كيف يعيد الكاتب والفنان كتابة الواقع؟ ولا أقصد بالإعادة هنا هو توثيقه أو تدوين مباشر لما يحدث بالفعل خصوصًا وأن الواقع قد يأتي مع رقيب متعنت، وهل تأتي الأعمال الغرائبية أو الفانتازية هربًا من الرقيب أصلًا، أم أن الفن هنا يلقي بظلاله على عالم الكاتب الذي يكون مشغولًا بأسئلة فنية من قبيل، حدود المخيلة وقدراتها، إمكانية صناعة عالم جديد، وخلق أسلوب مغاير كليًّا، لطالما كانت كل هذه الأسئلة محل توقف عند أي نقاش حول العمل الفني والأدبي. مع كثير من التعقيد ينطوي عليه كل مفهوم من المفاهيم التي ذكرتها أعلاه، فما هي الواقعية أصلًا؟ وما حدودها؟ وكيف يمكن تمثيلها؟ وما هي الغرائبية أيضًا وما الذي يقودها في الأصل؟ ولماذا نلجأ للتعبير بطريقة دون غيرها؟ وآمل شخصيًا أن نهتم بالنظر للأدب العربي المعاصر وهذه الأسئلة، فالكاتب السعودي أحمد الحقيل يتحدث عن ولعه بالواقعية، وعن حاجتنا الماسّة للعودة إليها في هذا التوقيت فيقول: "أظن أننا بحاجة لإعادة قراءة الواقعية من جديد. تبدو الآن ملحّة أكثر من أي وقت. نحتاج كتابة مندفعة، حادة، لا مهادنة، لا تنميطية، بل وقحة. كتابة تجارب أكثر من كونها كتابة انتقاء. نحتاج همنجواي ومايلر وسيبولد وهنتر طومبسون وأصلان... وأتوقع أنه ستكون هنالك عودة للكتابة الواقعية، أو إلى بعض تقنياتها وآلياتها. كل هذا التعليب، والرخاوة، والقولبة، والكسل الإبداعي، لا بد أن ينتج حركة مضادة، تعود إلى صلب الملموس، وتحاول انتشاله من كل هذا الادعاء والتنميط الممنهج. كل مجتمع سيبحث عن نفسه في منتجاته الإبداعية"، ويتفق معه الكاتب الجزائري صلاح باديس المولع هو الآخر بريموند كارفر واحد من أهم كتّاب الواقعية القذرة في العالم وفي القرن العشرين في أمريكا تحديدًا.
لكن هذا كله يعيدنا لسؤال جوهري وهو ماذا إذا كان هذا الواقع مصادرًا؟ والكتابة عنه مصادرة أيضًا. من السهل صديقي القارئ أن تجد هنا وهناك نصائح عن التغذية السليمة وضرورة الحفاظ على صحتك وعلى حصة يومية من الرياضة وأن تجد نفسك مذنبًا إزاء عدم التزامك بحقائق ثابتة كهذه، بل وساطعة كالشمس ومتاحة أمامك بالفعل، لكن قلة قليلة من الناس تستطيع أن تناقش وبحرّيّة كاملة كيف أن أمراضًا من قبيل السكري وهي ناجمة عن خرق لكل ما سبق له أسباب سياسية هو الآخر. فعندما تكون ساعات العمل طويلة جدًا والأجور قليلة، بالإضافة إلى الضغط النفسي في العمل وعدم وجود تأمينات على حياة الموظفين في معظم أعمال العالم اليوم، كيف يتوقع منك أن تخصص انتباهك في أكثر من شيء في الوقت نفسه، في الوقت الذي تصارع فيه من أجل البقاء. كما أن الدراسات الحديثة تتحدث عن الأغذية السريعة كبديل اقتصادي مناسب لطبقات عديدة من المجتمع، إزاء الغذاء المطبوخ في المنزل أو في المطاعم الكبيرة. ما أريد أن أقوله بهذا المثال الشاطح هو أن مرد الأشياء سياسي، وهو بطبيعة الحال أمر لا ينبغي أن يكون متاحًا في مجتمعات تقبض عليها سلطات كثيرة، وهي غير حرة بما يكفي لمناقشة السياسي بفجاجة ومباشرة.
