ترجمة أحمد شافعي
يصعب الاعتقاد بأن الإطار العام الذي حافظ لأغلب العالم على استقراره وازدهاره منذ نهاية الحرب الباردة قد تصدع بشكل كبير بسبب غزو بوتين لأوكرانيا، ولكن من المستحيل الآن إنكار ذلك. فكثير من ذلك الإطار، وعلى أنحاء لم نقدرها بعد تمام التقدير، كان يقوم على أساس قدرة الغرب على التعايش مع بوتين في لعبه دور الذي يختبر حدود النظام العالمي لكنه لا يخرقها على نطاق كبير.
لكن مع غزو بوتين لأوكرانيا دونما استفزاز، وسحقه لمدنها، انتقل إلى دور جديد. وحينما يكون قائد روسيا بوتين، وروسيا هي البلد الذي يمتد ليشمل إحدى عشرة منطقة زمنية ولديه كميات هائلة من النفط والغاز والموارد المعدنية، ولديه من الرؤوس النووية أكثر مما عداه من البلاد ـ وحينما يكون من الحتمي اعتبارا من الآن معاملته معاملة المنبوذ، يكون العالم الذي عرفناه قد تغير تغيرا عميقا. ولا يعود من الممكن أن يمضي شيء على النحو الذي كان يمضي عليه.
كيف تكون للعالم أمم متحدة فاعلة في ظل عضوية بلد يقوده بوتين في مجلس الأمن وامتلاكه حق النقض لأي قرار؟ كيف يتسنى للعالم أن يتقدم بأي مبادرة عالمية فعالة لمحاربة التغير المناخي وهو غير قادر على التعاون مع البلد ذي اليابسة الأضخم مساحة على وجه الكوكب؟ كيف تعمل الولايات المتحدة عن كثب مع روسيا بشأن صفقة إيران النووية ونحن لا نثق في موسكو ولا يكاد يكون لنا اتصال بها؟ كيف نعزل بلدا شديد الضخامة وبالغ القوة ونحاول إضعافه ونحن نعلم أنه قد يكون أخطر في تفككه مما هو في قوته؟ كيف نقوم بتغذية العالم وتزويده بالوقود بأسعار معقولة حينما تكون روسيا المعرضة للعقوبات من أضخم المصدِّرين في العالم للنفط والقمح والسماد؟
الإجابة هي أننا لا نعرف. وتلك طريقة أخرى لقولنا إننا ندخل مرحلة اضطراب جيوسياسي وجيواقتصادي لم نشهد لها مثيلا منذ 1989 وربما 1939.
لقد قال بوتين إنه اضطر إلى دخول أوكرانيا ليدفع الناتو بعيدا عن روسيا، فلم تجدد حربه فقط دماء تحالف عسكري غربي راكد، بل ضمنت تضامن الناتو وتحديثه لسلاحه ما بقي بوتين في السلطة، وربما لجيل تال بعد ذلك.
قال بوتين إنه اضطر إلى دخول أوكرانيا ليطيح بالعصبة النازية الحاكمة في كييف ويرد كلا من الشعب الأوكراني والأراضي الأوكرانية إلى أحضان روسيا الأم التي ينتميان إليها بطبيعتهما ويتوقان إليها في ما يتخيل. وبدلا من ذلك، جعل غزوه الأوكرانيين ـ حتى من كان منهم مواليا لروسيا من قبل ـ أعداء ألداء لروسيا لما لا يقل عن جيل وشحن رغبة أوكرانيا في الاستقلال عن روسيا والاندماج في الاتحاد الأوروبي.
ظن بوتين أنه باستيلاء خاطف على أوكرانيا منتصر سيظفر من الغرب باحترام يليق ببأس روسيا العسكري، فينهي إهانة روسيا التي يوصف اقتصادها بأنه أقل من اقتصاد ولاية تكساس ويقال عنها إنها «محطة وقود مزودة بسلاح نووي». وبدلا من ذلك، انكشف جيشه وظهر عجزه واحتياجه إلى تجنيد مرتزقة ليتسنى له الصمود على الأرض.
