القرآن.. هو الكتاب الذي قام بنهجه الإسلام، وعليه تأسست حضارة المسلمين، ومنه انبثقت علومهم، وعلى محوره دارت حياتهم. لقد اهتم المسلمون بدراسته ووضعوا له علوماً عديدة؛ منها: الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقراءات، وبحثوا في بلاغته وعلو بيانه. وتحدث المتأخرون منهم عن إعجازه، فكتبوا في إعجازه البياني والتشريعي والعلمي، وحللوا خطابه وفق المناهج الحديثة. كما اهتم بدراسته كذلك غير المسلمين؛ فقدموا بحوثاً حول مخطوطاته ومصادره وتأريخه، وقارنوا بينه وبين الكتب الدينية وغير الدينية. ولا يزال الناس يشغلهم هذا الكتاب العظيم، ويتنازعون حول معانيه ومراميه وأصوله.

وللقرآن.. طرائق لدى دارسيه ومفسريه، بيد أن التقسيم الذي ينبغي أن يكون مدخلاً لفهمه هو أنه:

- نظام مغلق.. بكونه كتاب دين، فلا توجد الهداية خارجه، ومن يسير على هديه ويعمل بمحكماته فقد أتى بما عليه، ومن يبتغِ الهداية في غيره فقد هجره.

- نظام مفتوح.. بكونه مرجعاً للمنظومات المعرفية الدينية؛ كعلم الكلام، والفقه وأصوله، والتفسير، فهذه المنظومات لم تقتصر في بنائها على منطق القرآن الداخلي وسياق نزوله، بل لم تكتف به وحده، فأبحرت في كل جهات المعرفة، لكي تكوّن منظوماتها المعرفية التي خدمت الوضع الاجتماعي الذي وجدت فيه.

لقد قُدِّم الكثير من التعريفات لمصطلحات القرآن، وهناك -مثلاً- مَن مايز بين معاني: القرآن والكتاب والذكر والفرقان، وهم ينطلقون في بيانها باعتبار أن ألفاظ القرآن غير مترادفة، ويعتبر محمد شحرور (ت:2019م) أبرز من حرر هذا الموضوع من المعاصرين، وقد بذل جهده لاستنطاق الدلالات القرآنية، إلا أن تعريفاته ليست بالضرورة تتوافق مع منطق القرآن الداخلي.

والمقال.. يحاول فهم معنى القرآن من خلال آياته، متجنباً قدر المستطاع الانسياح مع «النظام المفتوح» الذي تعومل به في فهم القرآن. ومقتصراً في الفهم بالرجوع إلى «نظامه المغلق»، دون تأويل مقحم من خارج منطقه. ولذلك.. ستقتصر قراءتي مفهومَ القرآن على الآيات التي نطقت صراحة بلفظ «القرآن»، وهذا لا يعني أنني لا آخذ بالدلائل الأخرى فيه، ولكن هذا يحتاج لمقدمات وقواعد لا يتسع المجال لإيرادها.

القرآن.. هو تلك الآيات التي أنزلها الله على نبيه محمد، لتكون هداية للناس، وهي الذكر الذي يشكّل بُنْية الكتاب، ومن هذا المنحى.. فلا فرق بين القرآن والكتاب والذكر، فكل الآيات هي كذلك، يقول الله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، فالكتاب.. الذي أنزله الله على أنبيائه أنزله على محمد «قرآناً عربياً»، وهو كتلك الكتب: (حَ‍قًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)، و(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).

والقرآن.. لا يوجد فيه اختلاف: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، لأنه لو وجد فيه اختلاف لدل على أن مصدره غير إلهي، أو أنه تعرض لتدخل بشري. وهو لم يكتفِ بتقرير ذلك، بل دعا إلى تدبره، والتدبر هو الفحص والاختبار بالميزان العقلي. ويقرر أيضاً بأنه لا يمكن أن يفترى من دون الله: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ)، وكونه تصديقاً لما بين يديه، وتفصيلاً للكتب المنزلة، يقتضي المقارنة بينها، للتحقق من صدق هذا البيان القرآني، و«الكتاب».. هنا تعييناً الكتب التي كانت موجودة في المجتمع الذي نزل فيه؛ زماناً ومكاناً، لأن هناك كتباً تنسب للأنبياء قد لا يصدّقها القرآن، وحتى المُصدَّقة؛ فيها ما اعتبره القرآن محرفاً ومبدلاً.

والنبي الكريم.. لم يكن يتصور أن القرآن سينزل عليه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)، فما فيه من قصص هو كغيره من الأحكام والتوجيهات والمواعظ من عند الله، وليس من النبي. وأمام هذا الحسم القرآني؛ يأتي بيان التحدي: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا). وعندما طالب البعض النبي بأن يأتي بقرآن آخر أو يبدله؛ طلب الله منه أن يقول لهم بأن القرآن وحي إلهي، وليس بمقدوره أن يبدّله، فضلاً أن يأتي بمثله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)؛ فالنبي.. ليس عنده كلام من الله غير الوحي القرآني، وهو وحده واجب الاتباع.

والقرآن.. لم ينزل دفعة واحدة، بل نزل متفرقاً: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)، لقد جاء إصلاحاً للوضع الإنساني، وهذا يقتضي أن يكون الإنزال متوافقاً مع الاحتياج الاجتماعي، حتى يتمكن الناس من استيعابه والعمل بمقتضاه. وحتى بعد نزوله متفرقاً لم يكل أمره للنبي، بل الله بنفسه «رتله ترتيلاً»، والترتيل.. وضعه في نسقه الذي أصبح عليه بجمعه من قِبَل الله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ).

لقد نزل القرآن متفاعلاً مع الناس من خلال تنجيمه، وكانت الآيات تنزل تحريماً وتحليلاً، موعظةً وإرشاداً، بحسب هذا التفاعل. فلم يكن معلّقاً في الفراغ، بل هو حركة دائبة في واقع الناس. ولا يمكن فهم منطقه دون فهم حركة الاجتماع الذي نزل فيه، ولذلك.. مُنِع المؤمنون أن يسألوا عن أشياء حتى لا ينزل بشأنها حكم يلزم الناس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)، فالتفاعل الاجتماعي هو سمة من سمات نزول القرآن، وبهذه السمة كان حياً في نفوس الناس، ودافعاً لهم إلى الحياة.

قال الله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وتثبيت الفؤاد يقتضي ألا يعجل النبي بتبليغ الآيات التي تنزل عليه حتى يكتمل ما أراد الله أن يوحي به إليه: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، فكل أمر القرآن بتدبير الله.

وأما وظيفة القرآن فهي الهداية الأقوم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، وقد أُنزل لكي يتعقل الناس: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، والتعقل.. شامل لآيات القرآن وآيات الكون، ولسائر أمور الحياة. وأنزل كذلك لأجل أن يتقي الناس: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، والتقوى.. فعل كل ما يرضي الله؛ وهو الخير، وتجنب كل ما يسخطه؛ وهو الشر. وقد جاء أيضاً للتذكّر: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا)، وهو حضور القلب لدواعي الإيمان بالله والعمل الصالح. ولتحقيق هذا التذكر فقد صرّف الله فيه من كل مثل يحتاج الناس إليه: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). وقد أنزل الله القرآن للمؤمنين شفاءً من الضلالة ورحمةً من العذاب: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)، وهو هداية للناس إلا الظالمين؛ يزيدهم خساراً لإعراضهم عنه. والقرآن.. لم ينزل ليشقى النبي أو يشقى الناس بشريعته: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، فكل الأحكام المستنبطة منه ينبغي أن تكون يسيرة.

هذا العرض لمفهوم القرآن ليس جديداً على المسلمين، وإنما تكمن المشكلة في عدم تطبيقه، فأغلبهم ينطلقون بفهوم بنتها منظومات تراثية تنتمي إلى التاريخ واجتماعه، أكثر من انتمائها إلى القرآن وهديه، حتى كاد تنطبق عليهم شكوى الرسول: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).

• خميس العدوي مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب "السياسة بالدين".