ترجمة: أحمد شافعي
قرابة ستة أسابيع مضت على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وها أنا أبدأ في التساؤل: أليس هذا الصراع هو الحرب العالمية الأولى بحق؟ فهذا الصراع أولى بذلك من من الحرب العالمية الأولى أو الثانية. في هذه الحرب التي أحسبها "الحرب العالمية السلكية" [“World War Wired,”]، بوسع كل فرد تقريبا إما أن يتابع الصراع على مستوى دقيق، أو يشارك فيه بطريقة أو بأخرى، أو يتأثر به اقتصاديا، مهما يكن المكان الذي يعيش فيه.
ولا يخدعنكم أن المعركة الميدانية التي أشعلت فتيل الحرب العالمية السلكية تدور في ظاهر الأمر حول السيطرة على أوكرانيا. فسرعان ما تحول هذا الصراع إلى "المعركة الكبيرة" بين النظامين السياسيين الأكثر هيمنة على العالم اليوم: وهما ديمقراطية السوق الحرة وسيادة القانون ضد الكليبتقراطية، حسبما قال لي الخبير السويدي في الاقتصاد الروسي أندريه أسلوند.
وبرغم أن هذه الحرب لم تزل بعيدة عن وضع أوزارها، وبرغم أن فلاديمير بوتين قد لا يعدم سبيلا يخرج به منتصرا وأقوى، فإن لم يفعل، فقد تكون نقطة تحول في الصراع بين النظامين الديمقراطي واللاديمقراطي. ويجدر بنا في هذا المقام أن نتذكر أن الحرب العالمية الثانية قد أنهت الفاشية، وأن الحرب الباردة قد أنهت الشيوعية المتشددة، حتى في الصين في نهاية المطاف. ومن ثم فقد يكون لما يجري في شوارع كييف وماريبول ومنطقة دونباس تأثير على الأنظمة السياسية يتجاوز كثيرا أوكرانيا ويستمر إلى المستقبل البعيد.
واقع الأمر أن زعماء استبداديين يرقبون روسيا في حذر. فهم يرون العقوبات الغربية تضعف اقتصادها، ويرون آلافا من شبابها المهرة في التكنولوجيا يهربون من حكومة تنكر عليهم الاتصال بالإنترنت والأخبار الموثوقة، ويعجز جيشها عن جمع المعلومات الدقيقة وتبادلها ورفعها إلى القمة. ولا بد أن يسأل أحد هؤلاء الزعماء نفسه: "تراني أنا أيضا بهذا الضعف؟ تراني أقوم على رأس بيت مماثل الهشاشة؟"
والجميع يراقبون.
في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى أحد هاتف ذكي أو اتصال بالشبكات الاجتماعية فيراقب الحرب أو يشارك فيها دون أن يتحرك من مكانه. الحق أن جزءا ضخما من سكان العالم كانوا لا يزالون محتلين وليست لديهم الحرية الكاملة للتعبير عن رؤاهم المستقلة حتى لو توافرت لهم التكنولوجيا. كما كان كثير من المقيمين خارج مناطق الحرب مزارعين شديدي الفقر يعيشون على الكفاف ولم يتأثروا كثيرا بتينك الحربين الأوليين. ولم يكن من وجود لتلك الطبقات الوسطى والدنيا العملاقة المعولمة المتحضرة القائمة في عالمنا السلكي اليوم.
الآن يستطيع كل من لديه هاتف ذكي أن يرى ما يجري في أوكرانيا ـ على الهواء وبالألوان ـ ويعبر عن رأيه عالميا من خلال وسائل الإعلام الاجتماعي. في عالمنا ما بعد الكولونيالي، بوسع حكومة أي بلد في العالم تقريبا أن تصوت لإدانة أو تبرير جانب أو آخر في أوكرانيا من خلال الجمعية العامة في الأمم المتحدة.
ومع اختلاف التقديرات، يبدو أن ما بين ثلاثة وأربعة مليارات من البشر في الكوكب ـ أي قرابة النصف ـ لديهم اليوم هواتف ذكية، وبرغم أن الرقابة على الإنترنت تبقى مشكلة حقيقية، وبخاصة في الصين، فإن مثل ذلك العدد تقريبا من الناس قادرون على النظر بعمق في مزيد من الأماكن. وليس ذلك بالأمر كله.
فكل من لديه هاتف ذكي وبطاقة ائتمانية قادر على مساعدة غرباء في أوكرانيا من خلال موقع آيربنب Airbnb من خلال حجز بسيط لليلة في بيت من بيوتهم وعدم استغلال ذلك الحجز. كما أن تطبيق رسائل تيلجرام الفورية المشفرة ـ الذي اخترعه شقيقان ولدا في روسيا كأداة للتواصل خارج رقابة الكريملين ـ قد "ظهر باعتباره منصة لتحديثات الحرب المباشرة غير المفلترة بالنسبة للاجئين الأوكرانيين وبالنسبة للروس سواء بسواء" حسبما ذكرت إذاعة أمريكا الوطنية.
في الوقت نفسه، تمكنت حكومة أوكرانيا من الانتفاع من مصدر تمويل جديد تماما ـ وفر أكثر من سبعين مليون دولارا من العملات المشفرة من أفراد في جميع أنحاء العالم بعد مناشدة بالتبرع تمت عبر وسائل الإعلام الاجتماعي. كما قام المليادير إيلون ماسك صاحب تيسلا بتفعيل خدمة الإنترنت من القمر الصناعي التابع لشركته سبيس إكس في أوكرانيا لتوفير اتصال فائق السرعة بالشبكة بعد أن غرد مسؤول أوكراني طالبا مساعدته في مواجهة محاولات روسية لقطع الإنترنت عن أوكرانيا وفصلها عن العالم.
كما مكنت شركات الأقمار الصناعية التجارية القائمة في الولايات المتحدة ـ مثل مكسار تكنولوجيز ـ أي شخص من أن يشاهد من الفضاء مئات اليائسين المصطفين في انتظار الغذاء خارج متجر في ماريبول، برغم أن الروس يحاصرون المدينة على الأرض ويحظرون دخولها على الصحفيين.
وهناك من بعد المحاربون السيبرانيون الذين يستطيعون التقدم للقتال من أي مكان، وقد تقدموا بالفعل. فقد ذكرت شبكة سي إن بي سي أن "حسابا شهيرا في تويتر اسمه أنونيموس Anonymous’ قد أعلن أن الجماعة الناشطة السرية شنت حربا سيبرانية على روسيا. وقد أعلن هذا الحساب ـ الذي يتابعه أكثر من 7.9 مليونا في العالم، (وانضم إلى متابعته من روسيا خمسمئة ألف متابع جديد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا) "مسؤوليته عن تعطيل مواقع حكومية روسية مهمة، ومواقع إخبارية، ومواقع شركات، وتسريب بيانات من كيانات مثل روسكوماندزور، وهي الوكالة الفيدرالية المسؤولة عن رقابة الإعلام الروسي".
في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يكن من وجود لمثل هؤلاء اللاعبين غير الحكوميين العالميين شديدي القوة.
لكن بقدر كثرة عدد البشر القادرين على التأثير في هذه الحرب، هناك الكثيرون الذين يتأثرون بها. فروسيا وأوكرانيا موِّردان أساسيان للقمح والأسمدة في سلاسل توريد زراعية تقوم حاليا بتغذية العالم وقطعتها هذه الحرب. وهكذا فإن حربا بين بلدين اثنين في أوربا قد رفعت أسعار الغذاء ارتفاعا صاروخيا على المصريين والبرازيليين والهنود والأفارقة.
ولأن روسيا من أكبر مصدِّري العالم للغاز الطبيعي وخام النفط ووقود الديزل التي يستعملها المزارعون في جراراتهم، ولأن العقوبات المفروضة على البنية الأساسية للطاقة في روسيا تعوق صادراتها، بما يجعل أسعار ضخ الوقود ترتفع من مينابوليس إلى المكسيك إلى مومباي، ويرغم المزارعين حتى في أماكن بعيدة بعد الأرجنتين على تقنين استعمالهم للجرارات أو تقليل استعمالهم للأسمدة بما يهدد صادرات الأرجنتين الزراعية ويزيد من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية المرتفعة أصلا.
وثمة زاوية عولمة مالية أخرى غير متوقعة في هذه الحرب وينبغي لكم أن ترقبوها بصفة خاصة: لقد ادخر بوتين أكثر من ستمئة مليار دولار من الذهب والسندات الحكومية الأجنبية والعملة الأجنبية، من عائدات روسيا من صادرات الطاقة والمعادن، وذلك تحديدا لكي يؤمّن نفسه في حال فرض الغرب عقوبات عليه. لكن بوتين غفل عن أن حكومته في عالم اليوم السلكي قد أودعت أغلب هذه المدخرات ـ وفقا للممارسة المعيارية ـ في بنوك بدول غربية وفي الصين.
وبحسب مركز جيوإكونوميكس التابع للمجلس الأطلنطي فإن أكبر ستة دول احتواء لأصول العملات الأجنبية الخاصة بالبنك المركزي الروسي بالنسبة المئوية هي الصين بـ17.7%، وفرنسا بـ15.6%، واليابان بـ12.8%، وألمانيا بـ 12.2%، والولايات المتحدة بـ8.5%، وبريطانيا بـ 5.8%. كما أن لدى بنك التسويات الدولية وصندوق النقد الدولي 6.4%.
قامت جميع هذه البلاد ـ ما عدا الصين ـ بتجميد الاحتياطيات الروسية التي تحوزها ـ فيمتنع على بوتين قرابة 330 مليار دولار ـ بحسب رصد المجلس الأطلنطي. ولا يقتصر الأمر على عجز الدولة الروسية عن لمس هذه الاحتياطيات لدعم اقتصادها المتدهور، فسوف يكون ثمة دفع عالمي هائل لتوجيه هذه النقود إلى تمويل التعويضات لإعادة بناء المنازل والعمارات والطرق والمؤسسات الحكومية التي حطمها الجيش الروسي في أوكرانيا بسبب هذه الحرب التي شنها بوتين.
لكل هذه الأسباب، فإن جميع زعماء العالم الذين انجرفوا إلى هذه النسخة أو تلك من رأسمالية بوتين أو كليبتقراطيته يجدر بهم القلق، ولو أن زحزحتهم لن تكون سهلة مهما يكن ما سيحدث في روسيا.
لقد باتت هذه الأنظمة الحاكمة بارعة في استعمال تقنيات المراقبة الجديدة للسيطرة على الخصوم السياسيين وعلى تدفقات المعلومات والتلاعب بسياساتهم وبموارد الدولة المالية لتحصين وجودها في السلطة. ونحن نتكلم هنا عن ميانمار والصين وكوريا الشمالية وبيرو والبرازيل والفلبين والمجر والعديد من الدول العربية. من المؤكد أن بوتين كان يرجو أن يتولى ترامب الحكم لفترة رئاسية ثانية عسى أن يحول أمريكا إلى نسخة من كلبتقراطيته القائمة على حكم الرجل القوي ولإمالة التوازن العالمي كله بما يخدمه.
ثم جاءت هذه الحرب. ومن المؤكد أن ديمقرطية أوكرانيا هشة وأن لديها مشاكلها العميقة مع الأوليجاركية والفساد. فلم يكن طموح كييف الأكيد هو الانضمام إلى الناتو وإنما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فكانت تعمل على تنظيف نفسها لتحقيق ذلك.
وذلك فعليا ما تسبب في هذه الحرب. فما كان بوتين ليسمح لأوكرانيا السلافية أن تصبح بلدا ديمقراطيا ذا سوق حرة ناجحا وعضوا في الاتحاد الأوربي وجارا لبلده الكليبتقراطي الروسي السلافي. ما كان ليقبل بهذا التناقض أبدا.
• توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب "من بيروت إلى القدس".