بوقوعه في الكثير من الأخطاء، وبخوضه هذه الحرب بمبادرة شخصية منه، لا بد أن يكون بوتين يائسا لإبداء أنه أحدث شيئا، وإن يكن هذا الشيء سيطرة تامة على شرق أوكرانيا من منطقة دونباس وجنوبا حتى أوديسا في الساحل الأوكراني على البحر الأسود وربطها بالقرم. ومن المؤكد أنه يريد بحلول التاسع من مايو، الذي يوافق استعراض يوم النصر السنوي العملاق في موسكو في ذكرى انتصار روسيا على النازيين في الحرب العالمية الثانية، واليوم الذي يتذكر فيه الجيش الروسي أعظم أمجاده.
لذلك يبدو أن بوتين يستعد لاسراتيجية ذات شقين. أولا، يعيد تجميع قواته ويركزها في الاستيلاء التام والصمود في هذه الغنيمة العسكرية الصغيرة. ثانيا، يضاعف من القسوة الممنهجة من خلال القصف المستمر للبلدات الأوكرانية بالصواريخ والمدفعية ليستمر في تحقيق أكبر قدر ممكن من الوفيات واللاجئين وأكبر قدر ممكن من التخريب الاقتصادي. ومن الواضح أنه يرجو أن يؤدي الشق الأول إلى كسر الجيش الأوكراني ولو في الشرق على الأقل وأن يؤدي الشق الأخير إلى كسر الناتو من خلال إغراق البلاد العضوة فيه بالكثير من اللاجئين فتضغط على كييف لتترك لبوتين ما يريد أن يحصل عليه كي يتوقف.
ولذا فإن أوكرانيا والناتو بحاجة إلى استراتيجية مضادة فعالة.
ويجب أن تقوم هذه الاستراتيجية على ثلاثة أعمدة. الأول هو دعم الأوكرانيين دبلوماسيا إن أرادوا التفاوض مع بوتين ـ وهم الذين يحددون ذلك ـ ودعمهم أيضا بأفضل السلاح والتدريب إن أرادوا إخراج الجيش الروسي من كل شبر في أرضهم. والثاني هو البث اليومي والجهير ـ بكل وسيلة ممكنة ـ القائل بأن العالم في حرب «مع بوتين» و«ليس مع الشعب الروسي» خلافا واضحا لما يقوله بوتين لشعبه. والثالث هو أن نضاعف نحن من جهودنا للتعافي من إدمان النفط، وهو مصدر دخل بوتين الأساسي.
تحتاج روسيا إلى إعادة بناء مجالات نفوذها على أساس جيل جديد من أمثال تشايكوفسكي ورحمانينوف، وساخاروف ودوستويفكي وسيجي برينس، وليس ملاّك اليخوت، وقراصنة الإنترنت، وهنا سوف يصبح العالم كله عالما أفضل. وسوف تتجدد أو تتشكل إمكانيات كثيرة للغاية للتعاون الصحي.
ليس لغير الشعب الروسي الحق في تغيير قائده والقدرة على ذلك.
و ترك الشعب الروسي يفرز قائدا أفضل شرط ضروري لأن يفرز العالم نظاما عالميا جديدا أكثر مرونة يحل محل نظام ما بعد الحرب الباردة الذي جعله بوتين حطاما. ومن الضروري أيضا أن تكون أمريكا مثالا للديمقراطية والثبات يود الآخرون أن يحاكوه.
