عالمنا الراهن يموج بالصراع وبكل أشكال العنف والعدوان. ولا أمل في نجاة هذا العالم من دائرة الرعب إلا من خلال إقرار منظومة أخلاقية تحكم سياساته وجموحه، بحيث يتم إقرارها والالتزام بها في سائر المؤسسات الدولية التي تدير شؤون العالم. وربما يُقَال هنا: إن شؤون السياسة والاقتصاد تقوم بطبيعتها على المصالح لا الأخلاق؛ ومن ثم فلا معنى للحديث عن الأخلاق في سياق لا علاقة له بالأخلاق. ولكننا لو تأملنا الأمر في عمقه لوجدنا أن المصالح نفسها لا تتعارض مع الأخلاق، إن لم تكن هذه المصالح مدفوعة بإرادة شريرة، أي بنوايا غير خيرة. ويكفي أن نلاحظ هنا- بشكل عارض- أن المؤسسات الخاصة والشركات في البلدان المتقدمة، قد فطنت إلى أهمية إقرار مواثيق أخلاقية ملزمة، وإلى أن هذه المواثيق نفسها تسهم في تطوير أدائها، ومن ثم العمل على تحقيق مصالحها في النهاية. يحدث هذا على مستوى المؤسسات الاقتصادية والتجارية والمهنية المختلفة التي شرعت مواثيقها الأخلاقية في مجال أخلاقيات التجارة وأخلاقيات التكنولوجيا وأخلاقيات الطب، وما يدخل في إطار "الأخلاقيات المهنية" بوجه عام. وإذا كان هذا يحدث على مستوى المؤسسات المهنية والاقتصادية الصغرى، فأولى به أن يتحقق على مستوى المؤسسات الدولية التي تدير شؤون العالم وتُشرِّع لها القوانين. وأظن أن هذا لن يحدث بمقتضى منطق العقل وإنما وفقًا لمنطق المصالح نفسها، أعني: أن هذا العالم نفسه لا بد أن يؤمن بأنه لا نجاة له، ما لم يلزم نفسه بقيم أخلاقية. ولعل متغيرات السياسة الراهنة تبرهن بوضوح على هذه الضرورة، وهذا ما نوهت إليه في مقال سابق لي بعنوان "فلسفة الحرب وأخلاقياتها".

وربما يعترض البعض على هذا الطرح بالقول: إن القيم الأخلاقية نفسها تكون- كغيرها من صنوف القيم- نسبية متغيرة، أي تتوقف على الزمان والمكان. وهذا اعتراض شائع وقديم؛ قد ردده من قبل أحد فلاسفة الأخلاق بقوله: "إن الحق والخير والجمال هي قيم تتوقف على خطوط الطول والعرض"، وهذا يعني أن القيم نسبية متغيرة تتوقف على العصر والمكان الذي ينشأ فيه المرء. ولكن مثل هذا القول غافل أو متغافل عن التمييز بين القيمة وتجليات أو تطبيقات القيمة التي ترتبط بسياق زماني مكاني ما؛ فهذه التطبيقات تدخل في إطار الشرائع أو القواعد والقوانين التي تُوجد في إطار زماني ما، سواء من خلال التشريعات الدينة أو التشريعات القانونية الوضعية. لنضرب على ذلك مثالًا، لعله يضيء المعنى المقصود هنا: الشريعة الإسلامية تبيح مبدأ تعدد الزوجات، وهو ما لا تبيحه ديانات ومعتقدات أخرى؛ فهل يعني ذلك نسبية القيمة الأخلاقية؟ كلا.. ذلك أن مبدأ تعدد الزوجات لا يمثل في حد ذاته قيمة أخلاقية، وإنما هو تشريع قانوني يستند إلى تشريع ديني في دولة أو مجتمع إسلامي ما. ولذلك، فإن جدارة هذا التشريع تتعلق بمدى توافقه أو عدم تعارضه مع قيم أخلاقية أخرى، وهو ما يقتضي فهم ضوابطه وشروطه وحسن تأويلها. ولنضرب مثالًا آخر على ضرورة التمييز بين القيم وتطبيقاتها: لنتأمل قيمة "الصدق" في حياتنا: لنفترض أن شخصًا ما قد عِلم بوفاة مفاجئة لأم صديقه أو أبيه، ولكنه لم يشأ أن يخبر صديقه بهذه الحقيقة مباشرةً، كي يتجنب وقع الصدمة المفاجئة عليه. هل نقول في هذه الحالة إن هذا الشخص كان ينبغي عليه أن يقول الحقيقة إعمالًا لقيمة الصدق التي هي من القيم العليا؛ ومن ثم فإنه يخالف هذه القيمة؟ كلا؛ لأن الشخص في هذه الحالة يكسر القيمة من أجل قيم أخلاقية أخرى: كالشفقة والرحمة؛ وهذا ما نسميه في حياتنا اليومية "الكذب الأبيض" (وإن كانت هذه العبارة ترد على لسان البعض ممن يريدون تبرير كل أشكال مخالفتهم لقيمة الصدق، حتى إن كانت مدفوعة بدوافع غير أخلاقية).

ويمكننا الآن أن نتساءل: إذا كانت القيم الأخلاقية متعددة، كالعدالة والصدق والوفاء والكرم والشهامة، فهل هناك تراتب بين هذه القيم؟ هل هناك قيمة أخلاقية تعلو على غيرها وتجبَّها، بحيث لا يمكن لأية قيمة أخرى أن تتعارض معها، بل يتعين عليها الالتزام بها؟ هذا هو السؤال الذي سألته إحدى طالباتي النابهات يومًا ما. تأملت وتدبرت، وانتهيت إلى القول بأن هذه القيمة هي: العدالة. فمن دون هذه القيمة يسود الظلم وسائر الشرور الأخرى المقترنة به. هذه القيمة العليا هي ما ينبغي أن تكون غايةً للأفراد والدول على السواء؛ ومن ثم للمؤسسات الدولية ذاتها. ذلك أننا نلاحظ أن الدول الكبرى- التي تؤثر على هذه المؤسسات الدولية- تؤمن بالعدالة وتسعى إلى تحقيقها، ولكنها غالبًا ما تحقق ذلك في إطار شعوبها وقوانينها الخاصة بها، بينما لا تعبأ بتحقيق ذلك على المستوى العالمي، بل إن بعضها يساهم في توقيع الظلم والأذى بدول وشعوب أخرى، ولنا في واقعنا العربي شواهد عديدة على ذلك لا حصر لها.

خلاصة القول من هذا كله أن القيم الأخلاقية ضرورة في حياة الأفراد والدول على السواء، وهذا ما فطنت إليه حكمة الحضارات القديمة.

* سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ومؤلف كتاب "ماهية اللغة وفلسفة التأويل"