هنالك عملان يستحقان النقاش بهذا الصدد وهما ماكيت القاهرة لطارق إمام إصدار 2022 والتي تنافس بقوة على جائزة الرواية العربية لهذا العام والتي سيعلن عنها الشهر القادم في أبوظبي، ورواية تاريخ آلهة مصر للكاتب المصري محمد ربيع والتي صدرت عام 2020، كلا العملين يقلب موازين العالم، ويعيد اختراع واقع آخر، الأولى عبر طيف دولوز في المحو والحذف والإضافة من خلال نسخة يتم بناؤها من القاهرة داخل مجسم "ماكيت" ليعاد تشكيلها من جديد داخل الماكيت نفسه، تتوالد الحيوات العابرة في هذه النسخ لتعبر عن مأزق المدينة والمواجهة الحادة معها، وعما تفعله بصفتها مدينة في تشكيل ساكنيها والعبث بمصائرهم، عن السلطة فيها والقمع، والحبس، والانشغال بالمشروع كهرب من توحش المدينة وأسئلتها الصعبة.
أما تاريخ آلهة مصر ففي جزئها الأول وبأسلوب عبثي خالص يدفعك أحيانًا للضحك بصوت عال، نقرأ تاريخ جيل من الآلهة الذين سيحكمون مصر أعظم بلد في العالم، البلد الوحيد الذي سيبقى على وجه الأرض بعد موت الجميع حتى أن المصريين أنفسهم سيموتون ولن يظل هناك سوى الملك خربتو المطلق. تحكم كل آلهة لقرون، وكل إله يأتي بالعجيب الخاص به، فهنالك الإله الشاعر والإله الفلاح والإله الطيار وهناك الآلهة التي ستحاول التأسيس للديمقراطية وسيطلق عليها "اللي ما يتسماش الكافر" تركيبة عجيبة من السخرية، حتى في هوامش العمل، فهنالك إحالات مستمرة لكتب في التاريخ هي من اختراع كاتب الرواية، وتفاصيل من تلك الكتب الغريبة العجيبة، تنتابك أثناء القراءة مشاعر كثيرة، انعدام المعنى تارة، والهزيمة أمام الواقع تارة أخرى، والرغبة في نقل الفاجعة قبل أن يطالها النسيان عبر تجميدها في هذه الكتابة، والعين التي تنظر للواقع بعيون أخرى فتجد داخل نص عن آلهة لا يطالها سوء رقصة الكهرباء التي ستعد تمرينا لبداية كل يوم في حياة المصريين، وهنالك نهر النيل أيضًا وإن كان سيفيض ويجف هو الآخر، إذن هنالك دائما عنصر واقعي يتم تضخيمه واللعب به، وتحويره وليّ عنقه لكي يصبح مثل الكابوس لا يأتي إلا ونحن نيام، إلا أنه لا يقل واقعية في قدرته على إخافتنا وتهديدنا لوقت طويل.
