جاء في تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية لعام 2021 (تقدير قيمة المياه)، الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، أن المياه العذبة أصبحت نادرة في الواقع، وندرتها تزداد؛ فسوف «يواجه العالم عجزا مائيا عالمياً نسبته 40% بحلول عام 2030، وستزداد هذه الحالة سوءاً بفعل التحديات العالمية من قبيل جائحة كوفيد19 وتغير المناخ»

إن محاولة إجابة التقرير عن السؤال (ما قيمة المياه؟) لا تحددها القيمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية وحسب، بل أيضا القيمة الثقافية؛ ذلك لأن المجتمعات تنظر إلى موارد المياه باعتبارها ذات قيم حضارية لها حقوق وإحرامات لا يجوز التعدي عليها، من ذلك ما نجده في نيوزيلندا «حيث يعترف قانون تي أوا توبوا، الذي صدر في عام 2017 بأن نهر وانغانوي (كلٌّ حيٌّ لا يتجزأ من الجبال إلى البحر)، وكذلك يعد نهرا الغانج ويامونا في الهند كيانين على قيد الحياة لهما نفس الحقوق التي للبشر» - بحسب التقرير -، والحال نفسه نجده في حقوق الأفلاج والعيون ومنابع المياه في مجتمعاتنا، ويأتي إدراج منظومة الأفلاج العمانية ضمن قائمة التراث العالمي في (اليونسكو) أحد أهم تلك الشواهد الدالة على قيمتها الحضارية والثقافية في المجتمع.

ولهذا فإن تقرير الأمم المتحدة يُركِّز على تقدير (قيمة المياه) انطلاقا من ارتباطها بالحياة من ناحية، وبالتنمية من ناحية أخرى؛ فقيمة المياه تتفاوت بين المجتمعات، بناء على مستخدميها، والغرض من ذلك الاستخدام، حيث ستكون هذه القيمة دليلا على نظرتنا إلى الماء ورؤيتنا وأهدافنا التي ننشدها منه، ولذلك فقد انشغل العالم بأهمية الإدراة المستدامة لموارد المياه، والاعتراف بقيمتها وقياسها، بل وإدراجها في السياسات التنموية للدول.

والحق أن سلطنة عُمان من الدول التي اهتمت اهتماما كبيرا بموارد المياه ومنابعها بكافة أشكالها التقليدية وغير التقليدية، فقد بلغ إنتاج السلطنة من المياه في «نهاية عام 2020 نحو 475 مليون متر مكعب بزيادة قدرها 6.5% مقارنة بعام 2019» - حسب ما جاء في نشرة إحصاءات المياه الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات -، ولهذا فإن هذا الاهتمام يعكس رؤية الدولة إلى هذه الموارد باعتبارها ركيزة تنموية أساسية خاصة على المستويات الاجتماعية الصحية والاقتصادية.

والحال أن النظر إلى المياه لا يعتمد على أهميتها الصحية والاقتصادية وحسب، بل قيمتها الثقافية والحضارية؛ فالعالم مرَّ بالعديد من المتغيرات البيئية التي جعلت من المياه منظومة ثقافية تعتمد على رؤية المجتمع وقدرته على التخطيط الحضري و العمراني للمدن والريف، ولهذا كانت الأفلاج والعيون أحد أهم تلك المنظومات الحضارية التي اعتمد عليها أجدادنا في توفير المياه وابتكار أنظمته وإدارته. إن هذه الرؤية تقوم على تقدير قيمة المياه باعتبارها موردا مؤثرا يُسهم إيجابا في تنمية المجتمعات.

إن إدراكنا للقيمة الثقافية للمياه يعني إدراك تأثير المجتمع في موارد المياه ومنابعه؛ فتغير البيئة الثقافية، والتطور المتسارع في التوجهات الحضارية، أدى إلى قلة تقديرنا لتلك القيمة، وبالتالي أصبحت تلك الموارد شحيحة المياه أو حتى ناضبة، فالعديد من تحدياتنا اليوم تنشأ - حسب تقرير الأمم المتحدة - لأننا «لا نقدر قيمة المياه بما يكفي، بل إننا في أكثر الأحيان لا نقدِّر قيمتها على الإطلاق»، وهذا ما ندركه عندما نطالع تقرير إحصائيات المياه التي تُظهر أن المياه المنتجة في محطات التحلية قد بلغت في عُمان عام 2020 (83%)، بينما كانت المياه المنتجة من الآبار في العام نفسه (17%).

وهذا يحيلنا إلى أهمية تعزيز القيمة الحضارية والثقافية للمياه ومواردها الطبيعية التي أصبحت بعيدة عن حياة المجتمع، فالنظر إلى هذه الموارد باعتبارها (تراثا ثقافيا) لا يعفينا من ضرورة تعزيز مكانتها المجتمعية بوصفها جزءا من التخطيط الحضري والريفي، حتى تُصبح جزءا من الحياة اليومية، وركنا أصيلا من اعتمادنا الثقافي لموارد المياه، ذلك لأن تقدير المياه لا ينطلق من أهميتها للشُرب والحياة الصحية فقط، وإنما لما تمثله من حياة روحانية وجمالية، وما ترتبط به من ثقافات متنوعة بتنوع المجتمع ومعتقداته وأفكاره وقيمه الحضارية.

إن قيمة المياه ترتبط بثقافة المجتمعات ومفاهيمها الحضارية، وبالتالي فإن العلاقة بينهما لا تعتمد على الاستخدامات اليومية بل بالمنابع والموارد المائية التي شكَّلت قيمة ثقافية للمياه، ولهذا فإن تراثنا غني بالممارسات والمعتقدات، والحكايات الشعبية التي مثَّلت هذه القيمة، وجعلت من الأفلاج والعيون والوديات بل وحتى البحر منابع حضارية وفكرية، تؤثر مباشرة على القيم المجتمعية، والقدرة على الصمود في وجه المتغيرات الحضارية، والتحديات؛ فالمياه هنا لا تدعم الوظائف المادية المعنية بالبقاء، بقدر ما تدعم الرفاه الروحي، والتوازن العاطفي والشعور بالرضا والسعادة.

ولهذا فإن منظورنا الثقافي لقيمة المياه لن يتعزَّز ما لم يكن لدينا رؤية واضحة عن هذه القيمة، وعن تصوراتنا بشأن التحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجه المياه من الناحية البيئية، والحضارية، فماذا لو أطلقنا مشروعا لإحياء الأفلاج التي نسيها المجتمع، ولم تعُد سوى أسماء في الذاكرة. ماذا لو شمَّر المجتمع عن ساعده واتخذ من مبادرة (فلج الصعراني) في محافظة البريمي أنموذجا لتعزيز القيمة الثقافية للمياه؛ فقد تم إحياء تدفق مياه هذا الفلج مجتمعيا بعد توقف دام أكثر من خمسة عشر عاما.

إن القيمة الثقافية للمياه تنبع من تقديرنا لتاريخ منابع المياه، وأهمية حفظ هذه الموروث بالتجديد والإحياء من ناحية، وحفظ ما يتعلق به من تاريخ ثقافي واستثماره إبداعيا من ناحية أخرى؛ فحفظ هذا التراث وتدوينه وحده لا يكفي، ولا يعبِّر عن القيمة الحضارية الحقيقية له إذا لم يكن لدى المجتمع القدرة على تمكين هذه المنابع، وتعزيز دورها الحضاري المتجدد، حتى في ظل وجود منابع مياه حديثة أو موارد استهلاكية متعددة، فالأمر هنا يعتمد على رؤيتنا للمياه باعتبارها نبض للحياة بكافة أشكالها ومستوياتها.

لذلك فإن تعزيز القيمة الثقافية للمياه ينعكس على سلوك أفراد المجتمع في تقديرهم لهذه القيمة، وهذا ما نجده في ممارسات مثل إلقاء النفايات أو عدم الاكتراث بمنابع المياه، وبالتالي التلوث المائي، أو ما يُسمى بـ (الإجهاد المائي) القائم على الاستنزاف. إن المياه اليوم تعاني من تأثيرات التلوث الكيميائي والصناعي، والتغيرات البيئية والمناخية المختلفة، وبالتالي فإن إهمال القيمة الحقيقية للمياه أدى وسيؤدي إلى إهدارها وإساءة استخدامها، أو حتى إهمالها.

يصرِّح تقرير الأمم المتحدة الآنف الذكر أن «التراث الثقافي للمجتمعات، وآراءهم في العالم، ومدوناتهم الأخلاقية، ومعاييرهم الراسخة (تشكل) إطار علاقاتهم بالمياه، مما يؤثر على تصوراتهم لهذا المورد الطبيعي وطرق تفكيرهم وتقديرهم لقيمته»، لذلك فإن النظر إلى (المياه) باعتبارها مدونة حضارية يجعل منها قيمة اجتماعية وثقافية واقتصادية، يمكن للمجتمع من خلالها تأسيس قيم (علائقية) مرتبطة بالمنظومة التنموية مباشرة، والأمر هنا يجب أن ينطلق من قدرة الأنظمة التربوية على تمكين القيمة الثقافية للمياه، سواء عن طريق المناهج التربوية التي لا تنظر إلى المياه باعتباره موردا للبقاء وحسب بل باعتباره موردا ثقافيا تنموية، أو من خلال ترسيخ الممارسات الاجتماعية التي تعزز تلك القيمة وبالتالي تضمن الحفاظ على المياه وتقدير مكانتها.

إن الحفاظ على القيمة الثقافية للمياه هو حفاظ على التنوع الثقافي، ودعم للتصورات الحضارية والمدونات التاريخية والأدبية المرتبطة به، وبالتالي فإن إطلاق المبادرات الوطنية التي تحافظ على موارد المياه، وتعيد إحياءها، وتسهم في تدوين تاريخها، سينعكس على تعزيز هذه القيمة مجتمعيا، وتقدير أهمية المحافظة على تلك الموارد باعتبارها منظومة ثقافية للمجتمع.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة في مجلس الدولة