في مختلف أنحاء أوروبا، حفّز غزو روسيا لأوكرانيا إعادة النظر في كل أبعاد الأمن تقريبا، من الدفاع إلى الطاقة. غير أن الاهتمام الذي حظي به التأثير المحتمل الذي قد يخلّفه هذا الغزو على الأمن في شرق آسيا، وخاصة في تايوان واليابان، كان أقل كثيرا. لكن التحوّل القادم قد يكون على ذات القدر من العمق.
الواقع أن حرب أوكرانيا، على الرغم من كونها بعيدة، تشكّل خطرا بالغا على منطقة شرق آسيا. والصين تراقب الصراع -واستجابة الغرب له- عن كثب. إذا تكبدت روسيا ثمنا باهظا لأفعالها، مع استمرار العقوبات (التي فرضتها اليابان أيضا) لفترة كافية لتدمير اقتصادها، فقد يُـفضي هذا إلى إثناء الصين عن اتخاذ تدابير عسكرية ضد تايوان، على الأقل إلى أن تتمكن من ضمان توفير الحماية الكافية لاقتصادها. أما إذا كوفئت روسيا على غزوها، ونجحت في تنصيب حكومة صورية في كييف وتأمين تراجع العقوبات الغربية بسرعة نسبيا، فقد تكتسب الصين المزيد من الجرأة فتزيد من الضغوط التي تمارسها على تايوان، بل وقد تغزو الجزيرة في أقرب فرصة. وإذا فعلت ذلك، فقد تنجر اليابان إلى الصراع، لأن جزر سينكاكو التابعة لها -التي ادّعت الصين السيادة عليها منذ سبعينيات القرن العشرين- تقع على بُـعـد أقل من 140 ميلا عن تايوان. كما أشار رئيس الوزراء السابق شينزو آبي في ديسمبر الماضي، فإن «أي حالة طوارئ في تايوان هي حالة طوارئ في اليابان، وبالتالي فهي حالة طوارئ من منظور التحالف الياباني الأمريكي». لكن رد أمريكا على حرب أوكرانيا أوحى لكثير من اليابانيين بأن هذا التحالف ربما يكون في احتياج إلى تعزيز - وأن اليابان لا ينبغي لها أن تعتمد على الولايات المتحدة وحدها لضمان أمنها. وهذا يعني ضمنا إعادة النظر في بعض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الأمن الياباني- بدءا من الدستور السلمي الذي صيغ تحت إشراف الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك آرثر أثناء احتلال الحلفاء لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، على النحو الذي يضمن أن اليابان لن تشكّل تهديدا للآخرين بعد ذلك أبدا. شددت المادة التاسعة من الدستور على مُـسالَـمة اليابان بعد الحرب: «في تطلع الشعب الياباني بإخلاص إلى السلام الدولي القائم على العدل والنظام، فإنه يتبرأ إلى الأبد من الحرب كحق سيادي للأمة والتهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعليا كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية. وعلى هذا فلن تحتفظ اليابان أبدا بقواتها البرية والبحرية والجوية، فضلا عن أي إمكانات حربية أخرى. ولن يُـعـتَـرَف بحق الدولة في الدخول في أي حرب».
جرى تفسير المادة التاسعة بشكل أكثر تساهلا بعض الشيء أثناء الحرب الكورية، من أجل إعطاء اليابان بعض القدرة على الدفاع عن نفسها. في عام 1954، تم إنشاء قوات برية وبحرية وجوية محدودة، بموجب قانون قوات الدفاع عن الذات الجديد آنذاك.
مع ذلك، يفترض دستور اليابان بشكل أساسي أن التهديدات التي تتعرض لها اليابان ليست كبيرة بالقدر الذي يجعل من الضروري السعي إلى اكتساب قدرة عسكرية كبيرة. كما تنص ديباجته: «نحن، الشعب الياباني، نرغب في السلام الدائم وندرك تمام الإدراك الـمُـثُـل العليا التي تحكم العلاقات الإنسانية، ونحن عازمون على الحفاظ على أمننا ووجودنا، وكلنا ثقة في العدالة وفي إيماننا بشعوب العالَـم الـمُـحِـبة للسلام». (أضيفت تأكيدات أخرى).
