يعتبر عام 2021 عاما جيدا للسينما الفنية بشكل خاص بالنسبة لي كمشاهدة، فهنالك الكثير من الأعمال الرائعة القادمة من أماكن عديدة منها الفيلم الإيراني "A HERO"، أو "البطل" للمؤلف والمخرج الإيراني أصغر فرهادي الذي سبق وأن حصل على الأوسكار عن فيلمه الشهير "الانفصال"، ويعتمد في هذا العمل على المفارقة التي ستحول حياة سجين لدين لم يستطع إعادته لصاحبه، لرجل شجاع بسبب تسليمه حقيبة مليئة بالمال كان يمكن أن تحل أزمته لولا أنه قرر إعادة الحقيبة لأصحابها. وكعادة أفلام أصغر فرهادي فالفيلم يحفر في مناطق الضعف الإنساني والألم والاغتراب القسري القادم من رفض الآخرين للشخصية ودفعها للجنون. وعلى الجانب الآخر فهنالك الفيلم الإندونيسي يوني وهو من إخراج كاميلا أنديني، وهو العمل الإندونيسي الأول الذي أشاهده وهو يصور حياة مراهقة تختلف عن فتيات المجتمع الذي تعيش فيه، فهي ترفض الزواج بدون حب، وتتوق للحرية واكتشاف الذات.

ويعد الفيلم النرويجي "the worst person in the world" من إخراج خواكيم ترايير من أفلامي المفضلة جدا هذا العام، ويتحدث الفيلم عن شابة متقلبة المزاج، تختبر تجارب مختلفة في التعليم وفي الهوايات دون أن تجد ضالتها، ويصبح هذا النمط هو طريقتها في التعاطي مع العلاقات العاطفية التي تخوضها، لكن الأمر لا يظهر على هذا النحو البسيط إذ ينجح الفيلم بمشاهده الصامتة وبتلك التي تحوي حوارات طويلة على تقديم التعقيد الكبير الذي تكون عليه هذه العلاقات وكيف أننا قد لا نستطيع فهم أنفسنا وكأن لهذه العلاقات منطقها أو سحرها الخاص، الشيء الذي لم يتمكن الإنسان حتى اليوم من تجاوزه، إذ لا يمكن أتمتته رغم السعي الدؤوب لجعل كل شيء محكما ومسيطرا عليه، فإن الإنسان أمام الحب، غامض ويمكن أن يستطرد في سحر أشواقه وولعه بأحلام بعيدة دون حد.

