"ستنتهي حياتي وأنا روائي مُقل"، هكذا قال في إجابة، وفي إجابة أخرى على سؤال آخر قال: "سأختارُ الموت طبعًا" رغم أنّه خُير بين أمرين ليس بينهما الموت، وذلك عندما سُئل: "لو وضع النصل على رقبتك وطلب منك أن تختار أمرا واحدا.. طبيب أم قاص؟". فهل كان يستشعر أنّ رحلته في الحياة بهذا القصر المُوجع؟

عبد العزيز الفارسي، الرجل المتنائي عن صخب الدنيا وضجيج المنصات الاجتماعية، شغل الناس لأيام متتالية، فلم يكن لبعده أن يحجب ضوء روحه.

ليس من اليسير على أحدهم أن يكون طبيب أورام سرطانية وكاتبا في آن، "فكلاهما –الكتابة والسرطان- تحدٍ مُتجدد، صعود على جبال تطهير الروح، كلاهما يمنحانا الفرصة للنظر خلفنا بتجرد، وبلا ندم على ما مضى".

عندما خسر عبد العزيز الفارسي جدّه بسبب سرطان الرئة، اتخذ قراره وهو على مقاعد الدرس أن يُصبح طبيبا متخصصا في الأورام السرطانية، "فليس أجمل من أن تمدّ يدك في العتمة ليد أخرى تقودها إلى ممر مُضيء".

لم يكن طبيبا عاديا، كان إنسانا يُحاول أن يغيّر وجه العالم لمريض واحد أو لمئات المرضى، وعندما يُخفق يُواسي نفسه بأنّه حاول على الأقل يرصد مرضاه وهم يُجابهون فكرة الفناء بعين الكاتب، يمكثُ هنالك: "بين الشاك غير المصدق، والغاضب، والمُحبط، في انتظار خروج المارد الذي ينهض من تحت الرماد ليقاتل حتى آخر رمق".

أمّا الكتابة فهي طريقته في مجابهة كل الآلام التي تعبر حياته يوميا، فمهمة من هذا النوع تستلزمُ قدرًا كبيرًا "من الشعر، والفلسفة، والسرد، والقص، والتصوير، والرسم"، كصورة مُضادة للفناء، مضيفا مسحة من سخريته اللافتة التي تُعينه على تقديم السيلان المُرعب بين ثنائية الحياة والموت.

أتذكرُ أنني سألته منذ زمن إن كان الأطباء يألفون الموت فيصبح عاديا، فأكد لي أنّه لم يألفه بعد، "في كل مرّة أتعرف على وجه جديد له، أطارده ولا يكف عن مخادعتي، وهناك يتجلى اكتشاف هشاشة الكثير من الأشياء، اكتشاف المعنى الأصدق للحياة".

ينسجُ عبدالعزيز عوالم شخصياته "الشناصية"، فيخرجها من عاديتها الواقعية إلى حيوية السرد، مؤكدا في حوار له مع صديق عمره سليمان المعمري: "بأنّه لن يفرغ من حكايات الشناصيين مهما كتب".

عندما كابدتُ اكتئابا حادا عقب ولادتي لطفلي الأول، في تلك الليالي المُظلمة من عام 2007، كانت رواية "تبكي الأرض يضحك زحل"، ترقدُ تحت وسادتي، فأهربُ مع الشخصيات ومصائرها المتشابكة، ولا يقطع انسجامي الكلي سوى صوت الكائن الغض الذي يرفس قماطه راغبا في الخروج، تلك القرية التي تتعدد فيها الأصوات وتتدافع الأفكار والأمزجة، ويعبرها السيل الذي يأتي ليُغير مجرى الحكاية، جعلتنا نقول: "إننا أمام منعطف حقيقي في الرواية العُمانية". منحتني تلك الرواية الجُرأة لإتمام روايتي الأولى التي بدأتُ كتابتها آنذاك "الأشياء ليست في أماكنها". بدا أنّ خروجنا من معاطف القصّة القصيرة، لا يمنع كتابة رواية جيدة.

كان عبد العزيز من أوائل من قرأ لي مخطوط روايتي، وقد تناقشنا في جلسات متعاقبة، كان يُشرح العمل بمبضع الطبيب الماهر وروح السارد، ولقد اقترح عليّ أن أمنح "مُحسن" صوتا خاصا به، كما فعلتُ مع بطلاتي، كان جسورا ولا يهابُ التجريب، وقد وعى باكرا أهمية ألا تتبرج اللغة في النصّ، وإنّما تأتي بمقدار لا يُعيق نهر السرد المتدفق.

زارنا آخر مرّة في مجلة نزوى، ونحن نرتبُ مجموعته القصصية "رجل الشرفة، صياد السحب" للنشر 2017، بدا مبتهجا ممتلئا بالخطط، تحدثنا طويلا عن نصوصه المتشبثة بالحنين، والتي ينزعُ بعضها لتكثيف رمزيته، سامحا لطاقة التأويل أن تبرر ما أخفاه قصدا.

عندما طُلب منه وصف نفسه بكلمة واحدة قال: "إنسان"، ولهذا وقبل كل شيء، فإن الناس من مشارب مختلفة لم يكن لها أن تتجاوز خبر رحيله المُعذِب، فلقد ترك أثرا على صعيد مرضاه وقراءه والبشر الذين عبروا فوق شظاياهم على حد سواء.

عندما كان صغيرا لم يحلم عبدالعزيز بأن يصبح كاتبا، كان يريد أن "يكبر" وحسب، ولكنه لن يكبر الآن إلا في قلوب محبيه، وفي السرد الذي تركه بين أيدينا.