اختلفت المفاهيم لمصطلح "الشعبوية" باختلاف حقلها المعرفي بين سياسيو اجتماعي وفكري، إلا أن قاموس "بيتيت روبرت" عرفها بأنها "خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية قائم على انتقاد النظام ومسؤوليه والنخب".

وقد ولدت ظاهرة الشعبوية بين روسيا وأمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث نتجت في روسيا عن حركة الاشتراكية الزراعية الهادفة لتحرير الفلاحين الروس عام 1870 م، وفي الفترة ذاتها مع ثورة الريف الأمريكي ضد البنوك وشركات السكك الحديد.

ومن هنا لاقى هذا المصطلح رواجا واسعا، خصوصا في الحقلين الاجتماعي والسياسي بين واصف إياها بالظاهرة وآخر مصنفا إياها إيديولوجيا ليتم توظيفها لصالح أفراد أو جماعات يحملون فكرا معينا متخذين من تعبئة الشعب سبيلا للوصول لغاياتهم المرحلية.

وانطلقت بعدها "الشعبوية" لتكون ندا لـ"النخبوية" وبينهما محاولات تنديد تزج بكليهما في سعي لخلق عداء افتراضي بينهما، لتعرف الشعبوية بأنها ضد النخب، وتجاوز لتراكم معارفهم وخبراتهم التي ترى الشعبوية أنها ذاتية فاسدة.

ومع تعدد وتكرار مصطلح "الشعبوية" يتم الخلط بين المعنى المراد من الكلمة واشتقاقها من سلطة الشعب لمفاهيم أُخَر ليست بالضرورة المعنى المراد منها ولها.

ومع تتابع العقود زمنيا ظهر الاستغلال السياسي لمصطلح الشعبوية كغيره من المصطلحات، فلا يمكن تصنيفه يمينيا أو يساريا، ديمقراطيا أو ليبراليا لما في ذلك من إسقاط مرحلي قد يتلبسه هذا الحزب أو ذاك وفقا لمصلحته وغاياته، وتبعا لأهوائه ما دامت وسيلته تعبئة الشعب وتحشيد الجماهير الغفيرة، وهي في أكثر حالاتها تجليا مع ما نعيش من انفتاح معلوماتي ورحابة العالم الافتراضي بممكناته المختلفة.

وبما أن الشعبوية تقوم على حشد الجماهير وتعبئة العامة فإنها تنشط يقينا في حالات الحروب والأزمات الكبرى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ولعلّها تجد بيئة خصبة في بعض الأوضاع غير المستقرة كتدني مستوى الوعي الشعبي، وانعدام الثقة في المؤسسات بعد صبر طويل وآمالٍ مؤجلة. فالشعبوية نتاج أزمة ما وليست مصدر لها، كما أنها ظاهرة تستهدف النيل من تعالي النخب في الخطابين السياسي والاجتماعي، أو حتى انعزال النخب وصمتها عن مصلحة الشعوب والسعي للتنمية والعدالة.

ومع فشل النخب السياسية يتعاظم دور بعض السياسيين والتجار في حشد الأفراد غير المسيسين عبر شعارات برّاقة وتعابير جاذبة لأغراض انتخابية عجلى، أو مصالح أخرى، المعول فيها صوت الفرد في حينه وليس موقفه السياسي أو الفكري (غير الموجود أصلا).

ولعلّ أبرز أشكال استغلال الشعبوية للتعبئة الجماهيرية فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية مستغلا ملف "المهاجرين والأقليات" مغذيا الفكر الشعبي بفكرة ربط الإرهاب بالأقليات واهما إياهم بأن التخلص من هذا الملف حماية لأمريكا من مخاطر خارجية محققة، وتوفيرا لموارد وطنية الأولى بها أمريكا داخليا.

هذه هي فكرة "صنع الفزاعة" سعيا لتعبئة الشعب ضد الفقر، أو الجهل، أو الحروب.

ومع صدارة أمريكا (اللاتينية خصوصا) في ظهور ظاهرة الشعبوية والتنظير للمصطلح الذي لمّا يستقر له مفهومٌ بعد إلا أنها مارست سلبية الشعبوية في الوصول لأعلى مكان لاتخاذ القرار في بلد يؤمن بالديمقراطية، وتتجلى فيه ظاهرة هي نتاج فشل الديمقراطية النيابية التمثيلية وفشل النخب التي تعهدت بتمثيل الشعوب عبر منابرها برلمانيا أو إعلاميا.

لن تكفي مقالة واحدة للشعبوية و تجلياتها عالميا وعربيا، لذا فهذه مقالة أولى عن موضوع الشعبوية تتبعها أخرٌ قادمة بإذن الله.