بعبارة أخرى، إذا بقيت اليابان منزوعة السلاح، فلن تكون دول أخرى عُـرضة للتهديد من جانبها، ولن تهاجمها أي دولة أخرى. كان كثيرون من جناح اليسار في اليابان يرددون هذا المنطق، بحجة أن نزع السلاح والحياد يشكّلان معادلة للسلام. ولكن كما تُـظـهِـر الحرب في أوكرانيا، فليس كل شعوب العالم -أو على الأقل قادة هذه الشعوب- «مُـحِـبة للسلام». فإلى جانب قصف مناطق مدنية بلا هوادة، أعـلَـن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت مبكر من الصراع أنه وضع القوات النووية الروسية في حالة التأهب القصوى. دفع هذا الإعلان قسما كبيرا من العالَـم إلى حالة من التوتر الشديد، لكنه أصاب وترا عميقا بشكل خاص في اليابان -الدولة الوحيدة التي عانت من هجمات نووية. دأبت اليابان على معارضة وجود أي أسلحة نووية. لكن عددا متزايدا من الدول كان يعمل على تطويرها. حتى أن إحدى هذه الدولة، كوريا الشمالية، كانت تجري اختبارات على الصواريخ بشكل روتيني، وكانت صواريخها تهبط غالبا في بحر اليابان. أوكرانيا ليست عضوا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنذ عام 1994، كانت تفتقر إلى أي رادع نووي خاص بها. علاوة على ذلك، أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه غير مستعد للمخاطرة بالدخول في صِـدام عسكري مباشر مع روسيا، من خلال إنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا على سبيل المثال.
وقد أثارت هذه المخاوف احتمال رفض الولايات المتحدة على نحو مماثل الدفاع عن اليابان، في حال تعرّضت لهجوم من قِـبَـل قوة نووية - سواء كانت روسيا، أو الصين، أو كوريا الشمالية. صحيح أن الولايات المتحدة تعهّدت بالقيام بذلك بموجب المعاهدة الأمنية الأمريكية اليابانية، لكن اليابان لا تستطيع أن تجزم ما إذا كانت الولايات المتحدة لتحترم هذا الالتزام وإلى أي مدى، قبل أن يفوت الأوان. مع وضع هذه الحسابات في الاعتبار، يسعى الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم إلى تعديل الدستور ليذكر صراحة حق اليابان في الدفاع عن نفسها والاعتراف بقوات الدفاع عن الذات. وحتى رئيس الوزراء الـمُـسالِم فوميو كيشيدا يؤيد التعديل، قائلا إنه سيدفع البرلمان إلى مناقشته. علاوة على ذلك، دعـا بعض اليابانيين، وأبرزهم شينزو آبي، إلى توسيع المعاهدة الأمنية المبرمة بين الولايات المتحدة واليابان لتشمل ترتيبات المشاركة النووية، كما هو الحال داخل حلف شمال الأطلسي.
من منظور دولة تعهّدت قبل أكثر من نصف قرن من الزمن بالامتناع إلى الأبد عن إنتاج أو امتلاك أو استضافة أسلحة نووية، يشكّل هذا اقتراحا مثيرا للجدال الشديد. في سبعينيات القرن العشرين، كان مثل هذا الاقتراح ليثير عاصفة نارية من الانتقادات. لكن برغم أن كيشيدا صرّح بأن حكومته ليس لديها خطط لإعادة النظر في موقف اليابان بشأن الأسلحة النووية، فإن بعض الساسة المنتمين إلى الحزب الديمقراطي الليبرالي متقبلون لمثل هذه المناقشة.
تُـرى إلى أي شيء قد تنتهي هذه المناقشة؟ تتوقف الإجابة إلى حد كبير على التكاليف التي يفرضها العالم على روسيا. فإذا أفلت بوتين من العقاب على عدوانه في أوكرانيا، وحصل على تنازلات دون أن يتكبد ثمنا اقتصاديا باهظا وطويل الأمد، فسوف ينشأ دافع قوي لدى اليابان لاتخاذ تدابير أكثر جذرية لضمان أمنها. ومن هنا فإن التزام الغرب بالعقوبات يحمل تداعيات بالغة الأهمية على استقرار آسيا.
