وقفتْ أمّي زهرة بنت منصور الحرملية، والتي تناهز الثمانين عاما، جوار باب بيتها الأخضر الكبير والمُشرع للعابرين بحارة العقر، تلوح لنا بابتسامتها العذبة، كما تفعل عادة مع أناس تألفهم أو غرباء مثلنا.
ترتدي ثوبها العُماني المُشجر ببهاء ألوانه، لتعيد لأذهاننا صور أمهاتنا قبل عقود قليلة من الزمان، وتضع فوق ثيابها فضّتها التي تُيقظ ذكرى زوجها الراحل، الذي قضت بصحبته جلّ عمرها، الوالد محمد بن منصور المفضلي، المتعلق قلبه بمسجد الفرض، والذي عندما خذله جسده ذهب حبوا على ركبتيه ويديه لأداء صلواته الخمس.
"يمّحي العالم دفعة واحدة، حينما يسعى المرء للعيش في بيت الذكرى" كما يقول غاستون باشلار، ولذا تفتحُ أمّي زهرة البيت كل صباح وتغادره مساء لتبيت في بيوت بناتها. متشبثة بالمكان الذي لم تغادره يوما، كما غادره الآخرون، "تحملنا حياة خشنة"، هكذا قالت لي ضاغطة على كلمة خشنة، "خطفت الدنيا علينا كما شمس العصر"، مُدللة على المضي السريع عند تذكرها لتلك الحياة، "فمنازل الذكرى لا تتحرك، إنّها منصهرة بأكملها وموزعة بداخلنا" كما يرى ريلكه.
في الماضي تناوبت حياتها بين العمل في "البستان" ورعاية الحيوانات وجلب الحطب من الوديان. رفعت يدها لأكثر من مرّة مؤكدة: "كديت بيميني وعساها في الجنة".
في زفافها حصلتْ أمّي زهرة على أربع قطع من "الجوذري"، وعدا ذلك فكانت أغلب النساء يعملن على ترقيع ثيابهن كلّما شابها شرخ أو فتق، إلى أن دخلت مكينة الخياطة التي غيرت حياتهن، "حصلتُ على واحدة وصرتُ أخيط ثياب بناتي بواسطتها".
ليس بحوزة أغلب الناس قدرة أو خبرة بمسائل الترميم ولذا باعوا بيوتهم عند أول فرصة جيدة، أمّا زوجها الذي كان يبيع خضراوات الحقل ويقلدُ الخوص فقد قال: "لين يشلوني الأربعة ما ببيع شطفة من بيتي".
أربعة رجال أشداء لا يستطيعون حمل باب بيتها الثقيل، هكذا قالت وأردفت: "عُرض على زوجي 2000 ريال لقاء بيع الباب ولكنه رفض"، وبالرغم من الحالة المادية المُتعسرة، فهم لا يريدون بيع البيت ولا حتى التنازل عن أبسط تفاصيله.
بعض الجيران باعوا ومضوا لحياة جديدة.. فما الذي جعل الزوجين بهذا التشبث بالبيت.. ما الذي جعل أمّي زهرة كلما نشفت دمعتها أوقدت أخرى!
يتجاوز البيت أبعاده الهندسية، فهو بطريقة أو بأخرى "استعادة حُلمية" لحياة كاملة، ولذا لم تتوانَ أمّي زهرة يوما عن بث الحياة فيه وهي تسمح للضوء بالمضي بين أروقته.
عمر البيت يربو على 300 سنة، وعندما صعدتُ إلى الطابق الثاني وجدتُ كتابة تُشير إلى ترميمه زمن الإمام غالب الهنائي. لم يكن بيتا صغيرا كما ظننت. تنقلتُ بين حجراته العديدة، حجر النوم وحجرة نضد التمور، والمخازن، ومكان الطوي، والمكان الذي تُصنع فيه الحلوى، ومكان الماشية، ومن على سطح البيت المرتفع رأيتُ نزوى كما لم أرها من قبل.
وأمام هذا البيت الكبير يقع تنور حارة العقر، وهو "وقف" منذ قديم الزمان، "موصاي عليه يصفد وينظف ويجاب له الحطب"، وهنالك وكيل للتنور، يتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق به. يأتي الناس من كل مكان في حارّة العقر فيضعون لحوم عيدهم، وينام الوكيل جوار التنور كيلا يُسرق. انتابني الفضول إزاء إمكانية حدوث سرقة ما لـ لحوم العيد!
قبل ليلة العيد تتجمع النساء في بيتها، تُدق البهارات، وتتناوب النساء على تقليب "العرسية" التي سيأكل منها جميع أهالي الحارة. شاب صوتها حشرجة وحسرة فذلك الضجيج تلاشى تدريجيا برحيل الجارات والناس.
وقبل أن نُغادر، سألتُ أمّي زهرة عن أمنية تتمناها، ودون تردد قالت: "يغْدِي بيتي بحر يوم تجي الأمطار"، وكان عليّ أن أفهم كيف أن بيت الذكرى يُوشك على الانهيار، وكل الترميمات المُستحدثة فيه لا تقي مصيره البائس الذي سيؤول إليه يوما ما.
تشكل أمّي زهرة لوحة متكاملة مع البيت، تحميه بذهابها اليومي إليه وتمنحه قيمة، كما تمنح العابرين أحاسيس مُفتقدة.
ولكن أليس مرعبا أن ينهار البيت الذي يُشكل مادة حياتها، دون أن يرف لأحدهم جفن.. أليس عجيبا ترك هذا البيت يتهاوى بكل أسراره وحكاياته!.
ترتدي ثوبها العُماني المُشجر ببهاء ألوانه، لتعيد لأذهاننا صور أمهاتنا قبل عقود قليلة من الزمان، وتضع فوق ثيابها فضّتها التي تُيقظ ذكرى زوجها الراحل، الذي قضت بصحبته جلّ عمرها، الوالد محمد بن منصور المفضلي، المتعلق قلبه بمسجد الفرض، والذي عندما خذله جسده ذهب حبوا على ركبتيه ويديه لأداء صلواته الخمس.
"يمّحي العالم دفعة واحدة، حينما يسعى المرء للعيش في بيت الذكرى" كما يقول غاستون باشلار، ولذا تفتحُ أمّي زهرة البيت كل صباح وتغادره مساء لتبيت في بيوت بناتها. متشبثة بالمكان الذي لم تغادره يوما، كما غادره الآخرون، "تحملنا حياة خشنة"، هكذا قالت لي ضاغطة على كلمة خشنة، "خطفت الدنيا علينا كما شمس العصر"، مُدللة على المضي السريع عند تذكرها لتلك الحياة، "فمنازل الذكرى لا تتحرك، إنّها منصهرة بأكملها وموزعة بداخلنا" كما يرى ريلكه.
في الماضي تناوبت حياتها بين العمل في "البستان" ورعاية الحيوانات وجلب الحطب من الوديان. رفعت يدها لأكثر من مرّة مؤكدة: "كديت بيميني وعساها في الجنة".
في زفافها حصلتْ أمّي زهرة على أربع قطع من "الجوذري"، وعدا ذلك فكانت أغلب النساء يعملن على ترقيع ثيابهن كلّما شابها شرخ أو فتق، إلى أن دخلت مكينة الخياطة التي غيرت حياتهن، "حصلتُ على واحدة وصرتُ أخيط ثياب بناتي بواسطتها".
ليس بحوزة أغلب الناس قدرة أو خبرة بمسائل الترميم ولذا باعوا بيوتهم عند أول فرصة جيدة، أمّا زوجها الذي كان يبيع خضراوات الحقل ويقلدُ الخوص فقد قال: "لين يشلوني الأربعة ما ببيع شطفة من بيتي".
أربعة رجال أشداء لا يستطيعون حمل باب بيتها الثقيل، هكذا قالت وأردفت: "عُرض على زوجي 2000 ريال لقاء بيع الباب ولكنه رفض"، وبالرغم من الحالة المادية المُتعسرة، فهم لا يريدون بيع البيت ولا حتى التنازل عن أبسط تفاصيله.
بعض الجيران باعوا ومضوا لحياة جديدة.. فما الذي جعل الزوجين بهذا التشبث بالبيت.. ما الذي جعل أمّي زهرة كلما نشفت دمعتها أوقدت أخرى!
يتجاوز البيت أبعاده الهندسية، فهو بطريقة أو بأخرى "استعادة حُلمية" لحياة كاملة، ولذا لم تتوانَ أمّي زهرة يوما عن بث الحياة فيه وهي تسمح للضوء بالمضي بين أروقته.
عمر البيت يربو على 300 سنة، وعندما صعدتُ إلى الطابق الثاني وجدتُ كتابة تُشير إلى ترميمه زمن الإمام غالب الهنائي. لم يكن بيتا صغيرا كما ظننت. تنقلتُ بين حجراته العديدة، حجر النوم وحجرة نضد التمور، والمخازن، ومكان الطوي، والمكان الذي تُصنع فيه الحلوى، ومكان الماشية، ومن على سطح البيت المرتفع رأيتُ نزوى كما لم أرها من قبل.
وأمام هذا البيت الكبير يقع تنور حارة العقر، وهو "وقف" منذ قديم الزمان، "موصاي عليه يصفد وينظف ويجاب له الحطب"، وهنالك وكيل للتنور، يتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق به. يأتي الناس من كل مكان في حارّة العقر فيضعون لحوم عيدهم، وينام الوكيل جوار التنور كيلا يُسرق. انتابني الفضول إزاء إمكانية حدوث سرقة ما لـ لحوم العيد!
قبل ليلة العيد تتجمع النساء في بيتها، تُدق البهارات، وتتناوب النساء على تقليب "العرسية" التي سيأكل منها جميع أهالي الحارة. شاب صوتها حشرجة وحسرة فذلك الضجيج تلاشى تدريجيا برحيل الجارات والناس.
وقبل أن نُغادر، سألتُ أمّي زهرة عن أمنية تتمناها، ودون تردد قالت: "يغْدِي بيتي بحر يوم تجي الأمطار"، وكان عليّ أن أفهم كيف أن بيت الذكرى يُوشك على الانهيار، وكل الترميمات المُستحدثة فيه لا تقي مصيره البائس الذي سيؤول إليه يوما ما.
تشكل أمّي زهرة لوحة متكاملة مع البيت، تحميه بذهابها اليومي إليه وتمنحه قيمة، كما تمنح العابرين أحاسيس مُفتقدة.
ولكن أليس مرعبا أن ينهار البيت الذي يُشكل مادة حياتها، دون أن يرف لأحدهم جفن.. أليس عجيبا ترك هذا البيت يتهاوى بكل أسراره وحكاياته!.