يرتكز التقدم المدني والتطور الحضاري على التعليم عنصرا رئيسا لبناء وعي تراكمي بأسباب الحضارة وتأسيس قاعدة فكرية ثقافية قادرة على النقد والتحليل وتصحيح مسارات التنمية متى ما تبدى ميلها أو جنوحها عن المأمول من أهدافها. ولعلّ التعليم اليوم في العالم أجمع يواجه تحديات كثيرة، حيث السعي للموازنة بين القيم التعليمية والكم المعرفي في هذا العالم المفتوح على مصادر هائلة للعلم والمعرفة.

وفي خضّم كل ذلك يعيش عالمنا العربي حالة من عدم استقرار المناهج وأساليب التدريس، إضافة لعدم قدرتها على خلق الحافز للتعلم والتشويق للبحث والمعرفة.

نلمس ذلك من شكاوى الأهل الدائمة من عدم قدرة المناهج التربوية على خلق محفزات التعلم لدى الأطفال في المرحلة الأولى على وجه الخصوص، ثم عدم إشباعها حاجة المتعلم من المعرفة والخبرات في المرحلة الجامعية لاحقا بشكل أشمل وأعم.

وهذه مشكلة حقيقية تبدأ وتتبدى فعليا من ممارسة المدارس والأهل قسوةً خفيّةً على طفل المدرسة في المرحلة الأولى، حيث يعتمد اليوم الدراسي على كم من الأعباء الدراسية الكميّة التي لا تزيد إلا نفوره من المناهج ولا تؤكد إلا بعدها عن حاجاته وفضوله المعرفي والحركي.

نرى ونسمع ونتأمل جميعا ذلك يوميا من خلال مشاهدات قريبة، وممارسات دورية، ولا يتطلب الأمر كبير عناء لاستدراك أننا نساهم جميعا في إقصاء هؤلاء الأطفال عن محفزات الفضول المعرفي والنشاط السمعي البصري والحركي.

نتأمل ذلك ونحن نتلمّس قلقهم اليومي وخوفهم الدوري لا من عدم تمكنهم من ابتكار فكرة جديدة، أو تعلم خبرة عملية، بل نلمسه مع هلع الطفل من عدم إتمام الواجب الكمي، أو إنهاء المتطلب التلقيني؛ذلك العبء الذي يعيش الطفل قلقه اليومي ويؤدي الوالدان تبعاته ومهامه، فلا يبقى من ترسباته في نفس الطفل إلا الخوف والقلق، ومع كل ذلك هل ندرك نحن ما يعيشه الأطفال من صراعات وتحديات؟

مثل هذه القسوة الخفية اليومية لا ينتج عنها رغم كل مؤشرات ذكاء الأطفال قبل المدرسة إلا أحد نموذجين:

الأول: ذكي متأمل يميل للتحليل والنقاش تخضعه هذه القسوة لاحتمال التدجين والتلقين، فيأبى عليه عقله ذلك، وتنفرُ نباهتُه من شَرَكِ الروتين بكميّاته المُمِلة فيركنُ للعناد وسيلةً لرفض ما لم يُقنعه من وسائط وما لم يلمس روحَه من أنشطةٍ صفيّة مملة.

الثاني: مُجِتهدٌ يخشى العقاب، ويؤثر السلامة في فضاء الطاعة، فيجمع ما تيسّر وما لم يتيسّر من واجبات يومية تنهك روحَه، وترهق جسدَه، ولا يجدي معها أيُّ تكريم أو فوز عابر (يسعد الأهل ولا يسعد الطفل) في أن يشعل جذوةَ الحماس لدية أو أن يوقد قبسَ الرغبة في التعلم أو الابتكار.

وبين الأول والثاني نجد مساحةً عريضة من النسخ المتشابهة لا مع هؤلاء ولا مع أولئك، يشعرون بضيق من تحملهم عناء الذهاب للمدرسة ثم الإكراه على التحول لآلة من التلقي والاسترجاع سواء عادت بثمر أو خشاش.

كيف يمكن لنا جميعا – ونحن نعي وندرك – القبول بهذه القسوة الخفية التي نرضخ تحت وطأتها جميعا طائعين؟!

هذا ونحن نعيش هذه الألفية من العالم المفتوح والتبادل المعرفي والذكاء الرقمي، بل هذا ومعظم أولياء الأمور يدركون جيدا مغبَّة هذا الواقع الذي نعيش مع كل تحديات المرحلة وواقعها الذي يتطلب سعيا حثيثا لابتكار وسائل إمتاع، ووسائط ذكية تحفز إمكانات المتعلم وتحرك طاقاته وتبعث المكنون من مواهبه وخبراته.

لا بد من سعي جماعي لتسيير عجلة التعليم جهة حبِّ العلم أولا، ثم السعي لزرع الحافز قبل الهدف والعناية بالعقل قبل التلقين، حينها فقط يمكننا أن نعوّل على الوعي لا الكم المعلوماتي، وعلى الإبداع لا على التشابه.

رهان التعلم ليس بالأمر الهيّن في هذا العصر، ولا ينبغي أن يكون أمرا هيّنا، بل لا بد أن يكون في صدارة أولويات حكومة تراهن على وعي شبابها وعلى طاقات أبنائها سبيلا لبناء مستقبل نضمن معه أمانا فكريا واستقرارا اجتماعيا واقتصاديا مهما تنوعت التحديات وتكاثرت العقبات.

لا بد من حراك جاد نراجع خلاله ممارساتنا في تطبيقنا للمناهج وليس المناهج بحد ذاتها، كما نراجع استنزافنا الدائم لطاقات أطفالنا ومدرسيهم على حد سواء في سباق المناهج وإكمالها أيا كانت النتيجة، ولا بأس أن يمر العام دون أن ننهي مناهجنا كميّا إن ضمنّا إذكاء جذوة التعلم في عقول أطفالنا لمواسم قادمة من المعرفة لا التلقين، ومن الخبرات لا التدجين.

لن تغضب المناهج إن لم تَكْمُل عددا، لكننا سنعيش حسراتٍ تترى على أجيال ساهمنا في قتل روحها التواقة للتعلم وسعيها المحب للعلم، ولنعترف أننا أُخذنا على حين غفلة، فراجعنا غفلتنا واستعدنا صحوتنا ولو بعد حين.

• حصة البادي شاعرة وأكاديمية عمانية