«ماذا أفعلُ بشهوة الجوع التي لا تعرف الخجل؟»، فالجوع فكرة متوحشة ظلت تواجه الإنسان منذ البدء، في عصور وحضارات مختلفة. مؤخرا كنتُ استمعُ لبعض المتصلين لإحدى الإذاعات العربية، يتحدثون عن فكرة الخوف من الجوع، حيث لم يعد باستطاعة الناس في أنحاء مختلفة من العالم العربي تحضير موائدهم الرمضانية كما اعتادوا، بات يتوجب عليهم في كل مرّة أن يقتطعوا من حصص طعامهم.
في مقاطع عديدة على اليوتيوب، شاهدتُ أناسا يتحدثون عن غلاء اللحوم والخضار والتمور وهي من الاحتياجات الرئيسية للحياة، فمن المُحير حقا أن توصف بعض بلداننا العربية بأنّها «سلة غذاء العالم»، ثمّ تُكابد تهديدا خطيرا كهذا، بعد أن تكالبت عليها أزمات اقتصادية متلاحقة خلّفها الوباء ومن ثمّ الحرب الروسية على أوكرانيا.
بلداننا تهتز وتتأزم لأنّها لم تعد قادرة على جلب الحبوب من بلدان متصارعة في بقعة بعيدة من العالم، بينما كان بإمكانها أن تزرع الحبوب وأن تتمتع بإكفائها الذاتي على الأقل!
لا يمكن أيضا تجاهل واقعنا المحلي خصوصا بعد ما أحدثه الوباء من فقد بعض العاملين لوظائفهم، أو انهيار مشاريعهم، وهم ممن كانوا يفتحون بيوتا ويعولون أسرا. من المؤلم حقا أن تجد أحدهم دون حيلة وقد زُج به في السجن وصار خلف القضبان، ولا ذنب له سوى أنّه بات دون أجر شهري فتكالبت عليه الديون والأقساط، فمن منّا يستطع أن يعيش دون مرتبه الشهري! وعلينا أيضا أن نتذكر ما ألحقه إعصار شاهين من أضرار لم تتعافَ منها بعض الأسر حتى هذه اللحظة!
العديد من الأسر بمن فيها الطبقة الوسطى، تشعر أنّها مُهددة، وليس بيدها من حلول سوى أن تُقلل من استهلاكها بصورة مُستمرة وضاغطة.
قرأتُ روايتين لشخصين مختلفين في مكانين وزمنين مختلفين من هذا العالم، يُصوران فكرة الجوع وآلامه. رواية كنوت هامسون «الجوع» 1890، ورواية أخرى كتبت بعدها بـ 117 سنة تقريبا، للكاتب محمد البساطي وقد حملت عنوان «جوع» ووصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر عام 2009.
يختار هامسون أن يُقدم صورة الجوع من مدينة أوسلو النرويجية، بينما يُقدم البساطي الجوع من الريف المصري. بطل هامسون شخصية مثقفة ومتعلمة، يكتب المقالات ويعيش من خلالها، بينما الأسرة التي يُقدمها البساطي ليس لديها أسئلة وجودية ولا تُفلسف ما يعبر حياتها من مآزق، ولكن أحاسيسها العميقة والمرهفة تصل إلينا وتتركُ أثرا فينا كقراء.
يتبدى بوضوح أنّ المُحرك الديناميكي في كلا العملين هو «الجوع"» شخصية هامسون واعية للجوع الذي تصطدم به يوميا ويحاصرها كشبح مريع، بينما الجوع في رواية البساطي متواري لكنه يتمظهر في نسيج حياة الشخصيات.
الكبرياء هو أيضا الشيء المشترك والأصيل في كلا العملين، فشخصية هامسون تُدافع عن كرامتها بأن تصمد أمام الجوع، فهو يرهن أزرار قميصة، ويرهن نظارته مُتفائلا بقدرته على كتابة مادة جيدة في قادم الوقت تجعله يستعيد ما قد رهن. العائلة الريفية تظهر متعففة أيضا، فحتى لو استعارت الأمّ «سكينة» الخبز من جاراتها فهي تنتظر بشغف قدوم يوم «الخبيز» لتُعيد الأرغفة التي استعارتها منهن.
الشيء الآخر المشترك بين العملين هو شخصية الخباز. حيث يذهب أبناء «سكينة» لالتقاط الفتات المُتساقط من الفرن أو انتظار الخبز الذي لا يُباع، بينما تصطدم شخصية هامسون طوال الوقت بشخصية الخبازة التي تطالعه بالمخبوزات الشهية، وكأن الخبز يُشكل معادلا لفكرة الحياة، وعدوا أساسيا للجوع، وأنّ مجرد العجز عن شرائه يعني البؤس القاتم.
الغريب أن بطل هامسون المشحون بجرعات عالية من الأمل، والمتفائل بأنّه سيكتب يوما ما نصّه الذي سينتشله من حياته المتهاوية، ينهزم ويمزقُ كلّ مسرحياته وكتاباته ويتنازل عن فعل الكتابة. بينما شخصيات البساطي البسيطة في وعيها وإدراكها لفكرة الجوع -عدا ما تُحدثه من قرقرة في المعدات الخاوية- تنتهي قصّتها بنهاية مفتوحة ومُشرعة، وكأن البساطي يقول لنا: إن الجوع هو فعل ألم لا نهائي وسيعبر الحياة إلى أبد الآبدين.