تاكاتوشي إيتو نائب وزير المالية الياباني الأسبق، وهو أستاذ في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا.
الواقع أن حرب أوكرانيا، على الرغم من كونها بعيدة، تشكّل خطرا بالغا على منطقة شرق آسيا. والصين تراقب الصراع -واستجابة الغرب له- عن كثب. إذا تكبدت روسيا ثمنا باهظا لأفعالها، مع استمرار العقوبات (التي فرضتها اليابان أيضا) لفترة كافية لتدمير اقتصادها، فقد يُـفضي هذا إلى إثناء الصين عن اتخاذ تدابير عسكرية ضد تايوان، على الأقل إلى أن تتمكن من ضمان توفير الحماية الكافية لاقتصادها. أما إذا كوفئت روسيا على غزوها، ونجحت في تنصيب حكومة صورية في كييف وتأمين تراجع العقوبات الغربية بسرعة نسبيا، فقد تكتسب الصين المزيد من الجرأة فتزيد من الضغوط التي تمارسها على تايوان، بل وقد تغزو الجزيرة في أقرب فرصة. وإذا فعلت ذلك، فقد تنجر اليابان إلى الصراع، لأن جزر سينكاكو التابعة لها -التي ادّعت الصين السيادة عليها منذ سبعينيات القرن العشرين- تقع على بُـعـد أقل من 140 ميلا عن تايوان. كما أشار رئيس الوزراء السابق شينزو آبي في ديسمبر الماضي، فإن «أي حالة طوارئ في تايوان هي حالة طوارئ في اليابان، وبالتالي فهي حالة طوارئ من منظور التحالف الياباني الأمريكي». لكن رد أمريكا على حرب أوكرانيا أوحى لكثير من اليابانيين بأن هذا التحالف ربما يكون في احتياج إلى تعزيز - وأن اليابان لا ينبغي لها أن تعتمد على الولايات المتحدة وحدها لضمان أمنها. وهذا يعني ضمنا إعادة النظر في بعض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الأمن الياباني- بدءا من الدستور السلمي الذي صيغ تحت إشراف الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك آرثر أثناء احتلال الحلفاء لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، على النحو الذي يضمن أن اليابان لن تشكّل تهديدا للآخرين بعد ذلك أبدا. شددت المادة التاسعة من الدستور على مُـسالَـمة اليابان بعد الحرب: «في تطلع الشعب الياباني بإخلاص إلى السلام الدولي القائم على العدل والنظام، فإنه يتبرأ إلى الأبد من الحرب كحق سيادي للأمة والتهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعليا كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية. وعلى هذا فلن تحتفظ اليابان أبدا بقواتها البرية والبحرية والجوية، فضلا عن أي إمكانات حربية أخرى. ولن يُـعـتَـرَف بحق الدولة في الدخول في أي حرب».
جرى تفسير المادة التاسعة بشكل أكثر تساهلا بعض الشيء أثناء الحرب الكورية، من أجل إعطاء اليابان بعض القدرة على الدفاع عن نفسها. في عام 1954، تم إنشاء قوات برية وبحرية وجوية محدودة، بموجب قانون قوات الدفاع عن الذات الجديد آنذاك.
مع ذلك، يفترض دستور اليابان بشكل أساسي أن التهديدات التي تتعرض لها اليابان ليست كبيرة بالقدر الذي يجعل من الضروري السعي إلى اكتساب قدرة عسكرية كبيرة. كما تنص ديباجته: «نحن، الشعب الياباني، نرغب في السلام الدائم وندرك تمام الإدراك الـمُـثُـل العليا التي تحكم العلاقات الإنسانية، ونحن عازمون على الحفاظ على أمننا ووجودنا، وكلنا ثقة في العدالة وفي إيماننا بشعوب العالَـم الـمُـحِـبة للسلام». (أضيفت تأكيدات أخرى).
