ليست الدولة وحدها هي الكيان الذي ينهار أو يتحول -في أحسن الأحوال- إلى سلطة مفرغة بمجرد اغتصاب سيادته، إنما اللغة أيضاً. بل إن سيادة الدولة تعبر في نفس الوقت عن سيادة لغتها القومية، فلا لغة بلا سيادة، وبالتالي لا دولة ولا وطن. هذه هي الحقيقة التاريخية الشاهدة على صعود الأمم وأفولها، منذ أن نطق الإنسان لأول مرة وسمى الأشياء بأسمائها. وهي الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها اليوم عند الحديث عن أزمة اللغة العربية الراهنة، الأزمة التي تُعبِّر عن واقع عربيّ متأزم على كل صعيد، مع خشيتي من أن تتحول كلمة "أزمة" مع مرور الوقت إلى إحدى مفردات تبريح الذات، لفرط ما أدمنا تكرارها في سياقنا العربي المكتظ بالأزمات. وبالنسبة للبعض، قد يبدو الحديث عن أزمة اللغة العربية مكروراً ومثيراً للملل، أو أشبه بالنفخ في بركة آسنة؛ وهو أمر يكشف في الواقع عن أزمة أخرى، وهي اعتمادنا على الملل في محاولة الشفاء من الأزمات العصية والأسئلة المعقدة، لا بمواجهتها. وهذا بالضبط ما يفسر تأفف الأجيال المتأخرة من نبرة التأنيب التقليدية المنادية بالعودة إلى اللسان العربي.
لا شك أننا في زمان ومكان من التاريخ حيث ترتهن مختلف شؤون الحياة الإنسانية إلى مجريات العمل السياسي، الدولي والمحلي. فلا يمكن أن يبدأ الحديث عن التعليم أو الصحة مثلاً إلا وينتهي عند الماضي والحاضر السياسيين. لذلك فإنني أنظر إلى الأزمة التي تعيشها اللغة العربية اليوم بوصفها أزمة سياسية في المقام الأول، ومنها تتفرع الأسباب والتداعيات إلى التعليم والإعلام والأسرة... إلخ. فكيف لنا أن نذهب في مناقشة أزمة لغة الضاد متفادين النظر في المأزق السياسي الذي يرزح تحت ظلاله الناطقون بهذه اللغة من المحيط إلى الخليج؟
هي "لغة حضارة" كما عُلِّمنا في المدارس. ولأنها كذلك؛ فاللغة العربية أمست أولى ضحايا هزيمة هذه الحضارة في مخاض "العولمة" التي أثبتت حصريتها في المفهوم الأمريكي. دون أن يستبطن هذا القول أي إشارة إلى وجود مؤامرة مزعومة، بل يفسر ببساطة المآل الكلاسيكي لعلاقة المغلوب بالغالب التي وقف عليها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". ومن وحي هذه العبارة الخلدونية يمكننا استيعاب أولى بوادر الخلل في علاقتنا بهذه اللغة، وأجزم أن مبعث الخلل يكمن في اضطراب الثقة بين الإنسان العربي ولغته. وتتلاشى الثقة بالعربية مع وجود بديل لغويّ أكثر سطوةً ونفوذاً، تطرحه اللغة الإنجليزية في المشرق العربي، أو الفرنسية التي يروج لها دعاة الفرنكفونية في المغرب. وعلى الرغم من كون الإنجليزية والفرنسية لغتين استعماريتين (وهذا اعتقاد شخصيٌّ ما زلت أعتقده) إلا أنهما تحظيان باحترام وإعجاب رسمي واجتماعي، وتتمتعان، من قَبلُ ومن بعدُ، بسيادة واثقة مستمدة من عواصمها التقليدية، في فرنسا وبريطانيا وأمريكا. وعلى هذا النحو، فإني أعتقد بأن العربية في هذا القرن أصبحت تعيش حالة من الاستعمار اللغوي الناعم، بعد أن قاومت في الماضي القريب الوجه الشرس للاستعمار المباشر.