فعندما يقدم الأوكرانيون أكبر التضحيات للصمود على كل شبر وقطعة من حريتهم التي نالوها حديثا، فهل كثير أن نطالب الأمريكيين بتقديم أبسط التضحيات والتنازلات ليصمدوا محافظين على إرثنا الديمقراطي النفيس؟
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس»
يصعب الاعتقاد بأن الإطار العام الذي حافظ لأغلب العالم على استقراره وازدهاره منذ نهاية الحرب الباردة قد تصدع بشكل كبير بسبب غزو بوتين لأوكرانيا، ولكن من المستحيل الآن إنكار ذلك. فكثير من ذلك الإطار، وعلى أنحاء لم نقدرها بعد تمام التقدير، كان يقوم على أساس قدرة الغرب على التعايش مع بوتين في لعبه دور الذي يختبر حدود النظام العالمي لكنه لا يخرقها على نطاق كبير.
لكن مع غزو بوتين لأوكرانيا دونما استفزاز، وسحقه لمدنها، انتقل إلى دور جديد. وحينما يكون قائد روسيا بوتين، وروسيا هي البلد الذي يمتد ليشمل إحدى عشرة منطقة زمنية ولديه كميات هائلة من النفط والغاز والموارد المعدنية، ولديه من الرؤوس النووية أكثر مما عداه من البلاد ـ وحينما يكون من الحتمي اعتبارا من الآن معاملته معاملة المنبوذ، يكون العالم الذي عرفناه قد تغير تغيرا عميقا. ولا يعود من الممكن أن يمضي شيء على النحو الذي كان يمضي عليه.
كيف تكون للعالم أمم متحدة فاعلة في ظل عضوية بلد يقوده بوتين في مجلس الأمن وامتلاكه حق النقض لأي قرار؟ كيف يتسنى للعالم أن يتقدم بأي مبادرة عالمية فعالة لمحاربة التغير المناخي وهو غير قادر على التعاون مع البلد ذي اليابسة الأضخم مساحة على وجه الكوكب؟ كيف تعمل الولايات المتحدة عن كثب مع روسيا بشأن صفقة إيران النووية ونحن لا نثق في موسكو ولا يكاد يكون لنا اتصال بها؟ كيف نعزل بلدا شديد الضخامة وبالغ القوة ونحاول إضعافه ونحن نعلم أنه قد يكون أخطر في تفككه مما هو في قوته؟ كيف نقوم بتغذية العالم وتزويده بالوقود بأسعار معقولة حينما تكون روسيا المعرضة للعقوبات من أضخم المصدِّرين في العالم للنفط والقمح والسماد؟
الإجابة هي أننا لا نعرف. وتلك طريقة أخرى لقولنا إننا ندخل مرحلة اضطراب جيوسياسي وجيواقتصادي لم نشهد لها مثيلا منذ 1989 وربما 1939.
لقد قال بوتين إنه اضطر إلى دخول أوكرانيا ليدفع الناتو بعيدا عن روسيا، فلم تجدد حربه فقط دماء تحالف عسكري غربي راكد، بل ضمنت تضامن الناتو وتحديثه لسلاحه ما بقي بوتين في السلطة، وربما لجيل تال بعد ذلك.
قال بوتين إنه اضطر إلى دخول أوكرانيا ليطيح بالعصبة النازية الحاكمة في كييف ويرد كلا من الشعب الأوكراني والأراضي الأوكرانية إلى أحضان روسيا الأم التي ينتميان إليها بطبيعتهما ويتوقان إليها في ما يتخيل. وبدلا من ذلك، جعل غزوه الأوكرانيين ـ حتى من كان منهم مواليا لروسيا من قبل ـ أعداء ألداء لروسيا لما لا يقل عن جيل وشحن رغبة أوكرانيا في الاستقلال عن روسيا والاندماج في الاتحاد الأوروبي.
ظن بوتين أنه باستيلاء خاطف على أوكرانيا منتصر سيظفر من الغرب باحترام يليق ببأس روسيا العسكري، فينهي إهانة روسيا التي يوصف اقتصادها بأنه أقل من اقتصاد ولاية تكساس ويقال عنها إنها «محطة وقود مزودة بسلاح نووي». وبدلا من ذلك، انكشف جيشه وظهر عجزه واحتياجه إلى تجنيد مرتزقة ليتسنى له الصمود على الأرض.
