كتب الجميع عشرات المرات أن الحرب في أوكرانيا في جوهرها هي حرب بين نظام عالمي قديم غربي وحيد القطبية ونظام عالمي غربي وشرقي جديد متعدد أو ثنائي القطبية يسعى لأن يحل محله.

وكتبوا، وهو صحيح أيضًا، أن هذه المعركة بطابعها الكوني الجيو -سياسي لن تحسمها فقط الجيوش المنخرطة فيها مباشرة ولكن أيضًا مواقف الدول غير المنخرطة فيها مباشرة.

اللافت للنظر والجديد في هذه الأزمة هو أن القوى المؤثرة القادرة على حسم مصير هذه الحرب إستراتيجيًا لم تعد القوى الغربية حصرا بل لم تعد القوى الغربية أولًا.

والمثير للدهشة ويمثل في ذاته أيضًا الدليل الحاسم على حتمية حدوث تغيير في النظام الدولي فإنه بسبب انتقال مركز الثقل فيه في العقدين الأخيرين من دول ومناطق إلى دول ومناطق أخرى هو أن تأثير هذه القوى التي تنتمي إلى الجنوب والشرق أكبر بكثير من القوى الغربية بحيث إنه إذا قررت هذه القوى الصاعدة استخدام نفوذها الراهن في الاقتصاد العالمي فمن شأن ذلك تسهيل المخاض الصعب والولادة العسيرة للنظام الدولي الجديد. يلخص المحلل الأمريكي فريد زكريا هذا الوضع الجديد بالقول: (حتى أن كل التحالفات التي تبنيها أمريكا منذ فترة مع الهند وفي آسيا والمحيطين الهندي والهادي هي دليل على أن محور ارتكاز "الجغرافيا السياسية "في العالم يتحرك شرقا).

إن دولة مثل الهند ـ يتفوق تأثيرها الاستراتيجي في هذه الأزمة بكثير على بريطانيا العظمى التي احتلتها لفترة طويلة، ولو أنك حاولت أن تعرف ما هي أكثر دولة في العالم سعت القوى الكبرى التي تدير الصراع الاستراتيجي في الحرب الأوكرانية إلى كسب صفها وضمها إلى جانبها ما وجدت أكثر من الهند هذا العملاق السكاني والاقتصادي.

آخر الساعين بتواضع جم تاركا الخيلاء القديم على أبواب نيودلهي كان هو رئيس الوزراء البريطاني جونسون الذي عرض على نظيره الهندي مودي صيغة غير مسبوقة لتوثيق العلاقات الأمنية والعسكرية بغرض إبعادها عن روسيا والتي مازال اعتماد الهند الأساسي عليها (٧٠٪ من الأسلحة الهندية هي أسلحة روسية).

وتخلي الغرب - عن تحفظه التقليدي في عدم السماح للهند بالمشاركة في التكنولوجيا الغربية العسكرية إذ قال جونسون (سندعم هدفكم في تعزيز الصناعات الدفاعية الهندية وسندعم هدفكم في بناء طائرة مقاتلة خاصة).

سبق ذلك اجتماع قمة "عبر الإنترنت" بين الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الهندي في الثاني عشر من الشهر الجاري حصل فيه مزج بين "العصا والجزرة" فأغضب المشاعر الوطنية الهندية فيما يبدو ولم ينجح في الحصول على أي التزام من الهند بتغيير موقفها المحايد من حرب أوكرانيا من ناحية والرافض لوقف استيراد الطاقة والأسلحة من روسيا من ناحية أخرى.

قبلهما وبالتحديد في ٢٠ من شهر مارس الماضي حج رئيس الوزراء الياباني إلى الهند أيضا لنفس الغرض عارضا ٤٢ مليار دولار دفعة واحدة تستثمرها طوكيو في الاقتصاد الهندي.

وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن حدد الهدف من إغراق الهند بالزيارات والوعود الاقتصادية والعسكرية في إطار استراتيجية إبعادها عن موسكو وضمها كلية إلى المعسكر الغربي "بأنه من المهم أن تتحدث الديمقراطيات - ومنها الهند - بصوت واحد للدفاع عن القيم التي نتشاركها).

حماس المعسكر المقابل الراغب في أن تصبح حرب أوكرانيا بداية التحول لنظام دولي تعددي جديد في الحج إلى الهند لم يكن أقل من الغرب. فقد حاولت الصين تحييد خلافاتها التاريخية والحدودية والحضارية مع الهند وسافر وزير خارجيتها وانغ لي إلي نيودلهي لأول مرة منذ الاشتباكات الحدودية ٢٠٢٠ داعيا إلى نفس المطلب الذي دعاه بلينكن ولكن للمعسكر الآخر (عندما تعتمد الصين والهند الصوت الواحد نفسه سيسمعهما كل العالم،سيولي العالم اهتماما بالتنسيق بين الصين والهند)، وكذلك لم تنقطع الزيارات والإشادات الروسية بالموقف الهندي والأهم أنه لم تنقطع العروض الاقتصادية والعسكرية المغرية.

ولكن كيف ستتعامل الهند مع هذا التحدي الاستراتيجي الذي تواجهه الآن. في تقدير هذا المقال أن الهند وبدافع من مصالحها الوطنية فقط لن تقدم على مغادرة تحالفها التاريخي مع موسكو على الأقل في المديين القصير والمتوسط والاحتمال الوحيد لانتقال الهند إلى المعسكر الأمريكي يبقي هو هزيمة روسيا في الحرب الأوكرانية وسقوط حكم بوتين نفسه وهو تطور صعب للغاية حتى عند أكثر الغربيين تفاؤلا.

تتلخص هذه المصالح الوطنية الهندية في هذه العوامل

١- الأولوية المطلقة والمصلحة القصوى للهند الآن هي الاستمرار في عملية التنمية بمعدلاتها العالية وبالتالي فهي ترى أن اقحامها في حرب ليست طرفا فيها والانحياز لمعسكر دولي ضد معسكر آخر تجمع الهند بكليهما مصالح عديدة ليس في صالح التنمية المستدامة والتي جعلتها ضمن العمالقة الستة الأولى في العالم اقتصاديا.

٢- المشاعر الوطنية لأغلبية الشعب الهندي بشكل عام هي مشاعر سلبية تجاه الغرب أو متشككة فيه ليس فقط بسبب الماضي الاستعماري بل أيضا بسبب ما يعتبرونه باستمرار انحيازا غربيا لباكستان جارتها اللدودة ومن المعروف أن مودي مثله مثل آي حاكم شعبوي لا يستطيع تجاهل ميول الناخبين التي ضمنت استمراره في السلطة ٨ سنوات.

وقد ظهرت هذه المشاعر جلية من حالة الغضب الشديدة التي أصابت كثيرا من أبناء الشعب الهندي بسبب التهديدات المبطنة والانتقادات الغربية الحادة السياسية والإعلامية لموقف "الحياد" الهندي

٣- موقف المؤسسة العسكرية الهندية التي ترى في الشراكة الاستراتيجية مع موسكو ركيزة للسياسة الدفاعية والخارجية الهندية وإنه لولا هذه الشراكة والكرم السوفييتي ثم الروسي مع الهند ما تمكنت الأخيرة من حماية نفسها من كل من جارتيها الصين وباكستان. ورغم تحول الهند تدريجيا لشراء الأسلحة من الغرب أيضا في العقد الأخير فإن قوام الجيش الهندي الرئيس هي الأسلحة الروسية وربما يحتاج استبدالها تماما بالأسلحة الغربية عقودا. ولن تغامر هذه المؤسسة المسؤولة عن الأمن القومي الهندي بتحويل موسكو لخصم وتصطف الأخيرة تماما مع بكين وهو خطر استراتيجي داهم لا تستطيع الهند أن تعرض نفسها لعواقبه المخيفة.