إن تلاقح اللغات وتداخلها مسألة حيوية وطبيعة، تثري اللغة الأصلية وتطورها. والتاريخ المشترك بين العربية والفارسية خير برهان على ذلك. والمثل الإنجليزي يقول: ." A pure language is a poor language"، أي أن اللغة النقية لغة فقيرة.
لكن واقعنا اللغوي يعكس تغطرس لغة أجنبية حلت محل العربية بشكل نهائي وتام في حقول ومجالات أساسية. فأمست الإنجليزية هي لغة العلم والتعليم في الجامعات والمدارس الخاصة ببلادنا (وحتى الحكومية أحياناً بالنسبة لبعض البلاد العربية)، ولغةً لسوق العمل والإدارة في مرحلة ما بعد التعليم. فيما حُشرت اللغة العربية في أضيق الزوايا، وحُصرت لتكون لغةً لخُطب الجمعة والصلوات والتراث. حتى الأدب العربي، فخر اللغة العربية وأجمل إبداعاتها من بعد التنزيل، فقد هاجرت الكثير من أقلامه صوب لغات أجنبية، وأصبح مألوفاً أن نطالع مقالات ونقرأ في دراسات نقدية عن "أدب عربي" مكتوب بالإنجليزية أو الفرنسية! واليوم، لا يخلو بيت عربي ربما من صورة مصغرة لهذا التدافع الكوني بين اللغات وثقافاتها. فالآباء والأمهات في صراع مع الأبناء من أجل تلقينهم الإنجليزية، لضمان مستقبل آمن لهم في سوق العمل، وبعضهم يؤثِر الحديث بالإنجليزية في البيت، في سبيل تلك الغاية، قاضياً على تلك المساحة الأليفة التي تتربى فيها اللغة الأم وتتطور عند الطفل.
أتذكر سنتي الجامعية الأولى، عندما التحقت بجامعة السلطان قابوس طالباً في كلية الهندسة. ففي الوقت الذي كنت فيه بين طلاب عمانيين في جامعة عمانية، كان الأستاذ العماني يحاضرنا بالإنجليزية! استغرقني الأمر أشهراً في محاولة الانسجام مع هذا التباين الفج بين الهوية الموحدة التي ننتمي إليها كلنا ولساننا المقتطع من شجرة أجنبية. نحن نتحدث إذن عن قلق في الهوية لدى الطالب الجامعي، لا يمكن علاجه إلا من خلال تعريب التخصصات العلمية في الجامعات العربية، وهي مسألة يجب التعامل معها باعتبارها ضرورة قومية مُلحة، فالنظام التعليمي المرهون بقوانين السوق يحرم المرء من مزاولة حياته العلمية والمهنية التي يستحقها من خلال لغته الأم، في وطنه ووطن لغته الأصلي. أفلا تعبر هذه الحقيقة عن اضطهاد سياسي مُقنَّع تكرسه منظومة من القوانين والأوهام الثقافية والاجتماعية الزاهدة في معجم العربية، والمشرئبة في اللحظة ذاتها بإعجاب إلى "اللغات المتفوقة"؟ وهل سيحين حين من الدهر يصبح فيه العرب الناطقون باللغة العربية في محفل عام أقليات في أوطانهم؟
من الملام إذن؟ لطالما تحاشيت هذا السؤال لأسباب عديدة: أولاً، لأن اللغة هي ملكية عامة من وجهة نظري، وهذا يعني أنها قضية الجميع، في حين أنها ليست قضية أحد بعينه، تماماً كما لو كنا نتحدث عن قضية تتعلق بحماية البيئة. وثانياً، لأنني لستُ من المتحمسين لإلقاء اللوم على النظام السياسي، وأعتقد أن اتهامه التقليدي بمسؤوليته عن هذه القضية يوحي بالكسل والتواكل. المسؤولية تتقاسمها كل مكونات المجتمع. وأدوات المعرفة العصرية توفر مساحة كافية لتطوير الوعي الفردي، بأساليب فردية، تجاه اللغة العربية، تجعل من الفرد الأعزل شريكاً في هذه المسؤولية. كما أن الحكومات العربية مطالبة بالوفاء بالمادة الدستورية التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد. وعلينا أن نتذكر أنه ليس للمرء من لسانين، ومهما كتبنا وتحدثنا بلغات الغرباء فإننا لن نتكلم في أحلامنا بغير لغتنا الأم. كما لا يمكننا الذهاب إلى مستقبل حقيقي وغير مزيف إلا عبر جسر اللغة العربية.