وفاز فيلم "coda" عن فئات عديدة في مسابقة الأوسكار، منها فوزه بجائزة أفضل فيلم، وقد بدا لي ذلك صادما فعلى الرغم من أن الفيلم يقدم لنا قصة عن أسرة مكونة من أربعة أشخاص، الأم والأب والابن الأكبر من الصم، بينما الابنة الصغرى هي الوحيدة التي تسمع وتتحدث، فتصبح هي الوسيط الذي يصل أسرتها الصغيرة بالعالم الخارجي، مع وجود قصة هامشية تتطور بجانب الحبكة الرئيسية التي تتناول علاقة هذه العائلة بمحيطها، فتمر الأسرة بضائقة مالية، وهي التي تعمل في صيد الأسماك، إذ إن الوسيط التجاري الذي يشتري السمك بسعر زهيد من الأسر الفقيرة ليقوم هو بتوزيعه وبيعه بمبالغ كبيرة دون أن يعطي الصيادين حقوقهم الفعلية، ودون أن تتدخل نقابة العمال لصالح الصيادين. وكان يمكن استثمار هذه القصة جيدا لكن الفيلم بعد نصفه الأول يصبح أكثر تسطيحا وتقليدية، مع غضب الابنة المراهقة ورغبتها في ترك أسرتها لأنها تريد تحقيق أحلامها بعيدا عنهم بدلا من أسرها لديهم كمترجمة. لعل أقوى ما في هذا الفيلم هو أن الممثلين الثلاثة هم من الصم فعلا وقد كان أداؤهم عظيما، مع مشاهد متوهجة للغاية مثل المشهد الذي يحدث فيه صمت كامل أثناء حضور عرض غنائي، كما لو أن المشاهد يتقمص حالة الأصم ليشاهد هذا العالم الصاخب وقد أضحى بلا صوت ولا نأمة واحدة. إن هذا مؤثر جدا لكنه الفيلم الأضعف من بين الأفلام التي شاهدتها من إنتاج 2021. أما الفيلم الأجمل بالنسبة لي من بين الأفلام التي أنتجت هذا العام هو بلا شك فيلم جين كامبيون the power of dog الذي حصل على أوسكار أفضل إخراج. ويعد هذا الفيلم من أفلام الويسترن، إلا أنه هذه المرة يقدم عبر عدسة مخرجة عرف عنها رقتها الشديدة، واقترابها من الهشاشة الإنسانية في تجلياتها المختلفة، لذلك هذا ليس فيلم رعاة بقر عادي، إنه يخترق سطحا من الذكورية المتطرفة التي عرفت عن شخصيات هذه الأفلام ليكشف لنا عن ما وراء تلك الأقنعة من قصص، إنه فيلم عن الذكورة تصنعُ للتجنب والهرب من الأسئلة التي تطرحها الحياة وتبدو مخيفة وجارحة. هو عمل عن التعقيد في الشخصية، وذلك التركيب الذي يجعل من كل فعل تمظهرا لتناقضات عديدة هي بشرية تماما ولا تدعي شيئا آخر، وكيف يمكن أن تتعاطف مع القسوة المفرطة والشر الذي تظنه مطلقا لولا أن بشرية الشخصيات في هذا العمل، تقربك من نفسك.

تنطلق جين كامبيون من رواية أمريكية معروفة بالاسم نفسه للكاتب توماس سافاج صدرت عام 1967 وقد قرأتها صديقتي بعد مشاهدتنا للفيلم وكانت تقول لي أن الفيلم ينقل العمل إلى مستوى آخر، وهذا ما ينبغي أن يكون، فالعمل يعتمد على الإيحاء ويبث أجواءً من الرعب، استغرق الكاتب في تفسيرها بينما عملت المخرجة على تصويرها سينمائيا. نتفلكس تعرض فيلما وثائقيا لجين كامبيون أثناء إخراجها للفيلم وهو يقع في 17 دقيقة تتحدث فيها عن علاقتها بالعمل وعن هوسها بشخصية الأخ الشرير المرعب المتنمر، وعن إصغائها له، ثم تربط بين حياتها الشخصية وطفولتها وبين الأحلام التي يجسدها هذا الفيلم، حتى يصبح مسوغا بالنسبة لك كمشاهد هذا النجاح العظيم الذي تحققه المخرجة في صناعة كل تفاصيل هذا العمل الذي يأتي بعد عشر سنوات من التوقف.

تدور أحداث الفيلم في تلال مونتانا عام 1925، وهنالك العديد من مشاهد الأماكن المفتوحة والقاحلة، ومع ذلك هي ساحرة تماما، يتوسط المكان مزرعة لأخوين فيل وجورج، يترحلان في الأراضي مع أبقارهما وبصحبة رجال آخرين هم قساة ومستعدون للسخرية والإذعان للأوامر. يظهر الحب بين الأخوين في صور عديدة وهشة، منها انتظار فيل الذي يدعي القسوة أخاه حتى وقت متأخر من الليل والنوم على سرير واحد، لكن جورج يتخلى عن فيل ويتخذ زوجة له تعرف عليها في إحدى رحلاتهم أثناء الرعي. إنه فيلم عن الرجال وقد تحولوا لحطام مستسلمين لأدوار ينبغي أن يتخذوها لأنفسهم، أما ما نظنه رقيقا وضعيفا قد يكون قاتلا وباردا حتى النهاية.

* أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية