أثناء تجوالي في البلدة القديمة لمدينة فريدريك الواقعة شمال واشنطن، لفت انتباهي دكان صغير لبيع الأنتيكات فدخلته، وفي نيتي اقتناء تحفة صغيرة تبقى ذكرى لهذه المدينة اللطيفة.

في تجوالي بين الكراسي والطاولات والموتيفات والصحون وأطقم الشاي وقعت عيناي على مجموعة من الكتب ذات الأغلفة السميكة، وديوان للشاعر جون كيتس، وجزء من ترجمة البحث عن الزمن الضائع لبروست، وكتاب ضم قصص لكونراد، وأخيرا التقطت يدي نسخة قديمة من كتاب النبي لجبران، نسخة طبعت في ١٩٢٧.

قربت الكتب من وجهي، وقلبت أوراقها لأستنشق رائحة الحبر والورق القديم، رائحة الأصابع التي قلبتها، وما علق بها من رائحة الدخان المحترق في المدفأة لحظة مطالعتها، أو أثر تغير الطقس، رائحة العشب أو الماء الذي جرى في الأنهر القريبة.

كل كتاب هو حكاية، من لحظة كتابته حتى اللحظة التي صار فيها بين يدي، ولكل كتاب منها حياة، بل حيوات متعددة، حيوات تعددت بتعدد قراءها، وكل كتاب قديم هو جزء من التاريخ المعرفي والإنساني للعالم.

اقتنيت الكتب الأربعة التي لم تكلفني أكثر من عشرين دولارا، فكرت وأنا أدفع الحساب، أنها ربما كانت كتبا مستغنى عنها من قبل ورثة أثقلهم الاحتفاظ بها، أو ربما بكل بساطة تقلب بهم الزمن واحتاجوا لثمنها، نعم هناك مقايضات كبيرة في هذا العالم، هناك تنازلات، هناك أولويات.

أكتب هذه العبارة الأخيرة ثم ألتفت إلى رفوف كتبي، هل سيكون هناك من سيرثها؟ هل سيعتني أولادي بحفظ هذه الكتب، هل سيثمنون معنى اقتنائي لها، وأهمية وجودها في حياتي، ومعنى أن تكون مكتبتي هي مكاني الوحيد الآمن في الحياة؟ هل أنا عاشقة حقا؟ أم أني أتعامل مع الكتب كأدوات نقل معرفة ليس إلا؟ هل سيكون لهذه الكتب قيمة شخصية ومعنوية عندهم إن لم يكن لها قيمة معرفية لاختلاف الأهواء والمشارب والغايات؟ لم أكن جامعة كتب في يوم ما، ولا توجد في مكتبتي مخطوطات مهمة، ولا كتب فريدة، كنت قارئة وغالب ما تبقى في مكتبتي مهم عندي، ذلك أني في الغالب أصفي مكتبتي بشكل دوري، وكل كتاب أجد أن متعته كانت لحظية وزائلة أو أنه ليس من الكلاسيكيات المؤسسة بالنسبة لي، أو لا أحتاجه كمرجع أعرف أني سأعود إليه مرارا، أمنحه كهدية أو أتبرع به للمكتبات الأهلية، فالكتب مخلوقات حية تستمد قوتها وحياتها من تعدد قراءتها، والكتب تشعر بالحب وتنتمي لمن يحبها أكثر، الكتب لا تمتلك وإن اشتريت، هي حرة ولا تمنح نفسها إلا لعشاقها، لذا فأنا لا أريد أن تورث، ولا أن تترك في دكان للأنتيكات ولا أن تكون هما ثقيلا على أحد، ولا أريد لأحد أن يحتفظ بها من باب الواجب، سأمنحها لعشاق جدد، وسأمنحها حياة جديدة.