• سالم الرحبي شاعر عماني
لا شك أننا في زمان ومكان من التاريخ حيث ترتهن مختلف شؤون الحياة الإنسانية إلى مجريات العمل السياسي، الدولي والمحلي. فلا يمكن أن يبدأ الحديث عن التعليم أو الصحة مثلاً إلا وينتهي عند الماضي والحاضر السياسيين. لذلك فإنني أنظر إلى الأزمة التي تعيشها اللغة العربية اليوم بوصفها أزمة سياسية في المقام الأول، ومنها تتفرع الأسباب والتداعيات إلى التعليم والإعلام والأسرة... إلخ. فكيف لنا أن نذهب في مناقشة أزمة لغة الضاد متفادين النظر في المأزق السياسي الذي يرزح تحت ظلاله الناطقون بهذه اللغة من المحيط إلى الخليج؟
هي "لغة حضارة" كما عُلِّمنا في المدارس. ولأنها كذلك؛ فاللغة العربية أمست أولى ضحايا هزيمة هذه الحضارة في مخاض "العولمة" التي أثبتت حصريتها في المفهوم الأمريكي. دون أن يستبطن هذا القول أي إشارة إلى وجود مؤامرة مزعومة، بل يفسر ببساطة المآل الكلاسيكي لعلاقة المغلوب بالغالب التي وقف عليها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". ومن وحي هذه العبارة الخلدونية يمكننا استيعاب أولى بوادر الخلل في علاقتنا بهذه اللغة، وأجزم أن مبعث الخلل يكمن في اضطراب الثقة بين الإنسان العربي ولغته. وتتلاشى الثقة بالعربية مع وجود بديل لغويّ أكثر سطوةً ونفوذاً، تطرحه اللغة الإنجليزية في المشرق العربي، أو الفرنسية التي يروج لها دعاة الفرنكفونية في المغرب. وعلى الرغم من كون الإنجليزية والفرنسية لغتين استعماريتين (وهذا اعتقاد شخصيٌّ ما زلت أعتقده) إلا أنهما تحظيان باحترام وإعجاب رسمي واجتماعي، وتتمتعان، من قَبلُ ومن بعدُ، بسيادة واثقة مستمدة من عواصمها التقليدية، في فرنسا وبريطانيا وأمريكا. وعلى هذا النحو، فإني أعتقد بأن العربية في هذا القرن أصبحت تعيش حالة من الاستعمار اللغوي الناعم، بعد أن قاومت في الماضي القريب الوجه الشرس للاستعمار المباشر.
إن تلاقح اللغات وتداخلها مسألة حيوية وطبيعة، تثري اللغة الأصلية وتطورها. والتاريخ المشترك بين العربية والفارسية خير برهان على ذلك. والمثل الإنجليزي يقول: ." A pure language is a poor language"، أي أن اللغة النقية لغة فقيرة.
