في استعراضه لـ (مشروع القيمة الثقافية)، يحاول مجلس بحوث الفنون والعلوم الإنسانية (AHRC) البريطاني، فهم قيمة الفنون والثقافة من حيث الفرق الذي تُحدثه للأفراد والمجتمع، من خلال الربط بينها وبين التجارة والصناعة. فالتقرير الذي قدَّمه المجلس بشأن المشروع يُقرُّ بالاعتراف الدولي بـ "أن الأموال التي يتم إنفاقها على الصناعات الإبداعية أمر حيوي في دعم الثقافة للأمة، بالإضافة إلى خلق نمو اقتصادي حقيقي ووظائف عدة"، فالعالم ينظر إلى الأمم عن طريق هُويتها التي تؤسسها الثقافة وتساعد في نموها وتطويرها حضاريا.

لقد قدمت العديد من دول العالم الثقافة باعتبارها محورا للاستثمارات ذات القيمة المرتفعة؛ حيث تسهم في التطور الاجتماعي والاقتصادي معا، ولهذا فإن صُنَّاع السياسات يحرصون على إدراج الإنفاق على الثقافة ضمن الخطط الإنمائية، إضافة إلى ما تقدمه المنظمات الثقافية من محاولات لإثبات أهمية الاستثمار في قطاعات الثقافة والعائدات الاجتماعية لهذا الاستثمار. ولعل ما مرَّ به العالم خلال السنوات الثلاث الأخيرة من النواحي الاقتصادية، عزَّز أهمية النظر إلى الثقافة باعتبارها (قيمة). ولهذا فإن تقرير مجلس بحوث الفنون يكشف أهمية البحوث في مجالات الثقافة والفنون والرؤى التاريخية واللغوية، التي يقوم عليها الاستثمار في الصناعات الإبداعية، فالعالم (سيشهد عقدا قادما من الطلب المتزايد على مثل تلك البحوث)، نتيجة للازدهار العالمي في الصناعات الإبداعية والثقافية.

استند (مشروع القيمة الثقافية) إلى هدفين أساسيين هما "تحديد المكونات المختلفة التي تشكِّل القيمة الثقافية"، والثاني "دراسة وتطوير المنهجيات والأدلة التي يمكن استخدامها لتقييم هذه المكونات ذات القيمة الثقافية"، وبالتالي فإن دراسة القيمة للفنون والثقافة ينبثق من ضرورة إعادة وضع التجارب المؤسسية والفردية القائمة، سواء أكانت مدعومة أو استثمارية؛ ذلك لأن الأمر هنا لا يتعلق بالممارسة بقدر تعلُّقه بنتائج تلك الممارسات على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، والأكثر من ذلك هو أن موضوع القيمة لا يتضمن "التأثير الاقتصادي بل القدرة على الابتكار والإبداع اقتصاديا" ـ بحسب تقرير المشروع ـ.

إن التفكير في (القيمة الثقافية) يقوم على تلك الطريقة التي (يختبر) بها الناس تفاعلهم مع الفنون والثقافة باعتبارهما ركيزة أساسية لمعاني الإنتاج والاستهلاك؛ فالإنسان يُنتج ثقافته ويمارسها ضمن مجموعة من المعطيات الاجتماعية والدينية التي تفرض معايير ذلك الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي يكون موضوع القيمة بناء لمجموعة من الممارسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية القائمة على إنتاج إبداعي قادر على (الترقية) الإنتاجية والمشاركة المجتمعية الفاعلة، وبالتالي سيكون علينا تقييم القيمة الثقافية من خلال تلك القدرة.

لا يعتمد تقييم القيمة الثقافية على الإمكانات الاقتصادية للفنون والثقافة وإبداعها والابتكارات المرتبطة بها وحسب، بل أيضا على قدرتها على تشكيل الخطاب المجتمعي الثقافي الذي يعكس قيم المجتمع وأعرافه، وبالتالي قدرته على الصمود في وجه المتغيرات والتيارات المتناقضة التي يواجهها. إنها قدرته على الحفاظ على هُويته ورؤيته الثقافية ضمن تفاعله مع تلك التيارات، والقدرة على تشكيل آفاق جديدة متوازنة قائمة على الجودة والاستدامة.

والحق أن سلطنة عُمان حرصت منذ نهضتها الحديثة على تمويل الثقافة باعتبارها قطاعا إنمائيا له أهمية كبيرة في التنمية الوطنية، سواء من حيث تأسيس المنشآت الثقافية أو تأهيل الكوارد الوطنية ورعاية المبدعين، أو من حيث التنظيم التشريعي، حتى أصبحت عُمان اليوم من بين الدول التي يُشهد لها بالريادة في العديد من مجالات الثقافة على مستوى العالم، ولهذا فإن ما تم إنجازه في هذا القطاع الحيوي يحتاج إلى تقييم (قيمته الثقافية)؛ ذلك لأن ما قدمته الدولة خلال العقود الماضية قد شكَّل الأساس القوي الذي يمكن أن تقوم عليه العديد من الممارسات الثقافية الفردية أو المؤسسية، إضافة إلى كونه الركيزة التي يمكنها تشكيل جوهرا لاتساع المشاركات الثقافية سواء على مستوى الإبداع أو الاستثمار فيه.