** "خدمة نيويورك تايمز ترجمة خاصة بجريدة عمان"
قرابة ستة أسابيع مضت على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وها أنا أبدأ في التساؤل: أليس هذا الصراع هو الحرب العالمية الأولى بحق؟ فهذا الصراع أولى بذلك من من الحرب العالمية الأولى أو الثانية. في هذه الحرب التي أحسبها "الحرب العالمية السلكية" [“World War Wired,”]، بوسع كل فرد تقريبا إما أن يتابع الصراع على مستوى دقيق، أو يشارك فيه بطريقة أو بأخرى، أو يتأثر به اقتصاديا، مهما يكن المكان الذي يعيش فيه.
ولا يخدعنكم أن المعركة الميدانية التي أشعلت فتيل الحرب العالمية السلكية تدور في ظاهر الأمر حول السيطرة على أوكرانيا. فسرعان ما تحول هذا الصراع إلى "المعركة الكبيرة" بين النظامين السياسيين الأكثر هيمنة على العالم اليوم: وهما ديمقراطية السوق الحرة وسيادة القانون ضد الكليبتقراطية، حسبما قال لي الخبير السويدي في الاقتصاد الروسي أندريه أسلوند.
وبرغم أن هذه الحرب لم تزل بعيدة عن وضع أوزارها، وبرغم أن فلاديمير بوتين قد لا يعدم سبيلا يخرج به منتصرا وأقوى، فإن لم يفعل، فقد تكون نقطة تحول في الصراع بين النظامين الديمقراطي واللاديمقراطي. ويجدر بنا في هذا المقام أن نتذكر أن الحرب العالمية الثانية قد أنهت الفاشية، وأن الحرب الباردة قد أنهت الشيوعية المتشددة، حتى في الصين في نهاية المطاف. ومن ثم فقد يكون لما يجري في شوارع كييف وماريبول ومنطقة دونباس تأثير على الأنظمة السياسية يتجاوز كثيرا أوكرانيا ويستمر إلى المستقبل البعيد.
واقع الأمر أن زعماء استبداديين يرقبون روسيا في حذر. فهم يرون العقوبات الغربية تضعف اقتصادها، ويرون آلافا من شبابها المهرة في التكنولوجيا يهربون من حكومة تنكر عليهم الاتصال بالإنترنت والأخبار الموثوقة، ويعجز جيشها عن جمع المعلومات الدقيقة وتبادلها ورفعها إلى القمة. ولا بد أن يسأل أحد هؤلاء الزعماء نفسه: "تراني أنا أيضا بهذا الضعف؟ تراني أقوم على رأس بيت مماثل الهشاشة؟"
والجميع يراقبون.
في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى أحد هاتف ذكي أو اتصال بالشبكات الاجتماعية فيراقب الحرب أو يشارك فيها دون أن يتحرك من مكانه. الحق أن جزءا ضخما من سكان العالم كانوا لا يزالون محتلين وليست لديهم الحرية الكاملة للتعبير عن رؤاهم المستقلة حتى لو توافرت لهم التكنولوجيا. كما كان كثير من المقيمين خارج مناطق الحرب مزارعين شديدي الفقر يعيشون على الكفاف ولم يتأثروا كثيرا بتينك الحربين الأوليين. ولم يكن من وجود لتلك الطبقات الوسطى والدنيا العملاقة المعولمة المتحضرة القائمة في عالمنا السلكي اليوم.
الآن يستطيع كل من لديه هاتف ذكي أن يرى ما يجري في أوكرانيا ـ على الهواء وبالألوان ـ ويعبر عن رأيه عالميا من خلال وسائل الإعلام الاجتماعي. في عالمنا ما بعد الكولونيالي، بوسع حكومة أي بلد في العالم تقريبا أن تصوت لإدانة أو تبرير جانب أو آخر في أوكرانيا من خلال الجمعية العامة في الأمم المتحدة.