يعود النقاش حول الأدب والواقع بالمهتمين بعالم الأدب لمحاضرات أرسطو عن الدراما في كتابه "عن الشعر" والذي تحدث عن المحاكاة في الفن وجادل أنها عملية تقليد يمرر من خلالها عالم الشخصية والعاطفة لا الأشياء المادية فحسب، عاد هذا الجدل في عصرنا هذا مع جيمس وود وكتابته عن الواقعية في الأدب والتي سببت جدلًا واسعًا في الدوائر الأدبية في أمريكا وأوروبا، إذ يتخلى وود عن الطلائعي لصالح الواقعي المباشر في ترتيبه لأهمية الأعمال الأدبية. مما دفع نايجل نييل الصحفي في ذا غارديان لإعادة مساءلة منطق وود والعودة للمنطق الأرسطي الذي أشرت إليه قبل قليل، فيسأل كيف يمكن لوود الذي كتب بعد ألفي عام من أرسطو أن يتعامل مع عمالقة القرن العشرين مثل صمويل بيكيت فهو على عكس أرسطو يتجنب معظم الوقت تقليد العالم الحقيقي، ويعتبره الكثيرون مقبولًا بل وفريدًا. وبالمثل فإن غابرييل غارسيا ماركيز في تأكيده على السحر، يحرر نصوصه من قيود العالم الحقيقي وهو معروف ككاتب عظيم. كيف يعالج الأرسطي هذا التناقض؟ هل كان أرسطو يتخيّل في يوم من الأيام أن هنالك طرقًا عديدة للتعبير عن المشاعر بغير المحاكاة الواقعية؟
يقول نيلل إنه عندما شاهد مسرحية الأيام السعيدة لبيكيت وعندما دُفنت الممثلة الرئيسية في الوحل حتى خصرها في الفصل الأول وحتى عنقها في الفصل الثاني يجعلنا ذلك نشعر بوجودها الخانق، إنه أمر مضحك ولكنه ملهم أيضًا أنه على الرغم ومن كل هذه الحدود فها هي تمضي في حياتها، وماركيز بدوره قادر على إيصال طبيعة الحب وتأثير الاضطهاد السياسي بعمق وعاطفة قوية بصور قد تكون بعيدة عن الواقعية لكن القارئ لا يزال متأثرًا بتجربة قوية - في كثير من الحالات تشبه أي تجربة تثيرها الأحداث الحية.
* أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
لكن هذا كله يعيدنا لسؤال جوهري وهو ماذا إذا كان هذا الواقع مصادرًا؟ والكتابة عنه مصادرة أيضًا. من السهل صديقي القارئ أن تجد هنا وهناك نصائح عن التغذية السليمة وضرورة الحفاظ على صحتك وعلى حصة يومية من الرياضة وأن تجد نفسك مذنبًا إزاء عدم التزامك بحقائق ثابتة كهذه، بل وساطعة كالشمس ومتاحة أمامك بالفعل، لكن قلة قليلة من الناس تستطيع أن تناقش وبحرّيّة كاملة كيف أن أمراضًا من قبيل السكري وهي ناجمة عن خرق لكل ما سبق له أسباب سياسية هو الآخر. فعندما تكون ساعات العمل طويلة جدًا والأجور قليلة، بالإضافة إلى الضغط النفسي في العمل وعدم وجود تأمينات على حياة الموظفين في معظم أعمال العالم اليوم، كيف يتوقع منك أن تخصص انتباهك في أكثر من شيء في الوقت نفسه، في الوقت الذي تصارع فيه من أجل البقاء. كما أن الدراسات الحديثة تتحدث عن الأغذية السريعة كبديل اقتصادي مناسب لطبقات عديدة من المجتمع، إزاء الغذاء المطبوخ في المنزل أو في المطاعم الكبيرة. ما أريد أن أقوله بهذا المثال الشاطح هو أن مرد الأشياء سياسي، وهو بطبيعة الحال أمر لا ينبغي أن يكون متاحًا في مجتمعات تقبض عليها سلطات كثيرة، وهي غير حرة بما يكفي لمناقشة السياسي بفجاجة ومباشرة.
هنالك عملان يستحقان النقاش بهذا الصدد وهما ماكيت القاهرة لطارق إمام إصدار 2022 والتي تنافس بقوة على جائزة الرواية العربية لهذا العام والتي سيعلن عنها الشهر القادم في أبوظبي، ورواية تاريخ آلهة مصر للكاتب المصري محمد ربيع والتي صدرت عام 2020، كلا العملين يقلب موازين العالم، ويعيد اختراع واقع آخر، الأولى عبر طيف دولوز في المحو والحذف والإضافة من خلال نسخة يتم بناؤها من القاهرة داخل مجسم "ماكيت" ليعاد تشكيلها من جديد داخل الماكيت نفسه، تتوالد الحيوات العابرة في هذه النسخ لتعبر عن مأزق المدينة والمواجهة الحادة معها، وعما تفعله بصفتها مدينة في تشكيل ساكنيها والعبث بمصائرهم، عن السلطة فيها والقمع، والحبس، والانشغال بالمشروع كهرب من توحش المدينة وأسئلتها الصعبة.
