دأب المؤرخون أزمنةً متطاولة على تسجيل سِيَر الخاصة وأعمالهم؛ لاسيما.. السياسيين، وما يقومون به من معارك؛ بانتصاراتها وهزائمها، ومن فتوحات؛ باتفاقاتها وتنازلاتها، في حين.. لم يلتفت قلم المؤرخ لتفاعلات الاجتماع البشري العام؛ إلا قليلاً. حتى جاء العصر الحديث، فظهرت دعوات تنادي بأهمية كتابة حوادث الناس؛ بغض النظر عن منزلتهم، وحجم الحدث الذي صدر عنهم، فلربما حدث زهيد في أعيننا؛ أصبح شأنه خطيراً في الحياة.
هذا بالنسبة للبشر.. أما التدوين الاجتماعي عن الحيوانات والنباتات فهي أقل شأناً في التفات المؤرخين إليها، ولكنها لم تكن غائبة بالمرة عن السجل المعرفي، فقد حُكِيَت عنها قصص وحِيْكت حولها أساطير، ولها حضورها في النصوص الدينية؛ باعتبارها من دلائل الإيمان، ومحلّاً للموعظة والامتنان، وقد تغنى الشعراء بأنواع منها. المقال.. يرصد شيئاً من البُعد الاجتماعي الذي أدركتُه لشجرة العِسْبق.
ورد في «الموسوعة العمانية» وصف للعِسْبق بأنه: (شجيرة كثيفة، كثيرة التفرع. يصل ارتفاعها إلى متر تقريباً، ويصل انتشار فروعها إلى 1,5م تقريباً، تنمو في المناطق الجافة من العالم كجنوب إيران واليمن، وتوجد في عمان غالباً في المنحدرات الجبلية شديدة الانحدار، وفي المسطحات الصخرية، وفي المناطق السهلية والأودية والحصوية والجافة وشبه الجافة... سيقان العِسْبق أسطوانية قائمة، وتتفرع قرب قاعدته، وبها عصارة لبنية، وأوراقه صغيرة متساقطة، وأزهاره توجد في تجمعات ثلاثية)، وورد فيها: (حطب العِسْبق الميت.. مصدر من مصادر دخل بعض الأسر؛ إذ تجمعه من الجبال والمنحدرات الصخرية والأودية، وتبيعه في سوقَي مسقط ومطرح. ويوجد أناس امتهنوا جمعه وتصديره لمصانع الفخار كما في بَهلا. وفي حالة عدم وجود شجيرات ميتة يقوم الرعاة وغيرهم بفلق العِسْبق من منتصفه بحصاة، ويكسرونه ويتركونه حتى يجف، ثم يجمعونه للبيع. وكان مربو الماشية من سكان الجبال والأودية يستعملون العِسْبق الميّت في سقف بيوتهم المبنية من الحجارة والطين، وذلك برصّ شجيراته اليابسة في طبقات انسيابية تحدّ من تسرب المياه. ويوقد بحطبه لحرق أواني الفخار، ويطبخ به؛ خاصةً.. الخبز العماني، لشعلته الكبيرة ودخانه القليل وخموده البطيء).
لم تختص عمان بنمو العِسْبق فيها؛ فهو يوجد في غيرها، لكن فيما يبدو أن اسم «العِسْبق» عماني، وظل حبيساً فيها، ولعله لهذا السبب لم تكتب عنه المعاجم العربية إلا قليلاً، وفي وقت متأخر، لعدم شهرته عند أصحابها، وربما كتبت عن شجرته باسم آخر، فـ«لسان العرب» لابن منظور(ت:711هـ) اقتصر على تعريفه بأنه: (شجر مُرّ الطعم)، و«القاموس المحيط» للفيروزآبادي (ت:817هـ) بأنه: (شجر مُرّ، تداوى بها الجراحات). وندر ذكره في الشعر، وممن ذكره الشاعر العماني أبوبكر ابن دريد (ت:321هـ)؛ وهذا يؤكد عمانية تسميته:
وَمَا الشَّوْبُ مَعَ الذَّوْبِ وَمَا الشَّرْيُ مَعَ العِسْبِقْ
وقد قام العمانيون بتصريفه، فاشتقوا منه الفعل «عَسْبَق»؛ فقالوا: (تَعَسْبَق فلان). بمعنى.. تداخلت عليه الأمور، كما تتداخل أعواد العِسْبق.
ويشيء وجود العِسْبق في عمان بأنها تعاني من الجفاف منذ القدم. ولأن الإنسان ابن بيئته؛ فهو يستعمل ما يجد من مواد ونبات، فكان للعِسْبق قيمته لدى العماني، فاستعمله في سقف عريشه وطهي طعامه وعلاج بعض أدوائه، وتناول العسل الذي يرعى النحل زهره.
العِسْبق.. أول شجر البوادي وقعت عليه عيني، بل الوحيد من أشجارها الذي عايشته عشرين سنة؛ هي الأولى من عمري. فقد كان الوقود الأهم لحرق الأواني الفخارية، ونحن عائلة احترفت صناعة الفخار؛ وكان منزلنا مطابقاً للمصنع، والذي نسميه «الصنعة»، وقد عايشت كثيراً من العلاقات الاجتماعية التي تدور بين العاملين فيه والمرتادين له، [صنعة حياة، جريد عُمان]. المقال.. يرصد جانباً مما يدور حول العِسْبق، والذي أسميه «الذهب الأخضر»؛ مقارنة بـ«الذهب الأسود»، لأهمية وقوده وطاقة احتراقه الكبيرة.
الأواني الفخارية.. تُحرق في فرن كبير نسميه «المهبة»، ومما يستعمل لحرقها العِسْبق. و«الحرقة» -عملية الحرق مرة واحدة- يستغرق تجهيزها بالأواني عدة أسابيع وحرقها عدة أيام. ويبدأ الحرق بعد أن يكتمل صف الأواني في المهبة، حيث يبدأ بالتدرج بنار خفيفة تسمى «نار لينة»، وقودها جذوع السمر والسدر، ثم جذوع النخل، تهيئةً للأواني حتى لا تفجأها نار العِسْبق القوية فتشققها، والتي تستمر حوالي أربعة أيام، تبدأ بنار حمراء، وتنتهي بلهيب أزرق من شدته، مروراً بلهب برتقالي؛ معظم مدة الحرق، وتبلغ الحرارة في أوجها حوالي 1200مْ. ولآبائنا خبرة دقيقة في موازنة الحرارة؛ رفعاً وخفضاً، يسمونها «كيمياء»، وما أحراها بهذا الاسم، فالمهبة.. أشبه بدورق ضخم يتفاعل فيه عنصرا الفخار والنار وفق معادلة حساسة، لا يتحكم فيها إلا الحاذق في الصنعة.
العِسْبق.. صديق للبيئة، والأثر السلبي لدخانه قليل، ورائحته هادئة لا تزكم الأنوف، ووقت الحرق يتجمع الأصدقاء، وأكثر تجمعهم ليلاً، فيقضون معظمه يسمرون وبصحبتهم التمر والقهوة، ومشروب «السكر الأحمر» وما يحضر من بقوليات؛ شتاءً، أو مشروب «الحار بار» -يصنع بتخليل التمر والليمون عدة أيام- وما يجود من فواكه؛ صيفاً. وكان السَمَرُ يحلو بالأقاصيص وذكر حوادث الدنيا وتبادل الطرائف. وكنت أحرص على تلقيم المهبة لأجل هذا السَمَر الجميل؛ إن كان دوري ليلاً، وإن كان نهاراً استغللت الوقت في القراءة. ومن لطائف أيام الحرق؛ أن القاضي محمد بن علي الشرياني(ت:1997م)؛ وهو شاعر حسن المعشر، يؤنسنا نحن الفتية بنكته اللطيفة، جاء ذات يوم والحرق في أوجه؛ فابتدرني قائلاً: اللهم صلِ على محمد. فأجبته ضاحكاً: تقصد مَن بمحمد؛ أنت أو النبي؟ فقال: اللهم صلِ على خميس كما صليت على محمد.
العِسْبق.. يجلب من سفوح الجبال، وقد أدركته يُحمل على ظهور الحمير، كل يوم «عكمة»، والعكمة.. ثلاثة أوقار، والوقر.. حزمة كبيرة بقامة الإنسان تقريباً، يربط بثلاثة أحزمة؛ في الوسط وقرب الطرفين، والحزام يسمى «وصا»، يتخذ من عراجين النخل الطرية، بعد أن تشقق طولياً على هيئة حبال، ثم تدق، وتخل في الماء، حتى تكتسب المرونة والقوة. ويُجمع العِسْبق جافاً، وإن كان أخضر كُسر عرقه وتُرك حتى يجف، وتُصفّ أوقار العِسْبق المجلوبة إلى المصنع فوق بعضها في مراح بجوار المهبة، ليكون في متناول يد الملقِّم. وكثيراً ما كنا نلعب نحن الأطفال فيه، ولا نقف حتى نفاجأ بآبائنا ينتهروننا عن اللعب فيه. والعِسْبق.. كله نافع، فما يخلّفه من فتات يُتخذ صابوناً، ليزيل الدهون عن الآنية، ويضفي عليها رائحة زكية، فكانت النساء تجمعه عقب الحرق مباشرة.