إن انعدام وجود خُطة وسياسات تُنقذ وطننا العربي من براثن الجوع واحتمالاته، سيذكرنا دوما بالجملة التي قالها بطل هامسون: «إنّه الجحيم حقا أن يتحرك المرء ويشوهه الجوع حيا».
في مقاطع عديدة على اليوتيوب، شاهدتُ أناسا يتحدثون عن غلاء اللحوم والخضار والتمور وهي من الاحتياجات الرئيسية للحياة، فمن المُحير حقا أن توصف بعض بلداننا العربية بأنّها «سلة غذاء العالم»، ثمّ تُكابد تهديدا خطيرا كهذا، بعد أن تكالبت عليها أزمات اقتصادية متلاحقة خلّفها الوباء ومن ثمّ الحرب الروسية على أوكرانيا.
بلداننا تهتز وتتأزم لأنّها لم تعد قادرة على جلب الحبوب من بلدان متصارعة في بقعة بعيدة من العالم، بينما كان بإمكانها أن تزرع الحبوب وأن تتمتع بإكفائها الذاتي على الأقل!
لا يمكن أيضا تجاهل واقعنا المحلي خصوصا بعد ما أحدثه الوباء من فقد بعض العاملين لوظائفهم، أو انهيار مشاريعهم، وهم ممن كانوا يفتحون بيوتا ويعولون أسرا. من المؤلم حقا أن تجد أحدهم دون حيلة وقد زُج به في السجن وصار خلف القضبان، ولا ذنب له سوى أنّه بات دون أجر شهري فتكالبت عليه الديون والأقساط، فمن منّا يستطع أن يعيش دون مرتبه الشهري! وعلينا أيضا أن نتذكر ما ألحقه إعصار شاهين من أضرار لم تتعافَ منها بعض الأسر حتى هذه اللحظة!
العديد من الأسر بمن فيها الطبقة الوسطى، تشعر أنّها مُهددة، وليس بيدها من حلول سوى أن تُقلل من استهلاكها بصورة مُستمرة وضاغطة.
قرأتُ روايتين لشخصين مختلفين في مكانين وزمنين مختلفين من هذا العالم، يُصوران فكرة الجوع وآلامه. رواية كنوت هامسون «الجوع» 1890، ورواية أخرى كتبت بعدها بـ 117 سنة تقريبا، للكاتب محمد البساطي وقد حملت عنوان «جوع» ووصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر عام 2009.
يختار هامسون أن يُقدم صورة الجوع من مدينة أوسلو النرويجية، بينما يُقدم البساطي الجوع من الريف المصري. بطل هامسون شخصية مثقفة ومتعلمة، يكتب المقالات ويعيش من خلالها، بينما الأسرة التي يُقدمها البساطي ليس لديها أسئلة وجودية ولا تُفلسف ما يعبر حياتها من مآزق، ولكن أحاسيسها العميقة والمرهفة تصل إلينا وتتركُ أثرا فينا كقراء.
يتبدى بوضوح أنّ المُحرك الديناميكي في كلا العملين هو «الجوع"» شخصية هامسون واعية للجوع الذي تصطدم به يوميا ويحاصرها كشبح مريع، بينما الجوع في رواية البساطي متواري لكنه يتمظهر في نسيج حياة الشخصيات.
الكبرياء هو أيضا الشيء المشترك والأصيل في كلا العملين، فشخصية هامسون تُدافع عن كرامتها بأن تصمد أمام الجوع، فهو يرهن أزرار قميصة، ويرهن نظارته مُتفائلا بقدرته على كتابة مادة جيدة في قادم الوقت تجعله يستعيد ما قد رهن. العائلة الريفية تظهر متعففة أيضا، فحتى لو استعارت الأمّ «سكينة» الخبز من جاراتها فهي تنتظر بشغف قدوم يوم «الخبيز» لتُعيد الأرغفة التي استعارتها منهن.
الشيء الآخر المشترك بين العملين هو شخصية الخباز. حيث يذهب أبناء «سكينة» لالتقاط الفتات المُتساقط من الفرن أو انتظار الخبز الذي لا يُباع، بينما تصطدم شخصية هامسون طوال الوقت بشخصية الخبازة التي تطالعه بالمخبوزات الشهية، وكأن الخبز يُشكل معادلا لفكرة الحياة، وعدوا أساسيا للجوع، وأنّ مجرد العجز عن شرائه يعني البؤس القاتم.
الغريب أن بطل هامسون المشحون بجرعات عالية من الأمل، والمتفائل بأنّه سيكتب يوما ما نصّه الذي سينتشله من حياته المتهاوية، ينهزم ويمزقُ كلّ مسرحياته وكتاباته ويتنازل عن فعل الكتابة. بينما شخصيات البساطي البسيطة في وعيها وإدراكها لفكرة الجوع -عدا ما تُحدثه من قرقرة في المعدات الخاوية- تنتهي قصّتها بنهاية مفتوحة ومُشرعة، وكأن البساطي يقول لنا: إن الجوع هو فعل ألم لا نهائي وسيعبر الحياة إلى أبد الآبدين.
إن انعدام وجود خُطة وسياسات تُنقذ وطننا العربي من براثن الجوع واحتمالاته، سيذكرنا دوما بالجملة التي قالها بطل هامسون: «إنّه الجحيم حقا أن يتحرك المرء ويشوهه الجوع حيا».