رجل مبتسم لكل من يقابله، رغم تقدمه في السن حيث يبلغ من العمر مائة عام، ما زال يمارس حياته الطبيعية بشكل جيد. ويمشي لمسافات طويلة في حدود القرية، كان من أكبر النحالين في منطقة خبرارت حيث بدأ في مهنة العسل منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي جريدة «عمان» زارت المعمر سعيد بن أحمد المعشني الملقب (بسعيد آعليف) في منزله في منطقة خبرارت بولاية طاقة بمحافظة ظفار، لكنه لا يزال ولله الحمد يتمتع بصحة وذاكرة جيدة شجعتنا على إجراء هذا الحوار معه.

ويكتسب الصيام في جبال محافظة ظفار صفة استثنائية بحق وخاصة في عصر ما قبل النهضة التي جاءت بالرخاء وسهلت الحياة، فقد كان الإنسان في الماضي وخاصة سكان الريف يعانون معاناة شاقة، ويلقون الكثير من التعب نظرا لظروف حياتهم وشح الطعام وقلة المياه وكثرة الأعباء التي يقومون بها استجابة لمتطلبات حياتهم، وهناك عادات وممارسات حميدة ارتبطت بحلول شهر رمضان المبارك يحرص عليها سكان الجبال بالرغم من شظف العيش وشح الموارد واختفاء الخدمات الأساسية وصعوبة ظروفهم، ومن تلك العادات اعتاد الناس قبل حلول رمضان بأيام أن يغسلوا أماكنهم وملابسهم وأواني طعامهم على قلتها وبساطتها إن وجدت.

بدأنا بسؤاله عن أول يوم صام فيه رمضان فقال لا أذكر بالتحديد متى بدأت الصوم، ولكن أكاد أجزم أن الصبيان في سني يمسون صياما عن الطعام تحديدا لقلة وندرة الطعام. ولا شك أن الناس مع تلك الظروف في أرياف ظفار كانوا يستبشرون بقدومه ويتجهزون له بغسل كل ما يملكون من أوان وملابس وأثاث إن وجد وذلك استشعارا منهم لطهر الشهر وخصوصيته.

وحول أصناف الطعام التي تتوفر على موائد الإفطار فقد أوضح الشيخ المعمر سعيد المعشني أن الأطعمة تختلف من موسم لآخر ولكن غالب الاعتماد كان على ثمار الأشجار المحلية، مثل التين البري والكوم ونبتة أروب التي تنمو في فصل الخريف ويستمر جني ثمارها لمدة تصل إلى ثمانية أشهر وتحفر من باطن الأرض وهي أشبه بالبطاطا بالإضافة إلى الدوم (النبق) والكرثوب والتمر الهندي (الصبار) والبيضح والفرات وهي ثمارها أشبه بالعنب حمراء تستخرج من شجرة (شقاف) وكذلك هناك نوع آخر يسمى (ملخ) وهو أشبه بفصوص اللبان يستخرج من شجرة (الثور) وغيرها من الثمار التي تختلف بحسب المواسم.

وأضاف المعمر سعيد المعشني بقوله أفضل وقت بالنسبة لسكان أرياف ظفار عندما يأتي رمضان في موسم الصرب (الربيع) حيث يعتبر أفضل المواسم التي يتوفر فيها الطعام حيث يكون هناك حصاد للمحصولات الزراعية التي تزرع في فصل الخريف الماطر وتحصد في موسم الصرب، مثل الذرة بأنواعها المختلفة، والدجر (الفاصوليا) والخيار المحلي وغيرها من الثمرات التي تجنى بفضل الزراعة الموسمية، وكذلك توفر الحشائش والأشجار مخضرة بالنباتات المختلفة لتصبح مرعى خصبا للمواشي، ويكون هناك إدرار كثير للحليب والسمن البلدي. كما أن للحليب والسمن البلدي واللحوم إسهامات كبيرة في هذا الشأن وعلى مدار السنة.