ومع اختلاف التقديرات، يبدو أن ما بين ثلاثة وأربعة مليارات من البشر في الكوكب ـ أي قرابة النصف ـ لديهم اليوم هواتف ذكية، وبرغم أن الرقابة على الإنترنت تبقى مشكلة حقيقية، وبخاصة في الصين، فإن مثل ذلك العدد تقريبا من الناس قادرون على النظر بعمق في مزيد من الأماكن. وليس ذلك بالأمر كله.
فكل من لديه هاتف ذكي وبطاقة ائتمانية قادر على مساعدة غرباء في أوكرانيا من خلال موقع آيربنب Airbnb من خلال حجز بسيط لليلة في بيت من بيوتهم وعدم استغلال ذلك الحجز. كما أن تطبيق رسائل تيلجرام الفورية المشفرة ـ الذي اخترعه شقيقان ولدا في روسيا كأداة للتواصل خارج رقابة الكريملين ـ قد "ظهر باعتباره منصة لتحديثات الحرب المباشرة غير المفلترة بالنسبة للاجئين الأوكرانيين وبالنسبة للروس سواء بسواء" حسبما ذكرت إذاعة أمريكا الوطنية.
في الوقت نفسه، تمكنت حكومة أوكرانيا من الانتفاع من مصدر تمويل جديد تماما ـ وفر أكثر من سبعين مليون دولارا من العملات المشفرة من أفراد في جميع أنحاء العالم بعد مناشدة بالتبرع تمت عبر وسائل الإعلام الاجتماعي. كما قام المليادير إيلون ماسك صاحب تيسلا بتفعيل خدمة الإنترنت من القمر الصناعي التابع لشركته سبيس إكس في أوكرانيا لتوفير اتصال فائق السرعة بالشبكة بعد أن غرد مسؤول أوكراني طالبا مساعدته في مواجهة محاولات روسية لقطع الإنترنت عن أوكرانيا وفصلها عن العالم.
كما مكنت شركات الأقمار الصناعية التجارية القائمة في الولايات المتحدة ـ مثل مكسار تكنولوجيز ـ أي شخص من أن يشاهد من الفضاء مئات اليائسين المصطفين في انتظار الغذاء خارج متجر في ماريبول، برغم أن الروس يحاصرون المدينة على الأرض ويحظرون دخولها على الصحفيين.
وهناك من بعد المحاربون السيبرانيون الذين يستطيعون التقدم للقتال من أي مكان، وقد تقدموا بالفعل. فقد ذكرت شبكة سي إن بي سي أن "حسابا شهيرا في تويتر اسمه أنونيموس Anonymous’ قد أعلن أن الجماعة الناشطة السرية شنت حربا سيبرانية على روسيا. وقد أعلن هذا الحساب ـ الذي يتابعه أكثر من 7.9 مليونا في العالم، (وانضم إلى متابعته من روسيا خمسمئة ألف متابع جديد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا) "مسؤوليته عن تعطيل مواقع حكومية روسية مهمة، ومواقع إخبارية، ومواقع شركات، وتسريب بيانات من كيانات مثل روسكوماندزور، وهي الوكالة الفيدرالية المسؤولة عن رقابة الإعلام الروسي".
في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يكن من وجود لمثل هؤلاء اللاعبين غير الحكوميين العالميين شديدي القوة.
لكن بقدر كثرة عدد البشر القادرين على التأثير في هذه الحرب، هناك الكثيرون الذين يتأثرون بها. فروسيا وأوكرانيا موِّردان أساسيان للقمح والأسمدة في سلاسل توريد زراعية تقوم حاليا بتغذية العالم وقطعتها هذه الحرب. وهكذا فإن حربا بين بلدين اثنين في أوربا قد رفعت أسعار الغذاء ارتفاعا صاروخيا على المصريين والبرازيليين والهنود والأفارقة.
ولأن روسيا من أكبر مصدِّري العالم للغاز الطبيعي وخام النفط ووقود الديزل التي يستعملها المزارعون في جراراتهم، ولأن العقوبات المفروضة على البنية الأساسية للطاقة في روسيا تعوق صادراتها، بما يجعل أسعار ضخ الوقود ترتفع من مينابوليس إلى المكسيك إلى مومباي، ويرغم المزارعين حتى في أماكن بعيدة بعد الأرجنتين على تقنين استعمالهم للجرارات أو تقليل استعمالهم للأسمدة بما يهدد صادرات الأرجنتين الزراعية ويزيد من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية المرتفعة أصلا.
