د. عبدالحميد الموافي -
يصادف اليوم الذكرى السابعة والأربعين لحرب أكتوبر المجيدة، وهي الحرب التي شكلت علامة فارقة في الأوضاع والتطورات في المنطقة، وفي جهود تحقيق السلام ومحاولات حل القضية الفلسطينية وقضية الشرق الأوسط أيضا، وباستثناء الاحتفالات الشعبية المصرية يوم الجمعة الماضي بهذه المناسبة، وهي احتفالات شارك فيها عشرات الآلاف في مختلف المحافظات، دون اهتمام بفيروس كورونا أو حتى اتخاذ إجراءات الوقاية منه، فالناس تريد أن تفرح، فإن الذكرى تحل وسط مناخ عربي كئيب محمل بالمواجهات المسلحة، وبالمزيد من التحديات التي تواجهها عدة دول عربية رسميًا وشعبيًا، وعلى نحو لم تشهده المنطقة وشعوبها منذ عقود عديدة.
وكان من اللافت للنظر أن تتحدث إسرائيل عن قوتها، سواء ما أشار إليه نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل في واشنطن من أن «قوة إسرائيل مكنتها من تحقيق السلام»، أو ما أشار إليه رئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود أولمرت من أن إسرائيل تعاني من «الشعور بالقوة المفرطة» وهو ما حذر منه، هذا فضلًا عن الحديث الأمريكي الواضح عن الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي، في كل الظروف، كالتزام أمريكي بأمن إسرائيل.
وما أثار الانتباه أيضًا أن تتحدث بعض الأوساط الإسرائيلية عن أن إسرائيل انتصرت في حرب أكتوبر، هكذا في تزييف كامل للتاريخ وللوقائع وللتطورات التي لا تزال حية في عقول الجيل الذي شهد هذه الحرب المجيدة على الجبهتين المصرية والسورية، وما سجله تقرير«لجنة إجرانات» الإسرائيلية الشهيرة، من تقصير بالغ قبيل وأثناء الحرب التي وضعت نهاية لأسطورة إسرائيل التي لا تقهر ولذراع إسرائيل الطويلة».
صحيح أن إسرائيل وبعض أوساطها العسكرية والسياسية، حاولت الترويج للثغرة التي قام بها أرييل شارون في القطاع الأوسط على الجبهة المصرية وبمعاونة صور الأقمار الاصطناعية الأمريكية لأرض المعركة وبالمساعدة السياسية الأمريكية بتأجيل دخول قرار وقف إطلاق النار من 21 أكتوبر حتى 24 أكتوبر 1973 حتى تعدل إسرائيل وضع قواتها في الثغرة، التي كانت القوات المصرية قد طوقتها تماما وهددت بإبادتها بالكامل بصواريخ أرض/ أرض المصوبة تجاهها، وهو ما منعته واشنطن، ولكن الصحيح والذي عرفه العالم وعرفته كل دول وشعوب المنطقة، هو أن القوات المصرية انتصرت نصرا باهرا في أكتوبر عام 73، سواء بعبور قناة السويس والسيطرة على تحصينات خط بارليف، أو بنقل قوات ومدرعات كافية إلى شرق القناة لوقف أي تقدم أو هجوم إسرائيلي مضاد خلال الساعات التالية، وهي أشياء يتم تدريسها في كثير من المعاهد العسكرية الرفيعة في العالم على مدى السنوات الأخيرة، كما لم تأت الثغرة -في الحقيقة- إلا لمحاولة حفظ ماء الوجه الإسرائيلي وحرمان مصر من بعض انتصارها الباهر والذي أدهش الإسرائيليين أنفسهم.
