"لو قُدر لكِ أيتها الأمّ العودة إلى طفولة أبنائكِ الباكرة لإصلاح شيء ما، خدش غائر، كلمة جارحة، ضربة تركتْ أثرا، غياب طويل.. هل كنتِ ستعودين؟"، أخمنُ أنّ أغلب الأمهات فيما لو تلقين هذا السؤال، سيرغبن في العودة بالزمن. ليس لأنّ هنالك ما يصلحنه حقا، قدر أنّهن يعشن خيبة الاقتراب من الصورة المثال للأمّ المُقدسة المُضحية والمتضائلة لأجل الكائن الجديد القادم إلى الحياة، وتحديدا الأمّهات العاملات الطموحات، اللواتي يعشن ردحا من الزمن يرجمن أنفسهن بالشعور بالذنب.

بعد مخاضٍ شاق ستجدُ الأمّ نفسها تُقبل الكائن الهش الذي أوشك قبل سويعات قليلة فقط أن يكون سببا في موتها! ثمّ ستقاسي الأمرين وهي تنتظر بزوغ أسنانه التي لن يتوانَى عن عضِها بها، ستتألم الأمّ في مرّات لاحقة لمجرد أنّه يُتأتئ في الكلام أو يكابد الهزال، ومن مكان غامض سينبتُ رعبٌ عارمٌ لحظة انفصاله التدريجي عنها.

في كتاب إيمان مرسال "كيف تلتئم" عن الأمومة وأشباحها، تحكي عن مشقة أن تقيس الأمّ نفسها بالصورة المُتعارف عليها في المتن العام وهي صورة مُعذِبة، حيث تقيس نفسها بالخبرة العامّة وليس بخبرتها الشخصية والمُغلقة، تقيس نفسها ضمن الجماعة وليس كحالة فردية لها مآزقها وخذلاناتها وحساسيتها.

تدركُ كلّ أمّ منا أنّ تلك المُضغة المكسوة بالعظام واللحم، والتي غادرت جسدها منذ سنوات ستظلُ فخا مؤكدا! إذ لا تبدو الأمومة شيئا واحدا مُسلما به، بل تعتريها مشاعر متناقضة، تحديدا لامرأة طموحة راغبة في تحقيق ذاتها، فتلك الذوات الصغيرة التي تأتي إلى الحياة تقتاتُ عليها، قد تتحول إلى عقبات مُتطلبة، لكي تُضيء وتتوهج.

في فيلم The Lost Daughter، المأخوذ عن رواية إيلينا فيرانتي، يتبدى الحزن الكثيف رغم الرتم البطيء لسير الأحداث، فالفيلم يحفرُ عميقا في طيات البعد النفسي لشخصية الأمّ. هذا الحزن يجعلنا نقترحُ تفسيرات مأساوية لزعزعة الغموض الذي يلفنا منذ الدقائق الأولى. تظهر لنا البطلة ليدا -أوليفيا كولمان- وهي تتصرف بغرابة مُفرطة دون وضوح. تصلُ إلى جزيرة يونانية لتحظى بإجازة هانئة، لكن الهدوء الظاهري تكتنفه عواصف ضارية مع الماضي وقرارته. يبدأ الأمر عندما تلتقي بأمّ شابة بصحبة طفلتها، فترتدُ ليدا إلى تخبط شبابها.

فقلّما تشعرُ الأمهات بالرضا تجاه ما يُحدثنه في الكائن الصغير، وقلّما يتحدثن عمّا يجيشُ بأفئدتهن، ربما ليقينهن الأزلي أنّ التذمر سيعني الاستبعاد من المتن العام الذي يراها - في مهمتها الشاقة هذه - مجبولة لأداء هذا الواجب.

والأكثر رعبا هو اليقين أنّ كل ابتسامة أو نظرة غضب، كل كلمة أو سلوك سيُشكل ذلك الكائن وسيصنع مستقبله، وفي تلك المحاكمة الأبدية تتبدى صنوفٌ لا نهائية من الأمهات.

عندما غامرتْ ليدا تاركة طفلتيها الصغيرتين من أجل طموحها المتوهج، ارتد الأمر عليها كنصلِ خنجر وهي تقترب من الخمسين عاما. حينها تساءلتُ: لماذا يساورها الندم ويُغلفُ وجهها الحزن؟ هل يتمزقُ نسيج الأمومة بسبب الركض وراء الأحلام الشخصية!

يتمزق نسيج الأمومة أحيانا بسبب الجوع والفقر. تذكرتُ النساء العاملات اللواتي قطعن مسافات شاقة تاركات أطفالهن ليعملن مربيات وخادمات للاعتناء بأطفال آخرين. ويحصل أن يقضي بعضهن ما يربو على العقدين من الزمان ومن ثمّ يعدن بعد أن يكون الأبناء قد كبروا، فلا يشعرون بأي عاطفة تجاههن. أعرف قصة حقيقية يُؤلمني مجرد تذكرها.. فقد ظلتْ عواطف العاملة مشدودة لأبناء مخدوميها، فماتت فور عودتها إلى بلدها الأصلي. شعرتْ باغتراب عن أبنائها الحقيقيين الذين لم تُرافق نموهم وضحكهم وبكاءهم ولم تكن جزءا من ذكرياتهم!

تُقدم ليدا على سرقة دمية دون أسباب واضحة في الفيلم، وتشرع في تنظيفها وشراء الملابس لها، ليتكثف إحساسنا بندمها، كأنّ صنيعها مع الدمية هو تكفير عن ذنب غائر في لا وعيها.

وكما تقول إيمان مرسال: إن "أكثر ما يوحدنا كأمهات هو الشعور بالذنب". لم تكن أمهاتنا مثاليات بطبيعة الحال ونحن أيضا لا نستطيع الاقتراب من الصورة النموذجية التي يصنعها الأدب والفن والتاريخ. نيقن أننا سنخدش نسيج الكائن الجديد، وأننا سنزرع أفكارا ونناقضها بأخرى، ولكن في الطبقات الأعمق نأملُ أن تتجلى محبتنا بوضوح.