كان دخل احتطاب العِسْبق مجزياً مالياً، ففي السبعينات الميلادية يتقاضى الحطّاب عن العكمة ثلاثة ريالات يومياً، بواقع 90 ريالاً شهرياً. وقد تحوّل أحد الحطّابين من استخدام الحمار إلى السيارة، وظل دخله ثابتاً، فهو لا يجلب للمصنع أكثر من 30 عكمة كل شهر؛ القدر الذي يحتاجه المصنع.
ولأن بَهلا بلد العراقة؛ كان عليها أن تدفع ضريبتها من الأسطرة، [تقول أساطير بَهلا، جريدة عُمان]، لقد كان البعض يعتقد بأن حاطب العِسْبق تساعده السحرة في جمعه وتحميله، فحسب معتقدهم.. لكبر حجم الأوقار لا يتأتى له جمعها في وقت وجيز، حيث كان يحضرها من «السَّيْح» باكراً، كما لا يتصور أن يحمّلها وحده على ظهر الحمار، فلابد أن السحرة تساعده. والواقع.. أن العِسْبق اليابس سهل الجمع والحمل؛ قد يجمعه الحطّاب في دقائق؛ خاصةً.. إن كانت أشجاره متقاربة، كما أنه صديق لصاحبه فهو بدون أوراق وشوك، وبموازنة شدّ الحبال على ظهر الحمار؛ يصبح رفع الوقر سهلاً.
وللعِسْبق كذلك غرضه التأديبي، ولا أقول التربوي، فقد كان آباؤنا يهددوننا بالضرب بأعواده الطرية، فهي لقوتها أشبه بالأسلاك المعدنية، ولولا أن الرحمة والمحبة خالطت قلوبهم؛ لنالنا منه ما لا نتحمله، فكنا نهاب التهديد به، ومع هذا لا يكاد أحدنا سَلِم من أسواطه اللاذعة ولو مرة واحدة.
• خميس العدوي مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب "السياسة بالدين".
هذا بالنسبة للبشر.. أما التدوين الاجتماعي عن الحيوانات والنباتات فهي أقل شأناً في التفات المؤرخين إليها، ولكنها لم تكن غائبة بالمرة عن السجل المعرفي، فقد حُكِيَت عنها قصص وحِيْكت حولها أساطير، ولها حضورها في النصوص الدينية؛ باعتبارها من دلائل الإيمان، ومحلّاً للموعظة والامتنان، وقد تغنى الشعراء بأنواع منها. المقال.. يرصد شيئاً من البُعد الاجتماعي الذي أدركتُه لشجرة العِسْبق.
ورد في «الموسوعة العمانية» وصف للعِسْبق بأنه: (شجيرة كثيفة، كثيرة التفرع. يصل ارتفاعها إلى متر تقريباً، ويصل انتشار فروعها إلى 1,5م تقريباً، تنمو في المناطق الجافة من العالم كجنوب إيران واليمن، وتوجد في عمان غالباً في المنحدرات الجبلية شديدة الانحدار، وفي المسطحات الصخرية، وفي المناطق السهلية والأودية والحصوية والجافة وشبه الجافة... سيقان العِسْبق أسطوانية قائمة، وتتفرع قرب قاعدته، وبها عصارة لبنية، وأوراقه صغيرة متساقطة، وأزهاره توجد في تجمعات ثلاثية)، وورد فيها: (حطب العِسْبق الميت.. مصدر من مصادر دخل بعض الأسر؛ إذ تجمعه من الجبال والمنحدرات الصخرية والأودية، وتبيعه في سوقَي مسقط ومطرح. ويوجد أناس امتهنوا جمعه وتصديره لمصانع الفخار كما في بَهلا. وفي حالة عدم وجود شجيرات ميتة يقوم الرعاة وغيرهم بفلق العِسْبق من منتصفه بحصاة، ويكسرونه ويتركونه حتى يجف، ثم يجمعونه للبيع. وكان مربو الماشية من سكان الجبال والأودية يستعملون العِسْبق الميّت في سقف بيوتهم المبنية من الحجارة والطين، وذلك برصّ شجيراته اليابسة في طبقات انسيابية تحدّ من تسرب المياه. ويوقد بحطبه لحرق أواني الفخار، ويطبخ به؛ خاصةً.. الخبز العماني، لشعلته الكبيرة ودخانه القليل وخموده البطيء).
