عندما يهل شهر رمضان في كل عام، تحفل الصحف بالعديد من المقالات عن المناسبة الدينية لهذا الشهر الفضيل وما يقترن بها من شعائر وعبادات، ومن ذلك- على سبيل المثال- الحديث عن الصيام كفرض شرعي، وعن حكمته وفوائده النفسية والصحية. ولكني لا أود هنا التحدث عن شيء من ذلك، مما يُحسِن الكثيرون القول فيه أكثر مني. أريد فقط تأمل الطقوس الاجتماعية المصاحبة لشهر رمضان.

لكل بلد من بلدان العالم الإسلامي طقوس دينية واحتفالية خاصة في شهر رمضان. ولكني أظن أن الطابع الاحتفالي المصري في شهر رمضان له خصوصية شديدة، وكان له تأثير واضح على كثير من بلدان العالم الإسلامي. ولعل ذلك هو إرث متواصل منذ عصر الدولة الفاطمية التي احتفت دائمًا بالمناسبات الدينية، ومن ذلك حلوى مولد النبي، والكُنافة والقطايف في رمضان. ولا شك في أن الطقس الاحتفالي الرمضاني لم يعد حاضرًا الآن بقوة في مصر مثلما كان حاضرًا من قبل، بفعل تغيرات اجتماعية واقتصادية. وتلك مسألة سوف تتبدى لنا في سياق الكلام التالي.

فانوس رمضان هو الرمز الاحتفالي الأشهر بشهر رمضان. حضوره ملحوظ في الريف، ولكنه طاغ في الأحياء الشعبية في الحضر، خاصةً تلك الأحياء والمناطق الشعبية المتاخمة لمساجد آل البيت وأولياء الله الصالحين. اقترن الفانوس بالزينة: يصنع شباب الحي البالغين الزينة من الأوراق الملونة التي يتم مدها عبر خيط سميك يربط بين شرفات البيوت، ويتوسط هذه الزينة فانوس كبير يصنعه الشباب، ويتبارون في صنع الفانوس الأجمل والأكبر حجمًا مما يصنعه شباب الأحياء والحواري المجاورة. أما الأطفال فكانوا ينتظرون من الآباء شراء فانوس صغير مصنوع من هيكل معدني أبيض مُعشَّق بزجاج ملون، وتتوسطه شمعة يتم تغييرها كلما تضاءلت. كنا في صبانا نحمل الفوانيس المضاءة بالشموع في أثناء الليل ونجوب حول بيوت الجيران، وكنا في أثناء تجوالنا نردد الأغنية الشعبية التالية: «حالُّو يا حالُّوا، رمضان كريم يا حالُّوا. إدونا العادة، الله خليكم، الفانوس طقطق والشمعة خلصت»، أغنية بسيطة بالعامية المصرية مرصعةً بكلمة من اللغة المصرية القديمة، وهي كلمة «حَالُّو» بمعنى شيخ. والمعنى العام للأغنية هو: يا شيخ، يا شيخ، اعطونا العادة من الهدايا والحلوى بحق هذه المناسبة الكريمة، كونوا كرماء: فالفانوس اشتدت حرارته وشمعته تضاءلت. هي أغنية شعبية تعبر بعمق عن الشخصية المصرية في نوع من البهجة والدعابة. كان كل طفل منا يرجع إلى بيته وقد امتلأت جيوبه بقِطع الحلوى والمكسرات.

لم يعد الفانوس الآن فانوسًا حقيقيًّا إلا فيما ندر. أعني أن الفانوس لم يعد يمثل الدلالة الرمزية نفسها التي كان يمثلها فيما مضى. أغرقت الماكينة الصينية فوانيس لا روح فيه، تُصنَع من البلاستيك، وتشبه لعب الأطفال الأخرى.

لنتأمل حالة الأغنية المصاحبة لشهر رمضان: هناك أغان عديدة رائعة، ولكني أظن أن الأغنية المهيمنة على الوجدان هي أغنية محمد عبد المُطلِّب الشهيرة التي يقول مطلعها بالعامية المصرية: رمضان جانا، وفرحنا به، بعد غيابه، وبقاله زمان. غنوا معانا شهر بطوله، غنوا وقولوا أهلًا رمضان، قولوا معانا أهلًا رمضان، رمضان جانا». كان العوام يستخفون بصوته بالقياس إلى أصوات أساطين الغناء في عصره، ولعل من بقي منهم يتحسر الآن على أدائه الفني البديع، الفريد في التعبير عن الروح والشخصية.

ولنتأمل حالة الاحتفالات الرائجة الآن في شهر رمضان، التي تعرف باسم «الخيام الرمضانية». احتفالات أكثر بذخًا إلى حد بعيد، حافلة بالموائد العامرة وأغاني المهرجانات، وغير ذلك. الاحتفالات الآن هي قعدة مزاج وفرفشة وليست حالة من البهجة والاحتفال الحقيقي المرتبط بإجلال المناسبة الدينية والاحتفاء بها احتفاءً رمزيًّا، أعني من خلال الرمز الاحتفالي المقترن بها: فانوس، أغنية وأناشيد مرتبطة بالحدث، حلوى ومكسرات مرتبطة بالمناسبة الدينية وحدها (تمامًا مثل «طَبَق العاشوره» في يوم عاشوراء الذي يحتفي به أهل السنة في مصر وغيرها، مثلما يحتفي به الشيعة في كل مكان بأشكال متنوعة).

في ضوء هذا يمكن أن نتفهم الدلالات الرمزية للاحتفالات الصوفية بالمناسبات الدينية، من خلال الغناء والأناشيد والرقص نفسه الذي هو أشبه بالرقص الديني التعبدي في عالم القدماء. وفي ضوء هذا أيضًا يمكن أن نتفهم روح التدين وحلاوته حينما ينأى الدين عن الطابع المتجهم، ليعبر عن روح السماحة والحب والاحتفاء.

سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»