على أي حال فإن حرب أكتوبر 73 أصبحت ملكًا للتاريخ العسكري والسياسي في المنطقة والعالم وعلينا، كمصريين وعرب أن نحافظ عليها وأن نتصدى لكل محاولات التزييف والادعاءات الإسرائيلية التي تريد وتتعمد تشويه هذا النصر المصري والعربي الذي فتح الطريق في الواقع للسير على طريق تحقيق السلام وفق أسس ومبادئ محددة ومعلنة ومعروفة أقرتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وكل دول العالم خلال العقود الماضية، وبالطبع قبلتها إسرائيل منذ اتفاقيات فض الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية عامي 1974 و1975، واتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978، ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية عام 1979، ومؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ومعاهدة أوسلو مع الفلسطينيين عام 1993، ومعاهدة السلام مع الأردن عام 1994، وحتى الآن فإن قوى دولية عدة منها الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والصين وأطراف دولية أخرى لا تزال ترى ضرورة الالتزام والتقيد بتلك المبادئ والأسس في جهود ومحاولات البحث عن حل للقضية الفلسطينية وقضية الشرق الأوسط، وتقف إسرائيل ومعها الولايات المتحدة في خندق آخر حيث يحاول نتانياهو من خلاله تغيير تلك الأسس والمبادئ بمزاعم واهية ومردود عليها.
وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:
أولا: قبلت إسرائيل مبدأ «الأرض مقابل السلام»، بعد حرب أكتوبر، وطبقته في معاهداتها مع مصر والأردن، وكان إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق على وشك تطبيقه مع سوريا من خلال ما عرف «بوثيقة رابين» أو «وديعة رابين» قبيل اغتياله.
وبينما اعتمدت المبادرة العربية للسلام عام 2002 على المبدأ نفسه، فإن عدم قبول إسرائيل لها لا يعني انتفاء أهميتها، باعتبارها أساسًا وإطارًا للموقف العربي العام في إطار جامعة الدول العربية.
وبغض النظر عن الجدل الكبير والمتعدد الجوانب حول المبادرة العربية وجامعة الدول العربية ودورها، وهو جدل سيستمر بالتأكيد حتى التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية ولقضية الشرق الأوسط أيضا، حتى ولو طال الزمن، فإن القبول الإسرائيلي والدولي الواسع بمبادئ عملية السلام وأسس التسوية وفقًا لمبادئ وقرارات الشرعية الدولية هو أمر بالغ الأهمية في الواقع كأساس وركيزة ينبغي الالتزام بها والعمل في إطارها اليوم وغدًا أيضًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل يمكن لإسرائيل أن تغير هذه الأسس والمبادئ، وأن تتجاوز مبدأ «الأرض مقابل السلام» وتحل محله مبدأ «السلام مقابل السلام» كما يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو؟ بالطبع يريد نتانياهو أن يغير قواعد التسوية، بالنسبة للقضية الفلسطينية وبالنسبة لقضية الشرق الأوسط أيضا، مستغلا في ذلك مرحلة الضعف العربي الراهنة، والتأييد الأمريكي غير المسبوق لوجهات النظر الإسرائيلية حيال الصراع العربي-الإسرائيلي ببعديه الفلسطيني والعربي.
ومع أنه يبحث عن مصالحه الذاتية والسياسية ومصالح إسرائيل، إلا أن ذلك التغيير لا يمكن إحداثه، ولا القبول الجماعي العربي به، لمجرد أن نتانياهو يريده، أو لأن البيت الأبيض يؤيده في هذه المرحلة.
والأسباب وراء ذلك عديدة في الواقع، فإسرائيل دولة محتلة منذ عدوانها عام 1967، وكل قرارات وأدبيات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تؤكد ذلك، كما أن أسس ومبادئ التسوية في الشرق الأوسط وللقضية الفلسطينية هي من الأسس والمبادئ الشارعة في القانون الدولي، بمعنى المبادئ التي تعبر وتترجم نواميس ومبادئ العدالة والشرعية الدولية والتي تضع الأسس للسلام والاستقرار على امتداد العالم وليس للشرق الأوسط وحده، ومن ثم فإنه لا يمكن تغيير تلك المبادئ والأسس لمجرد أن نتانياهو أو غيره يريد أو يرى ذلك، كما أن تلك القواعد والأسس لا تتغير نزولا على الموقف السياسي الأمريكي في مرحلة ما، صحيح أن موقف الولايات المتحدة مؤثر إلى حد كبير، ولكن الصحيح أيضا أن واشنطن وحدها لا تضع أسس الشرعية والقانون الدولي، ومما له دلالة مثلا أن الكونجرس الأمريكي لا يزال يعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية تتعارض مع السلام، يضاف إلى ذلك أن رغبات نتانياهو وحساباته الداخلية والسياسية لا تلزم العرب، وإن إعلانه لها هو موقف سياسي من جانبه يخاطب به اليمين الإسرائيلي المتطرف ولا يلزم، ولا ينبغي أن يلزم العرب، كموقف جماعي، بذلك.
فالمبادئ الشارعة في القانون الدولي لا تتغير بتغير الظروف، ويدل على ذلك أن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والأسس التي قام عليها منذ عام 1945 لا تزال قائمة وسارية ويلتزم بها العالم إلى حد كبير، صحيح أن هناك انتهاكات كثيرة لها من جانب الدول الخارجة على الشرعية الدولية وفي مقدمتها إسرائيل، ولكن الصحيح أيضًا أن ذلك الخروج والانتهاك لقواعد القانون الدولي لا ينبغي أن يلزمني كطرف عربي في أي تسوية.
وهنا فإنه ينبغي الإشارة إلى أن مائدة المفاوضات تسمح لكل طرف أن يطرح ما يريد من مطالب وعلى الطرف الآخر الرد على ذلك وطرح مطالبه المقابلة حتى يتم التوصل إلى توافق يحقق المصالح المشروعة والمتبادلة للطرفين، وهذا يختلف إلى حد بعيد عما يريد نتانياهو فرضه منذ البداية على الجانبين الفلسطيني والعربي، بغض النظر عن الصياغات والمصطلحات المستخدمة.
ثانيا: قد يقول قائل إن الأمم المتحدة لم تفعل شيئا، وأن جامعة الدول العربية لم تقدم شيئًا أيضًا، وأن العالم تغير، وأن محاولات تحقيق السلام في العقود الماضية لم تحقق شيئًا، ودعونا نجرب سبيلًا آخر، وهو ما يروج له جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في زياراته ومقترحاته المعروفة.
ومع أن هناك الكثير مما يمكن قوله بالنسبة للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، خاصة على صعيد الحفاظ على الحقوق الفلسطينية والعربية واعتبار إسرائيل دولة احتلال، وعلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعدم جواز ضم أراضي الغير بالقوة، فإن المسألة لا يمكن أن تسير في اتجاه واحد على النحو الذي يراه نتانياهو ودونالد ترامب وكوشنر، بمحاولة استبدال مبدأ «السلام مقابل السلام» بمبدأ «الأرض مقابل السلام» والذي يأتي على حساب الأرض العربية والفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بما فيها القدس الشرقية كجزء من الضفة الغربية المحتلة.
ربما يقول البعض: إن ذلك هو ما تفرضه موازين القوة والأوضاع العربية البائسة الآن بكل ملامحها المعروفة، غير أن هذا القول ليس صحيحا على إطلاقه، فهناك في النهاية القابضون على الجمر، المتمسكون بحقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية من الفلسطينيين، والمتطلعون إلى تحرير أراضيهم المحتلة، في الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية، ولا يفت في عضد هؤلاء، ولا يسلمهم لليأس أن يصدر البيت الأبيض أو الكونجرس أو الكنيست الإسرائيلي قرارا بالضم، ضم تلك الأراضي، لإسرائيل.
وهنا تحمل الذكرى السابعة والأربعين لحرب أكتوبر معاني على جانب كبير من الأهمية والدلالة، سواء فيما يتصل بالثقة في القدرة على استعادة الحقوق العربية والفلسطينية، أو في القدرة على تجاوز حالة الضعف والإحباط الراهنة، والأهم هو الاستعداد العلمي والعملي لذلك، والبدء من الآن.
والمؤكد أن ذلك ليس من أحلام اليقظة، ولا التصور غير الواقعي، ولكنه طريق طويل لا مناص من قطعه بوعي وإدراك وإدارة قوية وإخلاص للهدف، هدف التحرير الحقيقي للأرض وبذل كل ما هو ممكن لتحقيق ذلك، وبعدها فليتحقق السلام على أساس مبدأ «الأرض مقابل السلام» الذي ينبغي إرجاع نتانياهو وإسرائيل إلى الأخذ به والالتزام به، وقد لا يطول الوقت لتحقيق ذلك، خاصة وأن حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، ومن هنا فإن حرب أكتوبر لم تنته دروسها ومعانيها، بغض النظر عن كل ما يحيط بنا عربيًا وإقليميًا ودوليًا.