وحول كيفية قضاء الأوقات في الشهر الفضيل يقول الشيخ سعيد المعشني إنه عند بزوغ كل فجر فالكل يشترك في أداء وظيفته فمنهم من يذهب للراعي ومنهم من يذهب لإحضار المياه من العيون المائية ومنهم من يسعى للحصول على ثمرات الأرض ليعيل بها أهله، حيث تجمع الثمار من هنا وهناك. كذلك البعض يكون في المنزل يهيئ السكن للأسرة وللمواشي وآخرون في جمع الحطب وغيرها من الأعمال الضرورية والمستمرة حتى المساء. حيث تجتمع الأسرة على مائدة واحدة ويتشاركون ذلك بلا تميز أو خصوصية ويتخلل ذلك الإيثار والعفة بروح من المودة والإخاء والوئام.

وتابع حديثه فقال من المعتاد إن الجيران يتزاورون ويجتمعون معا للاستمتاع بتداول أطراف الحديث ونقل الأخبار وأكثرها الخاصة بالرعي والمياه والكلأ لحيواناتهم بالإضافة لأحوال المجتمع.

وتحدث الشيخ المعمر سعيد المعشني عن رمضان في الخريف بجبال ظفار وكيف يعرفون أوقات الصلاة حيث قال بالفعل في هذا الموسم تكون الشمس فيه محتجبة ولم تكن عندنا ساعات في ذلك الوقت فكنا نعرف الأوقات بوسائلنا التقليدية القديمة فكنا نحفر حفرة صغيرة ونضع فيها الماء فكانت أشعة الشمس تنعكس على الماء وتظهر عليه ومن أشعة الشمس المنعكسة على الماء نعرف وقت الظهر إن كانت الأشعة في الوسط ووقت العصر إن كانت مائلة، وأما وقت المغرب كنا نعرفه من خلال زهرة معينة هذه الزهرة عند غروب الشمس تغلق وعند الفجر تتفتح.

وأضاف الشيخ سعيد المعشني أنه أول شخص يمتلك ساعة في بداية الستينات من القرن الماضي أرسلها له ابن أخيه الذي يعمل في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة.

سألنا الشيخ سعيد المعشني عن أصعب رمضان مر عليه في حياته. فأجاب قائلا. كان ذلك في بداية خمسينات القرن الماضي حيث أصاب المنطقة القحط بسبب انعدام المرعى وأي مصدر للعلف للحيوانات مثل الحشائش وأسماك السردين المجفف.

فقد سمعنا بوجود أسماك السردين في منطقة رحاء وحطوم بنيابة حاسك فقررنا نحن ستة من رجال المنطقة الذهاب إلى هناك على الركاب. وكنا صياما وكان الجو حارا جدا والرياح الشمالية قوية والأرض صلبة وساخنة وكان وقتها في شهر مايو أعز الأوقات حرارة. وكان معظم سيرنا اعتمادا على أقدامنا الحافية رأفة بالجمال والحمد لله وصلنا إلى حاسك بعد ثلاثة أيام بشق الأنفس وبالفعل استطعنا شراء حمولة الجمال من العيد (السردين) وانطلقنا راجعين إلى الديار وعندما وصلنا بمحاذاة مدينة مرباط بلغنا درجة الإجهاد الجسدي من حيث الجوع والعطش والتعب البدني فقررنا أن يذهب شخصان لجلب بعض الطعام من مدينة مرباط وبالفعل ذهبت أنا ومعي زميل آخر إلى المدينة وبفضل الله توفقنا بالحصول على ما نسد به الرمق للإفطار. وحقيقة كانت تلك الرحلة من المواقف التي لا تغيب عن البال وأتذكرها بشكل دائم لعظم المشقة وقلة المؤونة.

وأخيرا، اختتم الشيخ سعيد المعشني حديثه بحمد الله والثناء عليه الذي بلغه رمضان لهذا العام وهو في هذا العمر وبصحة جيدة وصامه وكذلك على تبدل الحال فقد انتقل المواطن من فقر مدقع وجوع وعطش وشظف العيش إلى رفاهية لم تكن في أحلامه. لهذا أحب أن أتقدم بالنصيحة لأبناء البلد وخاصة الجيل الصاعد بضرورة شكر النعمة والحفاظ عليها وحفظ أمن البلد والصبر عند الشدة والشكر عند النعم.