بعبارة أخرى، إذا بقيت اليابان منزوعة السلاح، فلن تكون دول أخرى عُـرضة للتهديد من جانبها، ولن تهاجمها أي دولة أخرى. كان كثيرون من جناح اليسار في اليابان يرددون هذا المنطق، بحجة أن نزع السلاح والحياد يشكّلان معادلة للسلام. ولكن كما تُـظـهِـر الحرب في أوكرانيا، فليس كل شعوب العالم -أو على الأقل قادة هذه الشعوب- «مُـحِـبة للسلام». فإلى جانب قصف مناطق مدنية بلا هوادة، أعـلَـن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت مبكر من الصراع أنه وضع القوات النووية الروسية في حالة التأهب القصوى. دفع هذا الإعلان قسما كبيرا من العالَـم إلى حالة من التوتر الشديد، لكنه أصاب وترا عميقا بشكل خاص في اليابان -الدولة الوحيدة التي عانت من هجمات نووية. دأبت اليابان على معارضة وجود أي أسلحة نووية. لكن عددا متزايدا من الدول كان يعمل على تطويرها. حتى أن إحدى هذه الدولة، كوريا الشمالية، كانت تجري اختبارات على الصواريخ بشكل روتيني، وكانت صواريخها تهبط غالبا في بحر اليابان. أوكرانيا ليست عضوا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنذ عام 1994، كانت تفتقر إلى أي رادع نووي خاص بها. علاوة على ذلك، أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه غير مستعد للمخاطرة بالدخول في صِـدام عسكري مباشر مع روسيا، من خلال إنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا على سبيل المثال.
وقد أثارت هذه المخاوف احتمال رفض الولايات المتحدة على نحو مماثل الدفاع عن اليابان، في حال تعرّضت لهجوم من قِـبَـل قوة نووية - سواء كانت روسيا، أو الصين، أو كوريا الشمالية. صحيح أن الولايات المتحدة تعهّدت بالقيام بذلك بموجب المعاهدة الأمنية الأمريكية اليابانية، لكن اليابان لا تستطيع أن تجزم ما إذا كانت الولايات المتحدة لتحترم هذا الالتزام وإلى أي مدى، قبل أن يفوت الأوان. مع وضع هذه الحسابات في الاعتبار، يسعى الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم إلى تعديل الدستور ليذكر صراحة حق اليابان في الدفاع عن نفسها والاعتراف بقوات الدفاع عن الذات. وحتى رئيس الوزراء الـمُـسالِم فوميو كيشيدا يؤيد التعديل، قائلا إنه سيدفع البرلمان إلى مناقشته. علاوة على ذلك، دعـا بعض اليابانيين، وأبرزهم شينزو آبي، إلى توسيع المعاهدة الأمنية المبرمة بين الولايات المتحدة واليابان لتشمل ترتيبات المشاركة النووية، كما هو الحال داخل حلف شمال الأطلسي.
من منظور دولة تعهّدت قبل أكثر من نصف قرن من الزمن بالامتناع إلى الأبد عن إنتاج أو امتلاك أو استضافة أسلحة نووية، يشكّل هذا اقتراحا مثيرا للجدال الشديد. في سبعينيات القرن العشرين، كان مثل هذا الاقتراح ليثير عاصفة نارية من الانتقادات. لكن برغم أن كيشيدا صرّح بأن حكومته ليس لديها خطط لإعادة النظر في موقف اليابان بشأن الأسلحة النووية، فإن بعض الساسة المنتمين إلى الحزب الديمقراطي الليبرالي متقبلون لمثل هذه المناقشة.
تُـرى إلى أي شيء قد تنتهي هذه المناقشة؟ تتوقف الإجابة إلى حد كبير على التكاليف التي يفرضها العالم على روسيا. فإذا أفلت بوتين من العقاب على عدوانه في أوكرانيا، وحصل على تنازلات دون أن يتكبد ثمنا اقتصاديا باهظا وطويل الأمد، فسوف ينشأ دافع قوي لدى اليابان لاتخاذ تدابير أكثر جذرية لضمان أمنها. ومن هنا فإن التزام الغرب بالعقوبات يحمل تداعيات بالغة الأهمية على استقرار آسيا.
تاكاتوشي إيتو نائب وزير المالية الياباني الأسبق، وهو أستاذ في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا.