لا أتذكر بأنني قرأتُ شعرًا للشاعرة المصرية فاطمة قنديل، لكنني سمعتُ عنها كثيرًا. وقد قرأت خبر إصدار «رواية» لها بعنوان «أقفاص فارغة» عن دار الكتب خان، فتحتُ الرواية لأعرف عما تتحدث لأفاجأ بأنها سيرة ذاتية للكاتبة، وقد كتبتها خلال أربعة شهور من عام 2019 بعد رحيل أخيها رمزي. بدا لي أنني أنظرُ لحياتي من المستقبل، ما الذي سأحسُ به وأنا في الستين، ما الذي يمكن أن أقوله عن طفولتي وصباي وتقدمي في العمر، لذلك أذعنت لإيقاع الكتابة المتدفق وقرأتُ الكتاب.

تعجبتُ من خيار تصنيف الكتاب على أنه «رواية» خصوصًا وأنه يصدر لاسم معروف، وأن الكتاب يحمل سيرة ذاتية جريئة وكاشفة بلا حد، كل الأشياء بأسمائها، ما حدث ما تشعرُ به، ما مرت به مع عائلتها دون أي تورية. شعرتُ بأن نملًا يتمشى داخل قلبي، وفي كثير من الأوقات كنتُ أتوقف عن القراءة لأبكي ريثما أكون مستعدة للعودة وقراءة ما تبقى من هذا الكتاب الذي حطمني. تولد فاطمة قنديل في نهاية الخمسينيات، تنتمي عائلتها للطبقة المتوسطة، فنعيش معهم حياة هذه الطبقة داخل القاهرة، في خلفية هذا السرد الشخصي، ألماح لما يجري في مصر آنذاك، حتى في استدعاء ماضي الشخصيات قبل ذلك الحين، يمكن أن نقرأ عن تاريخ مصر، الثورة ضد الإنجليز، جمال عبد الناصر، طبيعة المؤسسات، كل هذا من أحلام هذه الأسرة الصغيرة المكونة من فاطمة قنديل ووالدها ووالدتها واثنين من أخوتها.

كيف يمكن أن يحدث هذا كله وبهذه الكثافة في حياة إنسان واحد، فتحتُ على صورها على الفيس بوك لأجدها تبتسم في معظم الصور، وهنا طعمُ الخسارات الفادحة، والموت الذي تتساقط فيه صفحات الكتاب مثل الخريف، وذلك الوهن الذي يعثر على مكانة له في العلاقات الشخصية حتى الحميمة منها، ليبدو وفي لحظة واحدة أن كل شيء قد تصدع للأبد، وأننا متروكون في هذا العالم لوحدنا. كان أكثر ما يثير دهشتي هو صبر الأم وتحملها، فابنها يغادر إلى ألمانيا، ويختفي عشرين عامًا حتى يستسلم الجميع لفكرة موته، ورمزي ابنها الآخر يعمل بعقد في السعودية طبيبًا ويتخلى تقريبًا عن عائلته، وابنتها التي تمر في زيجات غريبة وفاشلة، والمرض ثم الاحتضار.

تجترح فاطمة قنديل كل هذا بكتابة مختزلة، تُشعرك بأنك تقرأ سيرتها هذه وكأنها خام الذاكرة ليس إلا، وهذا ما يظهرها بهذا الرعب المشوب بحزن شفيف، إذ يبدو أنك تقع في شرك كتابة متورطة بالموت والحكي عنه، بالضبط كما ستتحدث فاطمة في آخر فصول هذا الكتاب عن علاقة الكتابة، والشعر بالموت بالنسبة لها. لا وقت هنا للحكم والمواعظ، ليس هذا ما تهدف له حتى أنها تكتب:أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالًا مأثورة مما أكتب الآن، أن تصير حياتي قولًا مأثورًا، هو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسًا أو عبرة، هو الجحيم ذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير. الموت يحيط بفضاء شعرها أيضًا، فلديها مجموعة شعرية كما سأبحث بعد القراءة بعنوان «أنا شاهد قبرك»، قرأتُ منه هذه القصيدة الفاتنة: «لا أعرف لماذا اختار أبوك هذه المقبرة البعيدة/ في آخر طابور طويل من المقابر؟!/ هل لأن الطريق إليها يتصاعد/ حتى لتبدو من بعيد كأنها على ربوة؟/ هل كان مطمئنًا ساعتها إلى مسارات الكريشندو؟/ أم كان يمد المسافة بأقصى ما يستطيع ليصالح الموت؟».

لكن هذا ليس كل شيء في هذا الكتاب فهو يعدك أيضًا بالقبض على الحياة والاندفاع فيها، والنظر إليها من مواقف عديدة، مليئة بالتعقيد والأشياء الصغيرة جدًا التي قد تجعلك تفر إلى ألمانيا لمدة ثلاثين سنة دون أن يعرف عنك أحد أي شيء. تبدو حياة فاطمة قنديل كما لو أنها سلسلة من الانتقالات المجهدة، والحيوية، مما يجعلك في حالة تأمل ذاتي لحياتك، كما لو أنك أمام مرآة عاكسة لما يمكن أن يحدث أو سبق وأن حدث. تتحدى قنديل بسيرتها هذه من يقول: إن هذا يحدث في الأفلام فقط، بل هو قريب وربما لصيق بك أكثر مما تتخيل، والواقع يحمل ما لا نتخيله. هل يمكن إذن الاعتماد على الواقع وحده والتخلي عن الاستعارة والمجاز في عمل نطلب منه أن لا يقل فنية عن عمل يعتمد على تلك الأدوات، إنه رهان صعب بلا شك، لكن هذا العمل نموذج ممتاز لنجاح الواقعة الصرفة كما هي في تأليف جوهر الفن والارتكاز عليه.