لم تختص عمان بنمو العِسْبق فيها؛ فهو يوجد في غيرها، لكن فيما يبدو أن اسم «العِسْبق» عماني، وظل حبيساً فيها، ولعله لهذا السبب لم تكتب عنه المعاجم العربية إلا قليلاً، وفي وقت متأخر، لعدم شهرته عند أصحابها، وربما كتبت عن شجرته باسم آخر، فـ«لسان العرب» لابن منظور(ت:711هـ) اقتصر على تعريفه بأنه: (شجر مُرّ الطعم)، و«القاموس المحيط» للفيروزآبادي (ت:817هـ) بأنه: (شجر مُرّ، تداوى بها الجراحات). وندر ذكره في الشعر، وممن ذكره الشاعر العماني أبوبكر ابن دريد (ت:321هـ)؛ وهذا يؤكد عمانية تسميته:
وَمَا الشَّوْبُ مَعَ الذَّوْبِ وَمَا الشَّرْيُ مَعَ العِسْبِقْ
وقد قام العمانيون بتصريفه، فاشتقوا منه الفعل «عَسْبَق»؛ فقالوا: (تَعَسْبَق فلان). بمعنى.. تداخلت عليه الأمور، كما تتداخل أعواد العِسْبق.
ويشيء وجود العِسْبق في عمان بأنها تعاني من الجفاف منذ القدم. ولأن الإنسان ابن بيئته؛ فهو يستعمل ما يجد من مواد ونبات، فكان للعِسْبق قيمته لدى العماني، فاستعمله في سقف عريشه وطهي طعامه وعلاج بعض أدوائه، وتناول العسل الذي يرعى النحل زهره.
العِسْبق.. أول شجر البوادي وقعت عليه عيني، بل الوحيد من أشجارها الذي عايشته عشرين سنة؛ هي الأولى من عمري. فقد كان الوقود الأهم لحرق الأواني الفخارية، ونحن عائلة احترفت صناعة الفخار؛ وكان منزلنا مطابقاً للمصنع، والذي نسميه «الصنعة»، وقد عايشت كثيراً من العلاقات الاجتماعية التي تدور بين العاملين فيه والمرتادين له، [صنعة حياة، جريد عُمان]. المقال.. يرصد جانباً مما يدور حول العِسْبق، والذي أسميه «الذهب الأخضر»؛ مقارنة بـ«الذهب الأسود»، لأهمية وقوده وطاقة احتراقه الكبيرة.
الأواني الفخارية.. تُحرق في فرن كبير نسميه «المهبة»، ومما يستعمل لحرقها العِسْبق. و«الحرقة» -عملية الحرق مرة واحدة- يستغرق تجهيزها بالأواني عدة أسابيع وحرقها عدة أيام. ويبدأ الحرق بعد أن يكتمل صف الأواني في المهبة، حيث يبدأ بالتدرج بنار خفيفة تسمى «نار لينة»، وقودها جذوع السمر والسدر، ثم جذوع النخل، تهيئةً للأواني حتى لا تفجأها نار العِسْبق القوية فتشققها، والتي تستمر حوالي أربعة أيام، تبدأ بنار حمراء، وتنتهي بلهيب أزرق من شدته، مروراً بلهب برتقالي؛ معظم مدة الحرق، وتبلغ الحرارة في أوجها حوالي 1200مْ. ولآبائنا خبرة دقيقة في موازنة الحرارة؛ رفعاً وخفضاً، يسمونها «كيمياء»، وما أحراها بهذا الاسم، فالمهبة.. أشبه بدورق ضخم يتفاعل فيه عنصرا الفخار والنار وفق معادلة حساسة، لا يتحكم فيها إلا الحاذق في الصنعة.
العِسْبق.. صديق للبيئة، والأثر السلبي لدخانه قليل، ورائحته هادئة لا تزكم الأنوف، ووقت الحرق يتجمع الأصدقاء، وأكثر تجمعهم ليلاً، فيقضون معظمه يسمرون وبصحبتهم التمر والقهوة، ومشروب «السكر الأحمر» وما يحضر من بقوليات؛ شتاءً، أو مشروب «الحار بار» -يصنع بتخليل التمر والليمون عدة أيام- وما يجود من فواكه؛ صيفاً. وكان السَمَرُ يحلو بالأقاصيص وذكر حوادث الدنيا وتبادل الطرائف. وكنت أحرص على تلقيم المهبة لأجل هذا السَمَر الجميل؛ إن كان دوري ليلاً، وإن كان نهاراً استغللت الوقت في القراءة. ومن لطائف أيام الحرق؛ أن القاضي محمد بن علي الشرياني(ت:1997م)؛ وهو شاعر حسن المعشر، يؤنسنا نحن الفتية بنكته اللطيفة، جاء ذات يوم والحرق في أوجه؛ فابتدرني قائلاً: اللهم صلِ على محمد. فأجبته ضاحكاً: تقصد مَن بمحمد؛ أنت أو النبي؟ فقال: اللهم صلِ على خميس كما صليت على محمد.
العِسْبق.. يجلب من سفوح الجبال، وقد أدركته يُحمل على ظهور الحمير، كل يوم «عكمة»، والعكمة.. ثلاثة أوقار، والوقر.. حزمة كبيرة بقامة الإنسان تقريباً، يربط بثلاثة أحزمة؛ في الوسط وقرب الطرفين، والحزام يسمى «وصا»، يتخذ من عراجين النخل الطرية، بعد أن تشقق طولياً على هيئة حبال، ثم تدق، وتخل في الماء، حتى تكتسب المرونة والقوة. ويُجمع العِسْبق جافاً، وإن كان أخضر كُسر عرقه وتُرك حتى يجف، وتُصفّ أوقار العِسْبق المجلوبة إلى المصنع فوق بعضها في مراح بجوار المهبة، ليكون في متناول يد الملقِّم. وكثيراً ما كنا نلعب نحن الأطفال فيه، ولا نقف حتى نفاجأ بآبائنا ينتهروننا عن اللعب فيه. والعِسْبق.. كله نافع، فما يخلّفه من فتات يُتخذ صابوناً، ليزيل الدهون عن الآنية، ويضفي عليها رائحة زكية، فكانت النساء تجمعه عقب الحرق مباشرة.
كان دخل احتطاب العِسْبق مجزياً مالياً، ففي السبعينات الميلادية يتقاضى الحطّاب عن العكمة ثلاثة ريالات يومياً، بواقع 90 ريالاً شهرياً. وقد تحوّل أحد الحطّابين من استخدام الحمار إلى السيارة، وظل دخله ثابتاً، فهو لا يجلب للمصنع أكثر من 30 عكمة كل شهر؛ القدر الذي يحتاجه المصنع.
ولأن بَهلا بلد العراقة؛ كان عليها أن تدفع ضريبتها من الأسطرة، [تقول أساطير بَهلا، جريدة عُمان]، لقد كان البعض يعتقد بأن حاطب العِسْبق تساعده السحرة في جمعه وتحميله، فحسب معتقدهم.. لكبر حجم الأوقار لا يتأتى له جمعها في وقت وجيز، حيث كان يحضرها من «السَّيْح» باكراً، كما لا يتصور أن يحمّلها وحده على ظهر الحمار، فلابد أن السحرة تساعده. والواقع.. أن العِسْبق اليابس سهل الجمع والحمل؛ قد يجمعه الحطّاب في دقائق؛ خاصةً.. إن كانت أشجاره متقاربة، كما أنه صديق لصاحبه فهو بدون أوراق وشوك، وبموازنة شدّ الحبال على ظهر الحمار؛ يصبح رفع الوقر سهلاً.
وللعِسْبق كذلك غرضه التأديبي، ولا أقول التربوي، فقد كان آباؤنا يهددوننا بالضرب بأعواده الطرية، فهي لقوتها أشبه بالأسلاك المعدنية، ولولا أن الرحمة والمحبة خالطت قلوبهم؛ لنالنا منه ما لا نتحمله، فكنا نهاب التهديد به، ومع هذا لا يكاد أحدنا سَلِم من أسواطه اللاذعة ولو مرة واحدة.
• خميس العدوي مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب "السياسة بالدين".