وثمة زاوية عولمة مالية أخرى غير متوقعة في هذه الحرب وينبغي لكم أن ترقبوها بصفة خاصة: لقد ادخر بوتين أكثر من ستمئة مليار دولار من الذهب والسندات الحكومية الأجنبية والعملة الأجنبية، من عائدات روسيا من صادرات الطاقة والمعادن، وذلك تحديدا لكي يؤمّن نفسه في حال فرض الغرب عقوبات عليه. لكن بوتين غفل عن أن حكومته في عالم اليوم السلكي قد أودعت أغلب هذه المدخرات ـ وفقا للممارسة المعيارية ـ في بنوك بدول غربية وفي الصين.
وبحسب مركز جيوإكونوميكس التابع للمجلس الأطلنطي فإن أكبر ستة دول احتواء لأصول العملات الأجنبية الخاصة بالبنك المركزي الروسي بالنسبة المئوية هي الصين بـ17.7%، وفرنسا بـ15.6%، واليابان بـ12.8%، وألمانيا بـ 12.2%، والولايات المتحدة بـ8.5%، وبريطانيا بـ 5.8%. كما أن لدى بنك التسويات الدولية وصندوق النقد الدولي 6.4%.
قامت جميع هذه البلاد ـ ما عدا الصين ـ بتجميد الاحتياطيات الروسية التي تحوزها ـ فيمتنع على بوتين قرابة 330 مليار دولار ـ بحسب رصد المجلس الأطلنطي. ولا يقتصر الأمر على عجز الدولة الروسية عن لمس هذه الاحتياطيات لدعم اقتصادها المتدهور، فسوف يكون ثمة دفع عالمي هائل لتوجيه هذه النقود إلى تمويل التعويضات لإعادة بناء المنازل والعمارات والطرق والمؤسسات الحكومية التي حطمها الجيش الروسي في أوكرانيا بسبب هذه الحرب التي شنها بوتين.
لكل هذه الأسباب، فإن جميع زعماء العالم الذين انجرفوا إلى هذه النسخة أو تلك من رأسمالية بوتين أو كليبتقراطيته يجدر بهم القلق، ولو أن زحزحتهم لن تكون سهلة مهما يكن ما سيحدث في روسيا.
لقد باتت هذه الأنظمة الحاكمة بارعة في استعمال تقنيات المراقبة الجديدة للسيطرة على الخصوم السياسيين وعلى تدفقات المعلومات والتلاعب بسياساتهم وبموارد الدولة المالية لتحصين وجودها في السلطة. ونحن نتكلم هنا عن ميانمار والصين وكوريا الشمالية وبيرو والبرازيل والفلبين والمجر والعديد من الدول العربية. من المؤكد أن بوتين كان يرجو أن يتولى ترامب الحكم لفترة رئاسية ثانية عسى أن يحول أمريكا إلى نسخة من كلبتقراطيته القائمة على حكم الرجل القوي ولإمالة التوازن العالمي كله بما يخدمه.
ثم جاءت هذه الحرب. ومن المؤكد أن ديمقرطية أوكرانيا هشة وأن لديها مشاكلها العميقة مع الأوليجاركية والفساد. فلم يكن طموح كييف الأكيد هو الانضمام إلى الناتو وإنما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فكانت تعمل على تنظيف نفسها لتحقيق ذلك.
وذلك فعليا ما تسبب في هذه الحرب. فما كان بوتين ليسمح لأوكرانيا السلافية أن تصبح بلدا ديمقراطيا ذا سوق حرة ناجحا وعضوا في الاتحاد الأوربي وجارا لبلده الكليبتقراطي الروسي السلافي. ما كان ليقبل بهذا التناقض أبدا.
• توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب "من بيروت إلى القدس".
** "خدمة نيويورك تايمز ترجمة خاصة بجريدة عمان"