وإذا كان موضوع القيمة الثقافية يقوم على الإمكانات البحثية في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من مجالات ثقافية من ناحية وعلاقاتها البينية مع مجالات التجارة والاقتصاد من ناحية أخرى، فإن ما تقوم به المؤسسات الأكاديمية والثقافية، إضافة إلى البحوث الفردية للباحثين والأكاديمين، كفيلة لأن تكون قاعدة انطلاق يمكنها أن تؤسس لما يُطْلِق عليه تقرير مجلس بحوث الفنون والعلوم الإنسانية البريطاني بـ (التجارة الثقافية)، التي تقوم على الإنفاق على البحوث والدراسات العلمية في مجالات الثقافة وعلاقاتها البينية، وتحويل نتائج تلك البحوث والدراسات إلى (قيمة ثقافية) من خلال الدعم والاستثمار.

إن قيمة الدراسات والبحوث لا يُقاس بنشرها باعتبارها معرفة، وإنما بنتائجها ومردودها القائم على (القيمة) التي تضيفها وطنيا، ولهذا فإن العمل على الاستفادة من البحوث المعرفية التي تُقدم رؤية ثقافية ومبادرات تنفيذية، يُعد من أهم المنطلقات التي يمكن أن تؤسس لإمكانات الاستفادة من مجالات الثقافة، إضافة إلى أهمية تشكيل الفرق البحثية القائمة على الأولويات الوطنية، والمتسقة مع الرؤى التنموية المحلية؛ بحيث تُنتج بحوثا تحمل (القيمة الثقافية) التي يمكن رؤيتها على أرض الواقع، والتي يمكنها أن تفتح آفاقا اقتصادية للأفراد والمؤسسات وبالتالي قيمة اقتصادية مضافة للوطن.

يُصرِّح تقرير (قيمة الثقافة والصناعات الإبداعية في التنمية المحلية) الصادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) الفرنسية، بأن "الثقافة من بين اللبنات الأساسية لمستقبل أوروبا"، ولهذا فقد اتَّبع "صانعو السياسات والممارسون على حد سواء أجندة تنمية محلية ترى في المقام الأول مبادرات تهدف إلى دعم تطوير قاعدة قوية للقطاع الثقافي" ـ على حد تعبيره ـ ؛ فالرفاه الاجتماعي والتماسك والتعليم بمختلف مجالاته، إضافة إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي كلها قطاعات تكشف قدرة الثقافة باعتبارها (قيمة) على تعزيز الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية والمكانية الحضرية. ومن هذا المنطلق فقد أقرَّ البرلمان الأوروبي (سياسة الاتحاد الأوروبي المتماسكة للصناعات الثقافية والإبداعية)؛ وهي سياسة تقوم على دمج الثقافة في التخطيط الحضري منذ البدء؛ بحيث يتم النظر إلى الثقافة باعتبارها (قيمة) اجتماعية واقتصادية فهي ليست كـ (الكرز على الكعكة) ـ بتعبير التقرير ـ. إنها مكوِّن أساسي للتنمية الوطنية، وبالتالي فإن موقعها هو قلب الرؤى والاستراتيجيات.

إن (القيمة الثقافية) التي تنشأ من الشراكة بين القطاعات والدراسات البحثية يمكنها الاستمرار في الحياة من خلال قيمة مستدامة تنشأ من المُنتَج نفسه؛ كالعلاقة بين مجالات الإعلانات والتصميم المُستلهمة من المعارض الفنية والمتاحف، أو تلك التي تدفع قارئ نصا إبداعيا أو تاريخيا لزيارة بلد بعينها، أو العلاقة بين الرسامين وكُتَّاب السرد في إنتاج نصوص مرئية، أو غيرها من العلاقات التي تجعل من القيمة الثقافية إنعكاسا إيجابيا لتعبئة الثقافة ومردودها المحلي.

ولهذا فإننا إذا ما أردنا تقييم (القيمة الثقافية) فإن علينا النظر إليها باعتبارها مكونا رئيسا في تطوير الأعمال، وبرامج الاستثمار وإيجاد توازن بين المهارات المعرفية والإنتاج الثقافي من ناحية، وبين الثقافة المجتمعية والإمكانات الإبداعية من ناحية ثانية، وبين الواقع الاقتصادي ومتطلبات الابتكار والأنشطة الثقافية من ناحية ثالثة، للوصول إلى القيمة الثقافية والإبداعية القائمة على المعرفة والاستفادة من الموروث الحضاري الذي يميِّزنا، والمُنجز الثقافي المعاصر الذي اكتسبناه.