بوقوعه في الكثير من الأخطاء، وبخوضه هذه الحرب بمبادرة شخصية منه، لا بد أن يكون بوتين يائسا لإبداء أنه أحدث شيئا، وإن يكن هذا الشيء سيطرة تامة على شرق أوكرانيا من منطقة دونباس وجنوبا حتى أوديسا في الساحل الأوكراني على البحر الأسود وربطها بالقرم. ومن المؤكد أنه يريد بحلول التاسع من مايو، الذي يوافق استعراض يوم النصر السنوي العملاق في موسكو في ذكرى انتصار روسيا على النازيين في الحرب العالمية الثانية، واليوم الذي يتذكر فيه الجيش الروسي أعظم أمجاده.
لذلك يبدو أن بوتين يستعد لاسراتيجية ذات شقين. أولا، يعيد تجميع قواته ويركزها في الاستيلاء التام والصمود في هذه الغنيمة العسكرية الصغيرة. ثانيا، يضاعف من القسوة الممنهجة من خلال القصف المستمر للبلدات الأوكرانية بالصواريخ والمدفعية ليستمر في تحقيق أكبر قدر ممكن من الوفيات واللاجئين وأكبر قدر ممكن من التخريب الاقتصادي. ومن الواضح أنه يرجو أن يؤدي الشق الأول إلى كسر الجيش الأوكراني ولو في الشرق على الأقل وأن يؤدي الشق الأخير إلى كسر الناتو من خلال إغراق البلاد العضوة فيه بالكثير من اللاجئين فتضغط على كييف لتترك لبوتين ما يريد أن يحصل عليه كي يتوقف.
ولذا فإن أوكرانيا والناتو بحاجة إلى استراتيجية مضادة فعالة.
ويجب أن تقوم هذه الاستراتيجية على ثلاثة أعمدة. الأول هو دعم الأوكرانيين دبلوماسيا إن أرادوا التفاوض مع بوتين ـ وهم الذين يحددون ذلك ـ ودعمهم أيضا بأفضل السلاح والتدريب إن أرادوا إخراج الجيش الروسي من كل شبر في أرضهم. والثاني هو البث اليومي والجهير ـ بكل وسيلة ممكنة ـ القائل بأن العالم في حرب «مع بوتين» و«ليس مع الشعب الروسي» خلافا واضحا لما يقوله بوتين لشعبه. والثالث هو أن نضاعف نحن من جهودنا للتعافي من إدمان النفط، وهو مصدر دخل بوتين الأساسي.
تحتاج روسيا إلى إعادة بناء مجالات نفوذها على أساس جيل جديد من أمثال تشايكوفسكي ورحمانينوف، وساخاروف ودوستويفكي وسيجي برينس، وليس ملاّك اليخوت، وقراصنة الإنترنت، وهنا سوف يصبح العالم كله عالما أفضل. وسوف تتجدد أو تتشكل إمكانيات كثيرة للغاية للتعاون الصحي.
ليس لغير الشعب الروسي الحق في تغيير قائده والقدرة على ذلك.
و ترك الشعب الروسي يفرز قائدا أفضل شرط ضروري لأن يفرز العالم نظاما عالميا جديدا أكثر مرونة يحل محل نظام ما بعد الحرب الباردة الذي جعله بوتين حطاما. ومن الضروري أيضا أن تكون أمريكا مثالا للديمقراطية والثبات يود الآخرون أن يحاكوه.
فعندما يقدم الأوكرانيون أكبر التضحيات للصمود على كل شبر وقطعة من حريتهم التي نالوها حديثا، فهل كثير أن نطالب الأمريكيين بتقديم أبسط التضحيات والتنازلات ليصمدوا محافظين على إرثنا الديمقراطي النفيس؟
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس»