة والنصح والإرشاد والتوجيه في الحد من سطوة وسيطرة وهمينة تلك الشركات على العقول والأنفس والحد من أعداد الضحايا التي قد تقع فريسة لطمع وجشع تلك الشركات وغيرها ممن يستهدف السلام الإنساني في العالم فالشواهد كثيرة بخراب أمم ومجتمعات انساقت وانجرفت أمام طوفان من الأكاذيب والافتراءات تبينت حقيقة من يقف ورائها بعد أن فات الأوان ووقعت الفأس في الرأس.

راقبوا ذواتكم قبل أن تراقبوا أبناءكم عند الانغماس في ملذات الحياة الرقمية فما يعرض فيها ليس كله حلو المذاق فكما يقال فالسم يدس في العسل أحيانا، وما نسمعه من كوارث ومآس تحدث في تلك العوالم كفيل بأن يدفعنا إلى فرض قيود صارمة ورقابة مانعة على كثير مما يعرض قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.

* عبدالله الشعيلي كاتب عماني ورئيس تحرير جريدة الأوبزيرفر