أما تاريخ آلهة مصر ففي جزئها الأول وبأسلوب عبثي خالص يدفعك أحيانًا للضحك بصوت عال، نقرأ تاريخ جيل من الآلهة الذين سيحكمون مصر أعظم بلد في العالم، البلد الوحيد الذي سيبقى على وجه الأرض بعد موت الجميع حتى أن المصريين أنفسهم سيموتون ولن يظل هناك سوى الملك خربتو المطلق. تحكم كل آلهة لقرون، وكل إله يأتي بالعجيب الخاص به، فهنالك الإله الشاعر والإله الفلاح والإله الطيار وهناك الآلهة التي ستحاول التأسيس للديمقراطية وسيطلق عليها "اللي ما يتسماش الكافر" تركيبة عجيبة من السخرية، حتى في هوامش العمل، فهنالك إحالات مستمرة لكتب في التاريخ هي من اختراع كاتب الرواية، وتفاصيل من تلك الكتب الغريبة العجيبة، تنتابك أثناء القراءة مشاعر كثيرة، انعدام المعنى تارة، والهزيمة أمام الواقع تارة أخرى، والرغبة في نقل الفاجعة قبل أن يطالها النسيان عبر تجميدها في هذه الكتابة، والعين التي تنظر للواقع بعيون أخرى فتجد داخل نص عن آلهة لا يطالها سوء رقصة الكهرباء التي ستعد تمرينا لبداية كل يوم في حياة المصريين، وهنالك نهر النيل أيضًا وإن كان سيفيض ويجف هو الآخر، إذن هنالك دائما عنصر واقعي يتم تضخيمه واللعب به، وتحويره وليّ عنقه لكي يصبح مثل الكابوس لا يأتي إلا ونحن نيام، إلا أنه لا يقل واقعية في قدرته على إخافتنا وتهديدنا لوقت طويل.
يعود النقاش حول الأدب والواقع بالمهتمين بعالم الأدب لمحاضرات أرسطو عن الدراما في كتابه "عن الشعر" والذي تحدث عن المحاكاة في الفن وجادل أنها عملية تقليد يمرر من خلالها عالم الشخصية والعاطفة لا الأشياء المادية فحسب، عاد هذا الجدل في عصرنا هذا مع جيمس وود وكتابته عن الواقعية في الأدب والتي سببت جدلًا واسعًا في الدوائر الأدبية في أمريكا وأوروبا، إذ يتخلى وود عن الطلائعي لصالح الواقعي المباشر في ترتيبه لأهمية الأعمال الأدبية. مما دفع نايجل نييل الصحفي في ذا غارديان لإعادة مساءلة منطق وود والعودة للمنطق الأرسطي الذي أشرت إليه قبل قليل، فيسأل كيف يمكن لوود الذي كتب بعد ألفي عام من أرسطو أن يتعامل مع عمالقة القرن العشرين مثل صمويل بيكيت فهو على عكس أرسطو يتجنب معظم الوقت تقليد العالم الحقيقي، ويعتبره الكثيرون مقبولًا بل وفريدًا. وبالمثل فإن غابرييل غارسيا ماركيز في تأكيده على السحر، يحرر نصوصه من قيود العالم الحقيقي وهو معروف ككاتب عظيم. كيف يعالج الأرسطي هذا التناقض؟ هل كان أرسطو يتخيّل في يوم من الأيام أن هنالك طرقًا عديدة للتعبير عن المشاعر بغير المحاكاة الواقعية؟
يقول نيلل إنه عندما شاهد مسرحية الأيام السعيدة لبيكيت وعندما دُفنت الممثلة الرئيسية في الوحل حتى خصرها في الفصل الأول وحتى عنقها في الفصل الثاني يجعلنا ذلك نشعر بوجودها الخانق، إنه أمر مضحك ولكنه ملهم أيضًا أنه على الرغم ومن كل هذه الحدود فها هي تمضي في حياتها، وماركيز بدوره قادر على إيصال طبيعة الحب وتأثير الاضطهاد السياسي بعمق وعاطفة قوية بصور قد تكون بعيدة عن الواقعية لكن القارئ لا يزال متأثرًا بتجربة قوية - في كثير من الحالات تشبه أي تجربة تثيرها الأحداث الحية.
* أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية