الفكرة الأساسية التي تطرحها هُويَّة المسلسل المصري «القضية 404» (الذي يعرض على قناة يوتيوب منذ بداية رمضان وتم عرض 6 حلقات من المسلسل حتى اليوم)، تقوم على تجربة جديدة في المزج بين شخصيات عادية وشخصيات من ذوي القدرات الخاصة، ولأن الدراما هي حكاية عن الحياة، فقد كشف المسلسل لأول مرة: عن معنى أن يتوَّلى ذوو الهمم لعب أدوار حقيقية في التعبير عن أنفسهم كشخصيات رئيسية في المسلسل.

المسلسل تجربة رائدة لأبطال مبادرة «عالم موازي» وهو من قصة وإخراج الشاب محمد علي الأنصاري (إحدى شخصيات المسلسل في الوقت ذاته) والسيناريست رامز عباس، ومساعد المخرج محمود أبوبكر، إلى جانب كافة فريق العمل، الذي حاول أن يعطي لمعنى المشاركة الوجدانية بعدًا فنيًا رائدًا عبر ممارسة تسمح لتلك الفئة اكتشاف مواهبها بما يتجاوز مجرد الاندماج في المجتمع إلى التعبير الفني.

فمن يشاهد المسلسل (على الأقل في الحلقات الست التي تم بثها حتى يوم الثلاثاء 11 رمضان) يقع على أحداث عالم ذوي القدرات الخاصة كما هو لكن الملمح الإنساني الشفاف لهذا المسلسل تتكاثف أحداثه الدرامية لتكشف عن مواهب غير عادية في قدراتهم من خلال الفكرة الرائدة للمسلسل.

تعالج حلقات المسلسل (الذي مثل فيه 20 شخصية من ذوي القدرات الخاصة إلى جانب الممثلين الآخرين) قضايا عالمهم؛ معاناتهم المهجورة، آلامهم، وهواجسهم وما يتعرضون له في صمت؛ من تمييز وهجر واستضعاف وتنمر؛ بمعالجة درامية حساسة، فيها مزيج من قصص حقيقية حدثت لبعض شخصيات المسلسل في الواقع، وقصص أخرى تم تمثيلها دراميًا. لاسيما وأن الخيوط الدرامية للمسلسل بدت قوية وواضحة منذ الحلقة الأولى عبر تقطيع المشاهد التي يمنح كل خيط هويته الخاصة.

لقد نجحت الحلقات الست التي شاهدتها على تطوير قناعة أن هذا المسلسل سيدشن فصلًا جديدًا في دراما ذوي القدرات الخاصة، وسيفتح آفاقًا للتجريب في عوالم هذه الفئة الغنية والمشحونة بالعواطف الإنسانية النبيلة.

بين عالمين تنتقل لقطات مسلسل «القضية 404»، ومشاهده لتعكس أن إنسانية الفن هي الأقدر على إيقاظ المشاعر النبيلة حين تتجلى في ذلك الدمج الخلاق لشخصيات المسلسل في واقع اجتماعي يحفل بالتناقضات التي يعيشها البشر.

يتناول المسلسل في شخصياته لهذه الفئة مجموعة مختلفة تجمع بينها الحالات الخاصة وإن تعددت طبيعتها، كما يعكس ردود الفعل المتباينة للعائلات والمجتمع حيال أعضائها من تلك الفئة، وهي ردود فعل تم تجسيدها بأدوار بلغت فيها قوة التأثير الدرامي لحيوية الحلقات حدودًا تضع المشاهد أمام أطياف متنوعة للألم الإنساني المكتوم، والعاطفة الإنسانية النبيلة في الوقت ذاته.

إن أسئلة الضمير الإنساني التي يطرحها هذا المسلسل على المجتمع والفن المصريَين (إذا ما تصاعدت حلقاته الـ15 بذات الوتيرة الدرامية المتميزة) ستعكس في تقديرنا ردود فعل ربما تضع المجتمع المصري أمام اختبار حقيقي لطبيعة انفعالاته الفنية بقضايا تلك الفئة التي مجرد وجودها في الحياة هو درس فلسفي عن معنى الحياة ذاتها! ففي تلك الحيوات المنسية؛ حيث يكون التنمر عاديًا والاستغلال طبيعيًا، يضع هذا المسلسل الفن في مرآة المجتمع معيدًا تذكيره بما يتعين عليه نحوها.

لقد كانت هذه التجربة التي دمجت عالمين متوازيين في عالم واحد هو مناخ المسلسل تجربة ملهمة حتى للممثلين الطبيعيين الذين اكتشفوا ثراءً إنسانيًا حفز حماسهم المتأثر بعمق إلى تقديم أفضل ما عندهم في دعم هذه التجربة الفريدة.

وبالرغم من أن المسلسل لاقى في بداياته صعوبات مالية في الإنتاج، لكنه استطاع من خلال رعاية بعض الشركات من إنتاج حلقاته كاملة.

ولقد استطاع الفنان أشرف عبد الباقي (الذي نسمع صوته المؤثر في بداية كل حلقة مذكرًا بعبارات ذات محتوى إنساني) أن يمنح المسلسل بعدًا قيمًا لدلالته.

كما لم يكن مستغربًا أن يكون الأدباء من أول من كتب عن المسلسل؛ كالروائي المصري الكبير إبراهيم عبد المجيد.

بالموسيقى الأخاذة لمقدمة المسلسل، والترجمة المزدوجة (ترجمة باللغة الانجليزية وترجمة بالعربية لأقوال ذوي القدرات الخاصة) وزوايا لقطات كاميرا حساسة؛ بدا مسلسل «القضية 404» انطلاقة رائدة لهوية جديدة في تمثيلات الفن المعبرة بالأصالة عن ذوي القدرات الخاصة بما يتجاوز حتى حدود المشاركة في المجتمع.

إن مسلسل «القضية 404» هو في تقديرنا؛ ضرب من اعتراف كامل ومتأخر لإحساس إنساني بفداحة أن يعبر المجتمع طويلاً عن ذاته الظاهرة متجاهلًا ذواتًا أخرى لا يريد أن يشعر بها كجزء منه فقط، لمجرد الاختلاف!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان