منذ تشكل النظرية "المالتوسية" ولا تزال الجدلية التاريخية التي تُطرح إزاء العلاقة بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي واحدة من أكثر جدليات الديموغرافيا الاقتصادية تجددًا عبر التاريخ، وهي تطرح في المفاصل التي تتعرض فيها الاقتصادات لنكسات أو تحولات جذرية، وبحلول الأزمة المالية العالمية 2008 وبعدها أزمة أسعار النفط منتصف العقد الفائت وصولًا إلى الجائحة وتداعيات الصراع الاقتصادي اللاحق في النظام العالمي تقدمت هذه الجدلية خطوة أخرى للأمام متلخصة في أسئلة من قبيل هل هناك رقم (أنسب) للنمو السكاني يمكن المراهنة عليه بوصفه متكيفًا مع احتياجات النمو الاقتصادي؟ أو في سؤال هل يدعم النمو السكاني النمو الاقتصادي؟ وهل يدعم النمو السكاني بالضرورة زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي؟

في تقديرنا فإن هذه الجدلية لن تنتهي ذلك أن الديموغرافيا هي المختبر الكبير بالنسبة للسياسات في مختلف أشكالها، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمالية، وهي أهم محك يمكن من خلال عبر الدرس والتحليل التأكد من صواب تأثير السياسة العامة سواء في تحقيق مقاصدها أو في فشلها عن ذلك. ونعتقد أن واحدة من الأعطاب المنهجية التي تواجه مسألة فهم القضية الديموغرافية هو إما النظر إلى الكتلة السكانية (الكلية) بما فيها اضطراد النمو والزيادة السكانية بوصفها (عبء) أو النظر الفئوي إلى فئات عمرية كالسكان في سن العمل أو الأطفال أو الشيخوخة والانغماس في قضايا تلك الفئة بوصفها (أعباء) ضاغطة على السياسة العامة بما فيها السياسة الاقتصادية وسياسة التشغيل والتعليم والتأمين الاجتماعي وسواها من السياسات القطاعية المتصلة بكل فئة من هذه الفئات. وهذا ينسحب لاحقًا على خيارات السياسة العامة فإما أن تذهب باتجاه فرض القيود على الزيادة السكانية بأدوات وأساليب مختلفة، وإما أن تترك للدورة الديموغرافية الطبيعية مسارها الطبيعي بما يمكن أن يولده من مخاطر أو انفجارات أو يخلفه من أعباء وترهلات على إدارة الموارد السكانية والطبيعية من ناحية أخرى.

في دراسة أعدها جاكوب بيغو سيبي وسيزير شياتشوا وماري نويل ميجن بعنوان "The Long Run Relationship between Population Growth and Economic Growth: a Panel Data Analysis of 30 of the most Populated Countries of the World" حاولت تقيِّيم العلاقة طويلة المدى بين النمو السكاني ونمو دخل الفرد في مجموعة من 30 دولة من أكثر البلدان اكتظاظًا بالسكان في العالم خلال فترة 53 عامًا. حيث تمثل البلدان عينة الدراسة 78٪ من إجمالي سكان العالم. خلصت الدراسة إلى أن النمو السكاني يلعبُ دورًا محفزًا للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. تبلغ سرعة تعديل النمو الاقتصادي للنمو السكاني 35.6٪ خلال عام واحد. وهو ما يعني أن الدول التي استطاعت خلال الفترة التاريخية المحددة مضاعفة نمو عدد السكان فيها استطاعت على الجانب الآخر تحقيق نمو مواز في اقتصادها. ومن جانب آخر فإن هذه النتيجة تعارضها الأبحاث التي يجريها مركز النمو الدولي IGC عبر عدة عقود والتي خلصت إلى أن:

- الآثار السلبية للنمو السكاني السريع في الفترة السابقة تم إخفاؤها من خلال الاقتصاد العالمي المزدهر وانخفاض معدل الوفيات الذي حدث مصاحبًا للنمو الاقتصادي السريع.

- التغيير في التركيبة العمرية يخلق فرصة سانحة يمكن خلالها لأي بلد أن يرفع مستوى مدخراته واستثماراته.

إذن ما هو الخيار الأمثل بالنسبة لنا؟ في الحقيقة لا يوجد خيار أمثل وإنما هناك عاملين أساسيين يمكن أن يلعبا دورًا في تحديد شكل السياسة السكانية التي يمكن لأي بلد أن يتوخاها: العامل الأول هو عامل اللحظة، في تقديرنا لا يمكن اليوم المراهنة على احتياجات اللحظة الراهنة وحدها فيما يتعلق برسم السياسة السكانية، السياسات السكانية عمومًا هي من السياسات التي تحتاج إلى النفس الطويل في جني ثمارها، وليس ذات مفعول لحظي آني، وبالتالي فإن تحديد الاحتياجات الفعلية من سؤال: ماذا نريد من الكتلة السكانية؟ وماذا نريد لهذه الكتلة السكانية؟ يقتضي استشراف دقيق لمتغيرات عدة ليست فقط محصورة على اللحظة الديموغرافية وإنما ممتدة لمستقبل الموارد والتقانة وبنى الاقتصاد الكلي والفرص العالمية ومتغيرات الهجرة وحالة المواطن العالمي والالتزامات والقيود والتحالفات الدولية وفرضياتها. أما العامل الآخر فهو تخير المدخل المناسب لاختيار شكل السياسة السكانية الأمثل وفي الحالة الخليجية على سبيل المثال فإن المدخل الاقتصادي المتصل بقدرة الاقتصادات على احتواء النمو السكاني وتلبية الاحتياجات المتزايدة ومضاعفة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي واحتواء كتل السكان في سن العمل هو المدخل الذي يؤطر ملامح السياسة السكانية خاصة في ظل "قلق الموارد" وعليه فإن الخيارات التي يجب أن تؤطرها هذه السياسة ليست فقط في التحكم في الخصوبة أو الزيادة السكانية بقدر ما تحتاج إلى توسيع الأفق للتفكير في خيارات من قبيل: السياسات الداعمة لنمو انتاجية الأفراد في الاختصاصات وحقول العمل المختلفة – السياسات الاقتصادية الحافزة لنمو وتوطين الصناعات والانتاج المحلي – السياسات التي تتجاوز إطار النظر المركزي لتهيئة أقاليم مستوعبة لسكانها ومدمجة للكتلة السكانية في عمليات الانتاج والتنمية وقادرة على توطين تلك القدرات وعموم الكتلة السكانية في الانتاج المحلي والحد من الهجرة إلى المركز – السياسات الداعمة لإصلاح وتجويد التعليم وتوسيع نطاق الكفاءات الوطنية وتعميق الاختصاصات ومواكبتها لمتطلبات الانتاج الاقتصادي والتنموي.

العنصر الثقافي أيضًا ذو أهمية بالغة في هذا السياق، السياسات السكانية المتصادمة مع البناء الثقافي بشكل مباشر قد تنتج أضدادها في السياق الاجتماعي، تَبين المداخل الثقافية للتغيير ضرورة قصوى. في معرض دراسته لتجربة سنغافورة في إدارة السياسات الديموغرافية يقول بوو لين تان: "إن تناول مسألة معدل الخصوبة قد يتطلب مواجهة بعض مواطن الضعف في النظام الثقافي الأساسي، مما لا يعني التصدي للتحديات الديمغرافية فحسب، ولكن أيضا إمكانية المساعدة على بناء التماسك الاجتماعي أو المواقف الثقافية السليمة تجاه الإقبال على المخاطرة".