هذه المصالح الوطنية الهندية تهتدي أيضا بمعيارين إضافيين مهمين يبقيان على صانع القرار في "خانة" البقاء قريبا نسبيا من موسكو وعدم الخضوع لضغط أو إغراء الغرب.

المعيار الأول هو معيار التاريخ:

تاريخ العلاقات الهندية مع موسكو "السوفيتية والروسية" تاريخ باعث على ثقة الجانب الهندي إذ بمقتضى هذه العلاقات حصلت الهند على كل ما تحتاجه من أحدث الأسلحة بأقل الأسعار وبمزايا تفضيلية منها نجاح حققته نيودلهي مع موسكو ولم تحققه مع الغرب ألا وهو تحويلها لشريك في إنتاج الأسلحة المتقدمة وإدماج أسلحة محلية هندية في المنظومات الروسية. وموسكو أيضًا هي الداعم الدبلوماسي الأول للهند في كل القضايا الحساسة لأمنها ووجودها فقد صوتت دائما لصالح وجهة النظر الهندية في قضايا إقليم كشمير..إلخ. بينما لا يحظى تاريخ العلاقات مع الغرب بنفس الثقة عند الجانب الهندي فقد كانت مواقف واشنطن التسليحية والدبلوماسية في صالح باكستان كما أن الانسحاب الأخير من أفغانستان لصالح طالبان اعتبرته نيودلهي دعما لإسلام أباد وتهديدا بتحول كابول مرة أخرى كقاعدة للإرهاب الدولي

المعيار الثاني هو معيار الواقعية السياسية: فيما يتعلق بالصراع الغربي/ الروسي على الهند لا يتعلق الأمر فقط بتطبيق الهند للمثل المعروف "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة" حيث إمدادات الطاقة والأسلحة الروسية مضمونة ومستمرة ورخيصة نسبيا في مقابل وعود غربية تحتاج سنوات لتدبيرها بنفس الكميات والأنواع التي تحتاجها الهند ولكن أيضا بالطبيعة العملية والفورية للعروض الروسية قبل وأثناء الأزمة الأوكرانية والتي تتلاقى أكثر مع الهدف الأول للهند وهو تجنب تضخم قاسي يبطئ من وتيرة النمو المرتفع لاقتصادها إذ عرض الروس بيع النفط الروسي للهند بسعر تفضيلي يقل عن السعر العالمي الحالي بحوالي ٣٠ دولارا في البرميل الواحد وبيعه إلي الهند "بالروبية" الهندية أي أن تحتفظ الهند احتياطيها من العملات الصعبة وتنقل عملتها تدريجيا إلى مصاف العملات المعترف بها كأداة للتبادل التجاري الدولي.

الروس عالجوا سياسيا نقطة الضعف المركزية التي ينفذ منها الغرب لضرب علاقة الهند مع روسيا ألا وهي أن روسيا حليفة استراتيجية للصين وهي الخصم الأكبر للهند. فتحدث الروس في الفترة الأخيرة عن إحياء مشروع تعاون سلمي ثلاثي يجمع بين روسيا والهند والصين سبق وأن طرحت معالمه أول مرة ١٩٩٧ وتتحدث موسكو عن مزايا أنها طرف مقبول من دلهي وبكين في العمل من أجل حلول تفاوضية لمشكلاتهم الثنائية بل ولتكوين كتلة أوراسية إستراتيجية تقف حائلا أمام الخطة الأمريكية لاستخدام الهند لإضعاف الصين في آسيا واستخدام ألمانيا لإضعاف روسيا في أوروبا.

هذا الوضع الاستراتيجي الفريد هو الذي يفسر لماذا أصبحت الهند بحق "رمانة الميزان" التي قد يحسم موقفها الصراع على مستقبل النظام الدولي ويفسر هذا التسابق الدولي على نيل رضاها.

• حسين عبدالغني كاتب وصحفي مصري