يشكل الوعي ماهية الإنسان، به يتميز عن عالم الأشياء الجامدة الهامدة التي لا يوجد بداخلها شيء بخلاف وجودها المادي؛ وبه يتميز أيضًا عن عالم الحيوان الذي يسلك سبيله بفعل قوى غريزية لا عاقلة، لا تدفعه إلى شيء سوى الصراع من أجل الحياة وحفظ النوع. هذا الوعي الإنساني يتطور عبر التاريخ، ولذلك فإن التطور الذي يحدث في حياة الفرد، بل في حياة الأمم والشعوب هو نتاج تطور الوعي؛ ولهذا قال هيجل مقولته الشهيرة: «إن العالم لا يتغير بذاته، ولكن الوعي هو الذي يغير العالم». غير أن الوعي يتجلى على أنحاء شتى، بحيث نستطيع أن نتحدث عن الوعي الديني والأخلاقي والعلمي والجمالي والتاريخي، وهي أشكال من الوعي لا بد أن يكون هناك تجانس بينها في تشكيل الوعي العام الذي يشكل بدوره الهوية في مرحلة تاريخية ما. ولقد سبق أن كتبت في هذه الجريدة الرصينة مقالًا عن «أهمية الوعي الديني»، ولكني في هذا المقال أريد أن أخصص كلامي على مفهوم «الوعي الأخلاقي».

ولا شك في أن هناك ارتباطًا بين الوعي الديني والوعي الأخلاقي، ولكن هذا لا يرجع إلى أن الدين- أي دين- يحثنا على مكارم الأخلاق ويحرِّم الرذائل: كالسرقة والكذب وإلحاق الأذى بالآخرين على سبيل المثال؛ ذلك أن هذه المبادئ الأخلاقية الدينية تظل مبادئ عامة لا تستقر في القلب والإيمان، ومن ثم في السلوك، ما لم يُعمِل المرء العقل فيها بحيث تتشكل لديه قناعات بها، تنشأ أولًا في الوعي ثم تصبح إيمانًا. ومن هنا يمكن أن نتفهم قول سقراط: «الفضيلة علم والرذيلة جهل»، بمعنى أن من عرف حقيقة الخير اتبعه، ومن عرف حقيقة الشر اجتنبه. ولكن هذا القول قد أثار اعتراض الفلاسفة من المحدثين والمعاصرين: فها هو ذا شوبنهاور يرى أن الفضيلة ليست نتاجًا للمعرفة، وإنما هي نتاج لإرادة المرء، أي لميوله ونزوعه. وها هو ذا سارتر يرى أن ليست هناك قواعد يمكن أن نسير وفقًا لها في المواقف الأخلاقية المختلفة، إذ يكون علينا دائمًا أن نقرر بأنفسنا التزامنا الأخلاقي. ولذلك فإنه يذكر في كتابه «الوجودية فلسفة إنسانية» أن أحد الشباب قد سأله يومًا عما ينبغي أن يفعل: أبوه قد جنده الألمان لصالحهم في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولذلك فإن لديه رغبة قوية في الانتقام من الألمان والتطوع في المقاومة الفرنسية؛ ولكن أمه مريضة في الوقت ذاته، وهي تحتاج إلى أن يكون ابنها بقربها! أجابه سارتر: لن تجد قاعدة أخلاقية يمكن أن تعينك هنا؛ لو لجأت إلى الإنجيل سيقول لك: أحسن إلى القريب، ولكن من هو القريب هنا: هل هو الوطن الذي ينبغي أن تدافع عنه أم الأم التي ينبغي أن ترعاها؟ عليك أن تقرر التزامك الأخلاقي بنفسك.

ومع ذلك، فإني لا أرى في هذا ما يتعارض مع مفهوم «الوعي الأخلاقي» باعتباره وعيًا بالقيم الأخلاقية العليا مثل: العدالة والصدق والأمانة والوفاء والكرم، إلخ. نعم هناك مواقف معينة لن يجد المرء إزاءها قواعدَ جاهزة يلتزم بها في تحديد موقفه الأخلاقي؛ ولكن هذا ذاته هو ما يقتضي من المرء أن يستفتي عقله (ومن ثم قلبه) كي يتخذ قرارًا بشأنها، أعني: أن يُعمِل عقله في تأمل المعاني الأخلاقية وتأويلها. والواقع أن هذه المهمة الأخيرة هي المهمة الحقيقية لفلسفة الأخلاق التي تسعى إلى استجلاء المعاني الأخلاقية، ليُعمِل فيها المرء عقله ويتخذ القرار المناسب في كل حالة.

وعلى هذا، يمكن القول بأن «الوعي الأخلاقي» يكون دائمًا في مواجهة ما يُسمَّى «العَمَى الأخلاقي». فما هو «العمَى الأخلاقي؟ إنه ببساطة نقص الوعي أو المعرفة إلى الحد الذي لا يكون فيه المرء قادرًا على أن يميز معنى أو ماهية المبدأ الأخلاقي؛ فيخطئ في تطبيقه على حياته أو واقعه المعيش. لنتأمل مبدأ الكرم. هذا المبدأ الأخلاقي يخطئ بعض شيوخ القبائل الإفريقية البدائية في تطبيقه؛ إذ اعتاد شيخ القبيلة أن يقدم زوجته لضيفه، ظانًا أنه يعبر بذلك عن أقصى درجات الكرم. مثل هذا الشخص مصاب بالعَمَى الأخلاقي؛ لأنه لا يدرك أن تحقيق مبدأ الكرم بذلك النحو يعني أنه يستخدم زوجته كأداة أو وسيلة لا تختلف عن الوليمة التي يعدها لضيفه أو صحن الفاكهة الذي يقدمه له. وبذلك فإن هذا الشخص لا يُدرك المبدأ الأخلاقي الأعم، وهو المبدأ الذي حدده كانط بقوله «عامل الإنسانية ممثلةً في شخصك أو في أي شخص آخر، باعتبارها غايةً في ذاتها، ولا تعاملها أبدًا كمجرد وسيلة». وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن أن نضربها على «العمى الأخلاقي» مما لا يتسع له المقام هنا، ولكن مثالًا واحدًا يكفي لشرح المعنى المراد.

وعلى هذا، يمكن القول إن الوعي الأخلاقي هو مهمة ملقاة على عاتقنا من خلال إعمال الفهم في المعاني الأخلاقية، وهي المهمة الملقاة على عاتق الفيلسوف في المقام الأول، الذي يمكن أن يكون هاديًا للمرء دائمًا. وهذه المهمة تعمل في النهاية على تجاوز حالة العَمَى الأخلاقي، أو- على الأقل- تجاوز حالة نقص الوعي وقصوره.

سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»