لكن واقعنا اللغوي يعكس تغطرس لغة أجنبية حلت محل العربية بشكل نهائي وتام في حقول ومجالات أساسية. فأمست الإنجليزية هي لغة العلم والتعليم في الجامعات والمدارس الخاصة ببلادنا (وحتى الحكومية أحياناً بالنسبة لبعض البلاد العربية)، ولغةً لسوق العمل والإدارة في مرحلة ما بعد التعليم. فيما حُشرت اللغة العربية في أضيق الزوايا، وحُصرت لتكون لغةً لخُطب الجمعة والصلوات والتراث. حتى الأدب العربي، فخر اللغة العربية وأجمل إبداعاتها من بعد التنزيل، فقد هاجرت الكثير من أقلامه صوب لغات أجنبية، وأصبح مألوفاً أن نطالع مقالات ونقرأ في دراسات نقدية عن "أدب عربي" مكتوب بالإنجليزية أو الفرنسية! واليوم، لا يخلو بيت عربي ربما من صورة مصغرة لهذا التدافع الكوني بين اللغات وثقافاتها. فالآباء والأمهات في صراع مع الأبناء من أجل تلقينهم الإنجليزية، لضمان مستقبل آمن لهم في سوق العمل، وبعضهم يؤثِر الحديث بالإنجليزية في البيت، في سبيل تلك الغاية، قاضياً على تلك المساحة الأليفة التي تتربى فيها اللغة الأم وتتطور عند الطفل.
أتذكر سنتي الجامعية الأولى، عندما التحقت بجامعة السلطان قابوس طالباً في كلية الهندسة. ففي الوقت الذي كنت فيه بين طلاب عمانيين في جامعة عمانية، كان الأستاذ العماني يحاضرنا بالإنجليزية! استغرقني الأمر أشهراً في محاولة الانسجام مع هذا التباين الفج بين الهوية الموحدة التي ننتمي إليها كلنا ولساننا المقتطع من شجرة أجنبية. نحن نتحدث إذن عن قلق في الهوية لدى الطالب الجامعي، لا يمكن علاجه إلا من خلال تعريب التخصصات العلمية في الجامعات العربية، وهي مسألة يجب التعامل معها باعتبارها ضرورة قومية مُلحة، فالنظام التعليمي المرهون بقوانين السوق يحرم المرء من مزاولة حياته العلمية والمهنية التي يستحقها من خلال لغته الأم، في وطنه ووطن لغته الأصلي. أفلا تعبر هذه الحقيقة عن اضطهاد سياسي مُقنَّع تكرسه منظومة من القوانين والأوهام الثقافية والاجتماعية الزاهدة في معجم العربية، والمشرئبة في اللحظة ذاتها بإعجاب إلى "اللغات المتفوقة"؟ وهل سيحين حين من الدهر يصبح فيه العرب الناطقون باللغة العربية في محفل عام أقليات في أوطانهم؟
من الملام إذن؟ لطالما تحاشيت هذا السؤال لأسباب عديدة: أولاً، لأن اللغة هي ملكية عامة من وجهة نظري، وهذا يعني أنها قضية الجميع، في حين أنها ليست قضية أحد بعينه، تماماً كما لو كنا نتحدث عن قضية تتعلق بحماية البيئة. وثانياً، لأنني لستُ من المتحمسين لإلقاء اللوم على النظام السياسي، وأعتقد أن اتهامه التقليدي بمسؤوليته عن هذه القضية يوحي بالكسل والتواكل. المسؤولية تتقاسمها كل مكونات المجتمع. وأدوات المعرفة العصرية توفر مساحة كافية لتطوير الوعي الفردي، بأساليب فردية، تجاه اللغة العربية، تجعل من الفرد الأعزل شريكاً في هذه المسؤولية. كما أن الحكومات العربية مطالبة بالوفاء بالمادة الدستورية التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد. وعلينا أن نتذكر أنه ليس للمرء من لسانين، ومهما كتبنا وتحدثنا بلغات الغرباء فإننا لن نتكلم في أحلامنا بغير لغتنا الأم. كما لا يمكننا الذهاب إلى مستقبل حقيقي وغير مزيف إلا عبر جسر اللغة العربية.
• سالم الرحبي شاعر عماني